استندت انتفاضة ديسمبر 2018 على التجارب الماضية لحركة الجماهير المقاومة للأنظمة الدكتاتورية في السودان ودول الجوار، بإيجابيات وسلبيات تلك الهبات الشعبية. وكان لتجربتي أكتوبر 1964 وأبريل 1985 وجودهما ودورهما الواضح في مواجهات الجماهير مع نظام حكم جماعة الاخوان المسلمين الذي اختطف الحكم عبر انقلاب سنة 1989.
ومنذ تسنم عمر البشير السلطة في عام 1989 الى ازاحته في 2019 لم تهدأ شوارع المدن من المظاهرات والمواجهات بين الجماهير وقوات الامن...
نتاج النهج الرأسمالي
السؤال الذي طرحته جماهير شعبنا وحزبنا هو: هل يمكن ان تتعايش بلادنا مع النهج التنموي التابع للرأسمالية العالمية، والاستمرار ضمن التقسيم الدولي للعمل في اقتصاديات زراعية متخلفة، أم النضال من أجل الانعتاق وفك التبعية والسير في طريق التحرر السياسي والاجتماعي، وبناء الدولة الحديثة العلمانية الديمقراطية التي تفتح الطريق أمام القوى المنتجة صاحبة المصلحة في انهاء مهام مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية وبناء دولة تمثل النقيض للطبقة والشرائح الطفيلية الخاضعة للمعسكر الرأسمالي؟ ...
إن الازمة التي عشاها وتعيشها البلاد هي نتاج سياسات السير في الطريق الرأسمالي وفي خطى الاستعمار الحديث بعد الاستقلال، واستمرار ان يكون السودان مصدرا للمواد الخام، وموفرا للأيدي العاملة الرخيصة، وسوقا لمنتجات البلدان الرأسمالية. وتمت عملية الانصياع التام والوقوع في قبضة المعسكر الرأسمالي بدخول البنك الدولي وصندوق النقد الدولي كمشرفين دائمين على الاقتصاد السوداني ولتنفيذ شروطهما بالحرف الواحد...

بين مشروعين

اشارت دورة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني في يوليو 2018 الى انه في تقديرنا ان الظروف الموضوعية قد ضجت للتغيير والخلاص من النظام الشمولي المعبر عن الفئات البرجوازية الطفيلية المرتبطة بتنظيم الاخوان المسلمين الدولي. وأكدت الدورة نفسها أن الصراع قد بدا واضحا بين مشروعين، وان هذا الصراع مستمر منذ ستة اشهر دون انقطاع. الاول هو مشروع “الهبوط الناعم” الذي يحاول فرضه المجتمع الدولي والاقليمي بقيادة الولايات المتحدة، والرامي الى اجراء تسوية تستند الى اصلاحات شكلية على النظام وقمته...
المشروع الآخر هو الذي طرحه الحزب الشيوعي، وتبنته قوى الاجماع الوطني، وقُبل بتعديلات من كل قوى المعارضة، وانعكس بصورة وأخرى في اعلان قوى “الحرية والتغيير”. ومنذ بداية الحراك الجماهيري في 19 ديسمبر 2018 فرضت الجماهير المبادئ الاساسية لذلك المشروع الذي يسعى لبناء اوسع جبهة للجماهير من اجل اسقاط النظام وتفكيكه وتصفيته واستعادة قومية اجهزة الدولة وتصفية الدولة العميقة... كما اكدت دورة اللجنة المركزية في يوليو، ان هبة يناير 2018 وصعود الحركة الجماهيرية في نضالها لإسقاط النظام وما تلاها من تطورات قد قادت الى ترميم وحدة عمل المعارضة ونشاطها المشترك، ودخلت البلاد في خضم ازمة ثورية.

الأولوية في نشاط الحزب

ان التقدم في طريق الثورة الشاملة يستدعي في المقام الاول تحقيق الوحدة الفكرية والتنظيمية للحزب، وتدعيم دور فروع الحزب وبناء التحالفات الاستراتيجية وسط العمال والزراع والمثقفين والطلاب والشباب والنساء. يتم تنفيذ هذه الواجبات ليس بمعزل عن الجماهير، بل من وسطها ومعها وبها، وذلك في معركتها اليومية ومقاومتها التي لا تهدأ.
وكان ذلك هو الأولوية في نشاطنا الحزبي، واصبح تصاعد النشاط الجماهيري عبر شهور الانتفاضة عاملا مساعدا في ارتفاع قدرات الحزب في الدفاع وحماية نفسه والمشاركة الفعالة في الحراك المتنوع لحركة الجماهير وبناء ادواتها الاساسية المختلفة في لجان المقاومة، وفي السكن ومكان العمل والدراسة. وتدعيم القيادات المدنية وربطها بشبكة مع كل المستويات لتصل في النهاية الى المركز الموحد لقيادة الحراك المتمثل في قوى الحرية والتغيير واللجنة التنسيقية.
دخل حزبنا وقوى المعارضة الجذرية معارك انتفاضة ديسمبر، وهم اكثر وضوحا وتنظيما. وساعد ذلك ان تمكنت الهبة العفوية في بداية الانتفاضة ان تلتقط تدريجيا الشعارات والاهداف الرئيسية التي طرحها حزبنا وحلفاؤه. وهكذا تحولت مطالب الانتفاضة من المطالب الاقتصادية البحتة: الحد الادنى من الاجور، وتوفير الخبز والوقود والدواء، الى المطالبة باسقاط النظام. وبمرور الوقت اصبح خط الحزب الجماهيري تعبيرا وقوة وسط الجماهير الثائرة. وكانت شعارات الانتفاضة الاساس: حرية، سلام. وكذلك الثورة ـ خيار الشعب ـ هي التعبير الشعبي للمشروع الذي تبنته قوى المعارضة.

صراع بين قوى التغيير وقوى الثورة المضادة

في هذا الاطار يمكننا رؤية وفهم الصراع الدائر في السودان. انه صراع بين قوى التغيير الجذري (القوى الوطنية والديمقراطية داخل وخارج قوى الحرية والتغيير) وبين قوى الثورة المضادة. فما تريده الجماهير الشعبية وقواها الوطنية والديمقراطية هو السير في طريق مختلف عن طريق الثلاثين عاما الماضية. وبالتالي السؤال عن ما هي السلطة التي تقود البلاد في مثل هذا الطريق؟
انقلاب العسكر الذي ازاح رأس النظام، كان ولا يزال هدفه الرئيس هو تصفية الانتفاضة من محتواها، وتمهيد الطريق لتنفيذ مشروع الهبوط الناعم. فالمجلس العسكري والطغمة الحاكمة هي امتداد طبيعي للنظام السابق. لذا فالخلافات ليست حول اقتسام السلطة 8/7 أو 7/7 أو 5/5 او من يرأس المجلس الرئاسي، انما الخلافات هي حول مستقبل السودان وبناء سودان ديمقراطي مدني، يسع الجميع.
بالنسبة لنا نحن كحزب رفضنا التفاوض مع المجلس العسكري من ناحية المبدأ، باعتباره امتدادا للنظام القديم، ويسير في نفس الطريق. نحن نسمع ضجيجا، ولا نرى طحيناً منذ 11 ابريل 2019 من قبل قادة الانقلاب، فالمجلس العسكري رغم اشادته بـ”ثورة ديسمبر”، الا انهم يوجهون كل افعالهم واقوالهم لضرب المعارضة الجذرية وحزبنا.
افعال المجلس العسكري هي الدليل على موقفه المعادي للشعب والانتفاضة. فأعداد الشهداء منذ 11 ابريل ارتفعت بشكل واضح، والجرائم التي ارتكبت ضد قوى المعارضة من ضرب وتعذيب واعتقال وقتل واغتصاب تزيد ولا تنقص. العداء ضد الحزب والاتجاهات الجذرية في قوى الحرية والتغيير في ارتفاع مستمر. تحولت العاصمة ومدن السودان الكبرى الى ثكنات عسكرية بوجود الاسلحة الثقيلة في الشوارع، وكأن المجلس العسكري في حالة حرب ضد الشعب.
ابرز جرائم المجلس العسكري ضد الانتفاضة كان في تخطيطه وتنفيذه لفض الاعتصام السلمي امام مبنى القوات المسلحة بالقوة المفرطة. ونتج عن ذلك استشهاد 118 شابا وشابة. وتم التقاط 38 جثة من نهر النيل، وتم اغتصاب 37 شابة و12 شابا في يوم 3 يونيو. ورغم اعتراف المجلس بالمسؤولية، إلا ان بعض اطرافه تحاول التملص، وتدعي ان تلك العملية كانت “فخا” وقع فيه المجلس! ورغم فض الاعتصام إلا ان قوى الحرية والتغيير قد رفعت من برامجها التعبوية، وبدأت من جديد مظاهرات الاحياء اليومية. وترمي القيادات الميدانية الى تصعيد النشاط، كيما يصل الى مستوى عال يوم 30 يونيو، يوم الانقلاب المشؤوم في عام 1989.

استثمار الوضع الثوري

ان حزبنا يرى ان الطريق لاسقاط النظام يمر عبر بوابة التوجه الى الجماهير والتواجد بينها والالتصاق بها، وتمليكها كل الحقائق. فما زالت الامكانيات متوفرة لتحويل الوضع الثوري الذي تعيشه البلاد الى ثورة؛ ففي ظل التحولات العميقة التي صدعت وكسرت البنى السابقة، بنى الدولة، وبنى المجتمع السياسية تنشأ خطورة ظهور حالة فراغ يمكن ان تؤدي الى العودة الى الوراء في حالة تردد الثوار ومهادنتهم. بكلام آخر احتواء الانتفاضة، وبالتالي حصر النشاط السياسي في حدود معينة.
ان الوضع الثوري الذي نعيشه هو مخاطرة مفروضة موضوعيا، فرضها نضوج العامل الموضوعي وانفجاره. وعلى القيادة الحالية، ومن ضمنها حزبنا، ان تشحذ اسلحتها وتتصدى لقيادة الوضع الثوري وقيادته نحو اهدافه في التعيير الجذري. فللحركة الجماهيرية اسلحتها المجربة في شكل الاضراب السياسي العام والعصيان المدني لهزيمة النظام وتفكيكه وتصفيته.
كشف النهوض الجماهيري خلال الستة اشهر الماضية عن ضرورة تحسين الصلة مع الجماهير والالتصاق بها والتعلم منها والتفاعل الايجابي مع تطلعاتها المشروعة والتصدي لقيادتها عبر الاقناع والابداع. كما ظهرت قوى من الشباب الثائر خاصة من النساء في القيادات الميدانية ولجان المقاومة. من المهم مساعدتها وتقديم كل العون لها، كيما تلعب دورها كاملا في الانتفاضة وفي مستقبل البلاد. هذه المجموعة هي قلب الحراك وتساعد في تدعيم امكانيات الانتصار على اعداء الثورة.
الوضع الآن وإمكانيات تطور الانتفاضة الى ثورة ناجحة باستلام السلطة وتنفيذ برنامجها (برنامج الانتفاضة - المحرر) يعتمد على تدعيم وتمتين وحدة المعارضة وبناء التحالفات الاستراتيجية والديمقراطية وسط العمال والمزارعين، وتدعيم وحدتهم، كيما يلعبوا دورهم كاملا في بناء التحالف العريض وقيادته.
بجانب ذلك، ندعو الى اوسع تضامن عالمي، تلعب فيه الاحزاب الشيوعية الدور الاساسي، في دعم نضال شعبنا وحزبنا، من اجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والسلام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوداني
عن مجلة “الثقافة الجديدة” – تموز 2019(مقتطفات ضافية)

عرض مقالات: