يكاد يجزم الكثيرون على اختلاف مشاربهم على أن موضوع العدالة الاجتماعية قديم جداً ارتبط بالبدايات الأولى لنشوء المجموعات البشرية وتزامن مع تطور ممتهني حرفة الرعي وبدايات حرث الأرض وتطور مهنة الزرع واستخدام الآلات البسيطة وظهور صانعي هذه الآلات، ومن ثم ظهور التباين والاختلاف بين مجاميع العاملين بسبب نمو بذرات الاستغلال، وحتى بات من الممكن الحديث عن اختلاف حصص المنتج والتمايز.
وربما حدث ذلك بسبب الطبيعة البشرية وتنوع أماكن السكن واختلاف نسب انتاجبة الأرض وطرق الزراعة وكيفية استخدام الأدوات البدائية في الزرع، وظروف تطور اعضاء الانسان البايولوجبة ومنها الدماغ، أو أن يكون للصدفة دورها الداعي في ظهور التباين والاختلاف عند قدامى مجموعات العاملين في حقلي الرعي والزراعة وتميز بعضهم عن البعض من حيث التملك..
وإذا نظرنا الى موضوع العدالة الاجتماعية وتباين نظرة القوى والمجموعات والأفراد لها، فأن هناك تفسيراً يذهب أبعد من ذلك يفسر موضوع العدالة ارتباطاً بالعدل الآلهي الذي سبق ظهور الرسل والأنبياء.
لقد حظي موضوع العدالة الاجتماعية ونشأتها وتأريخها واختلاف المفسرين والنظريات لها، باهتمام كبير، وأفردت لذلك الكثير من الدراسات والبحوث التي تناولتها من جوانبها المختلفة.. ولأهميتها فقد أفردت الأمم المتحدة يوماً كرسته للتذكير والتبشير بقيم ومبادئ العدالة الاجتماعية.
عودة بسيطة للمعجم العربي تخبرنا ان العدالة تعني في ما تعنيه الاستقامة والمساواة، والعادل هو من أعدل الأشياء وأقامها وسواها، وهي ترتبط مباشرة بمناقضتها للجور والظلم، أي أن العادل هو من يضع كل شيء في مكانه وموضعه والمنصف في الحكم.. وهي تعني أيضاً الانصاف والقسط والوسط.
من المهم جدا التفريق والتمييز بين مفهوم العدالة الاجتماعية وبين مفهومي المساواة أو الحرية، فالبرجوازية تعارض العدالة مثلا باعتبارها تحد من التملك وهي من صفات الحرية حسب مزاعمهم.
ولارتباط موضوع العدالة بالإنسان والبشر فأن مواقف البشر منها اختلفت استناداً لمصالح وحاجات الافراد والجماعات منها، ومنذ القدم، واستمر الحال في الأزمنة الحديثة وبعد نشوء الصناعة وتطور التكنيك والعولمة لاحقاً، ونشوء وتطور الاحزاب والمنظمات السياسية، والتمايزات الطبقية في المجتمعات المختلفة قطريا، وعلى صعيد العلاقات الاجتماعية الدولية، ووفقا لحساب طريقة وشكل تقاسم الثروة..
وهذا يوصلنا لفكرة أن موضوع العدالة الاجتماعية لم يكن مطروحاً بقوة في أروقة وبرامج واهتمام الشيوعيين واليساريين فقط، بل كان موضع اهتمام الكثير من القوى والجماعات والأحزاب، وكانت تنظر اليه وتفسره حسب قناعاتها ومصالح المجموعات التي يمثلوها، ولكن نظرة الشيوعيين وفهمهم للعدالة يبقى الأبرز والأكثر واقعية وإنسانية..
مفهوم العدالة تناوله الفكر المصري القديم والكتابات الصينية واليونانية، ودرج كمصطلح كاثوليكي حيث كتب القس الايطالي (لويجي) عن حاجة استعادة الفضيلة القديمة لما يسمى (العدالة العامة) لأرسطو.
وقد استخدمه رواد الفكر الاشتراكي (روبرت أوين- سان سيمون- شارل فيوربيه)، وتطور لاحقا بتفاصيل ووضوح على يد ماركس وانجلس، وتجسدت مضامينه في دعوة البيان الشيوعي لمجتمع عادل.
البرجوازيون والملاك وأحزابهم فسروا موضوع العدالة ارتباطا بفكرة التملك والفوارق بين البشر الذين حسب مزاعهم تضم الأذكياء والمراتب الأخرى، وليس من حق العامل أن يتمتع بحقوق رب العمل، كما أن الليبراليين والأحزاب البرجوازية الصغيرة قد فسروا الموضوع ضمن أطار امكانية التوافق والتعاون بين الطبقات وتأجيل التصادم الطبقي. ويظهر أيضا المفهوم الديني للعدالة الذي يقترب من وجهة النظر الاقطاعية التي تقر بأن الناس قد خلقوا على شكل درجات ومراتب وبالتالي فأن ما يحصلوا عليه من دخل وعدالة لابد أن يخضع لذلك، وهذه النظرة تكرس التفاوت الطبقي بين الأفراد والجماعات..
الجماعات الدينية تقر بأن الله عادل في حكمه وأحكامه، والعدل الإلهي من الصفات الجمالية وأن الله مكتمل الكمال، والتفاوت بين البشر هو اختبار إلهي لهم، ويذهب المسلمون الشيعة أبعد في اعتبارهم العدالة أصلا من اصول الدين الخمسة، ويفسر ذلك باعتبار العدالة من صفات الإله والتي ترتبط بإثبات النبوة ومن ثم الامامة والصلة بين العدل والمعاد والعدالة كموضوع تاريخي تطور لاحقاً ليصبح في تماس مع حقوق البشر وكرامتهم.
لقد ربط الشيوعيون بين مفهوم العدالة الاجتماعية ومقدار ارتباطه بموضوع الانتاج الاجتماعي للخيرات المادية والثروات الضرورية لإشباع حاجات افراد المجتمع، وبشكل أكثر توضيحا فأن ملكية وسائل الانتاج العامة وثروة البلد الاجتماعية هي الشرط الوحيد الواقعي والمقابل لتحقيق مفهوم العدالة الاجتماعية ببعده الطبقي والإنساني.
والعدالة الاجتماعية يفسرها الماركسيون باعتبارها نظاماً اقتصادياً اجتماعياً يهدف الى ازالة الفوارق الاقتصادية الكبيرة بين طبقات المجتمع، ومحاولة اعادة توزيع الدخل القومي او الوطني بين الناس، وتوفير تكافؤ الفرص للجميع، وأيضاً حقوق الانسان ومبدأ المساواة، والحقوق السياسية وفرص التعليم والرعاية الصحية، وبحيث يتمتع أفراد المجتمع بغض النظر عن جنسهم وعرقهم وديانتهم بالعيش فس حياة كريمة..
وإذا كانت الشيوعية بعيدة التحقيق ارتباطاً بظروف المجتمعات فأن الاشتراكية باختلاف وتباين الطرق والوسائل المكتوبة والمتبناة لتحقيقها من قبل الاحزاب الشيوعية واليسارية، تبقى الكثر انسجاما وواقعية لتحقيق وتجسيد مفهوم العدالة الاجتماعية، وعبر مبدأ من كل حسب طاقته، ولكل حسب عمله...
خاض الشيوعيون العراقيون ومعهم دعاة اليسار والمدنية كفاحاً طويلا للتبشير والتثقيف بقيم العدالة الاجتماعية في العراق ومنذ عشرينات القرن الماضي، مكرسين ذلك بتضمين كل خطاباتهم ومواقفهم السياسية ومفردات برامجهم وخططهم، ما يدعو ويجسد مفردات وتفاصيل العدالة، وقد صدقوا في ربطهم لمفهوم العدالة ببعدها الاجتماعي الذي يمس حياة الناس ومعيشتهم، ولم يترددوا في الدعوة لإقامة أنظمة وطنية ديمقراطية وطنية توفر الحد الدنى من متطلبات العدالة الاجتماعية، مع استمرار التثقيف بالهدف السمى وهو تحقيق الاشتراكية في العراق باعتبارها الحل الأمثل والأفضل لتجسيد قيم العدالة الاجتماعية.
ان ابتعاد الشيوعيين العراقيين عن مفهوم ديكتاتورية البروليتاريا باعتبار أن الطبقة العاملة تحرر المجتمع وتحرر نفسها في اقامة دولة العدل الاجتماعية، وتبنيهم لمبدأ التداول السلمي للسلطة، لا يعني بأي حال من الأحوال الوهم بإمكانية تحقيق عدالة اجتماعية ناجزة في ظل حكم احزاب برجوازية ديمقراطية وطنية، بل أن الظروف تحتم اليوم دوام واستمرار النضال وخوض الكفاح الجماهيري وكل اشكال النضال الجبهوية والبرلمانية من أجل كسب الكثير من المؤيدين والمناصرين لفكرة ومفهوم العدالة الاجتماعية، ومحاولة التأثير والتحريض لتحقيق المكتسبات الشعبية الوطنية من حقوق وحريات وضمانات ومستوى عيش كريم وعبر ارغام من بيدهم القرار لتبني ذلك مع استمرار السعي الكبير لتغيير موازين القوى لصالح انصار الحرية والديمقراطية والمدنية، والذين يمكنهم تجسيد بعض مفاهيم العدالة الاجتماعية وعبر سن القوانين والتشريعات التقدمية التي تخدم مصالح الطبقات الكادحة...
المتتبع المنصف للأحداث التي عصفت بالعديد من اقتصاديات البلدان، بعد تفشي عدوى وباء كوفيد 19، وفي طريقة معالجة الحكومات والأنظمة السياسية لنتائج هذه الجائحة، يستطيع أن يلمس بوضوح مدى اللاعدالة والتمييز والغبن، الذي كانت تعاني منه الشعوب في ظل أنظمة صحية متهرئة ومنحازة وطبقية، وأيضا في المعاناة والكلفة الباهظة التي تحملتها القطاعات الشعبية والفقيرة جراء تفشي المرض والوباء، وأيضا في الحلول التي قدمتها الحكومات وانحازت فيها لصالح أصحاب المعامل والمؤسسات الكبيرة والملاكين، في الوقت الذي تركت فيه قطاعات واسعة طريدة للبطالة والفقر وتقليص الخدمات والمساعدات.
لقد سعى الشيوعيون العراقيون الى أن تتضمن كل برامج الاتفاقات والتفاهمات وأطر التنسيق والتحالفات السياسية، التي اشتركوا بها مع القوى الأخرى، حيزا أساسيا لموضوع العدالة في بعدها الاجتماعي، وكان هذا واضحا في تفاصيل آخر تحالف سياسي انتخابي عقدوه مع عدد من القوى، حيث تضمن برنامج تحالف سائرون الكثير من التوجهات والخطط لإنصاف الناس واعمار البلد، ومحاولة تجسيد البرنامج بعضاً من مفردات العدالة الاجتماعية، وعبر محاولة انتزاعها من القوى المتشبثة بالسلطة والنفوذ والتملك، ولكن هذه التوجهات والخطط لم تتجسد عمليا في الواقع، بسبب التحرك بأطر وسياسات بعيدة عن التي رسمت في البرنامج، والتي أدت في النهاية عمليا الى تعطيل تحقيق منجز ملموس في ما يخص العدالة الإجتماعية، والى توقف العمل بالبرنامج وانتهاء التحالف عملياً.
أفرزت انتفاضة تشرين الباسلة أحداثاً وتطورات جديدة في الواقع السياسي العراقي، وكانت بحق ثورة مطلبية جبارة في تبنيها لمواقف سياسية وطبقية تخص التركيبة البنيوية للنظام الاجتماعي القائم على المحاصصة، ووضوح الشعارات بضرورة تغييره والإتيان بنظام مواطنة مدني عادل...
الانتفاضة ارتبطت عضوياً بموضوع العدالة الاجتماعية، وخصوصاً في كيفية أن تجذر التناقضات والتمايزات والفروق الطبقية في المجتمع، تؤدي حتميا لانفجارات واحتجاجات وانتفاضات.
وهي كانت بحق الوريث الشرعي لكل صرخات المظلومين العراقيين واحتجاجاتهم، والتي امتدت ودون توقف لسنوات طويلة اعقبت عام 2003...
ويصبح ملحاً اليوم أمام الشيوعيين العراقيين تحديد أولويات المواقف السياسية العملية والديناميكية وارتباطاً مع الانتفاضة وكل الخيرين والمناصرين لها، والتي من الممكن أن تجسد عمليا بعضاً من تفاصيل موضوع العدالة الاجتماعية، وعبر تبني واقتراح القوانين والتشريعات والحلول السياسية الآنية الكفيلة باستفادة القطاعات الشعبية الواسعة وإعادة الدورة الاقتصادية وإنهاء معاناة العاطلين...
الجدل الذي يدور اليوم حول موضوع الانتخابات البرلمانية المبكرة وما يتوقع وينتظر أن تفرزه من اصطفافات طبقية وسياسية جديدة، يدور أيضاً بالأساس حول القوى والشخصيات والواقع الجديد والتوازنات، التي سيمكنها في النهاية من التأثير في ميل سياسات الدولة وقوانينها وإجراءات الحكومة القادمة، في الانحياز الى العدالة الاجتماعية في ما يخص ما يرتبط بحياة الناس ومصير البلاد، وخصوصا في موضوع التوزيع العادل لثروات الوطن وبالشكل الذي يضمن تقديم خدمات فعلية وإدارة عجلة النمو والاعمار..