جرى الحديث ما بعد 2003 مقترنا بتساؤلات مشروعة هل هناك دولة في العراق، واذا كانت هناك دولة رسمية بكامل مقوماتها فأين هو دورها في تعزيز الأنتماء للعراق كوطن يحتضن الجميع، وهل تقوم الدولة العراقية بكامل وظائفها في الأمن والاقتصاد والسياسة والقضاء وبسط سلطة القانون، وبنفس الوقت يجري التساؤل هل هناك دولة عميقة في العراق تقف خلف الدولة الرسمية وترسم سياستها وتصادر وظائفها  الأساسية، وتفرض منطق القوة على الدولة الرسمية من خلال المليشيات المسلحة  والاحزاب ذات الأجنحة المسلحة والتي تشكل جزء من العملية السياسية الى جانب العصابات الأجرامية المسلحة وسلاح العشائر المنفلت الذي يوازي سلاح الدولة ويقارعها ويهدد الأمن المجتمعي، والأكثر خطورة وتهديد هو التحالف غير المقدس المعلن والخفي للعديد من العشائر مع الأحزاب المليشياوية التي تشكل جزء من العملية السياسية عبر تمثيلها في البرلمان والتي تفرض اجندة مختلفة متعارضة مع السيادة الوطنية للعراق وتقف بالضد من أمنه واستقراره. 

وهناك من الآراء ما ينفي وجود دولة بعد انهيارها في 2003 وكذلك لا وجود للدولة العميقة كمفهوم يقف خلف الدولة الرسمية، وانما ما موجود هو شتات لقوى سياسية لايجمعها جامع ومختلفة بكل شاردة وواردة وذات ارتباطات بقوى اقليمية مختلفة، ولا تؤمن بسلطة الدولة والقانون والقضاء، وغير مؤمنة بالديمقراطية ولا بالتداول السلمي للسلطة، وان ما يجري على ارض العراق هو صراع شرس لتنفيذ اجندة خارجية عبر عملية سياسية مشوهة أو بقوة السلاح من خلال التهديد المستمر للسلم الأجتماعي، او عبر صفقات من التشويه والتزوير للأنتخابات البرلمانية كما جرى ذلك للأنتخابات التشريعية في عام 2018 حيث حرق صناديق الأقتراع والتزوير وتمثيل شعبي لا يتجاوز 20% من مجموع من يحق لهم التصويت.

في تلك الأجواء والتركيبة المشوهة للبرلمان وضعف شرعيته الشعبية جرى ويجري الصراع مع رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي الذي جيئ به في وقت فقدت القوى السياسية الطائفية والاثنية بوصلتها تحت ضغوطات انتفاضة اكتوبر الجماهيرية ووضعتها على المحك، بل وضعت الاحزاب الطائفية الأسلاموية والأثنية امام مواجهة عسيرة وضغوطات لأيجاد مخرج لأزمة البلاد المستعصية منذ سبعة عشر عاما، والتي اهدرت المال وعم الخراب والفساد وانعدام الخدمات الانسانية الاساسية، من صحة وتعليم وكهرباء وانعدام فرص العمل وخاصة للخريجين، وقد قدر اهدار المال العام ما يقارب 1400 مليار دولار، واليوم حيث تجد الحكومة صعوبة في تسديد رواتب المتقاعدين والموظفين الشهرية، أي انه الأعلان عن افلاس الدولة والحكومة للقيام بواجبات الحد الأدنى من العيش الكريم، وهو تأمين حدود لقمة العيش.

رئيس الوزراء الذي أتي به من توافق شيعي شيعي أولا، ومن ثم توافق شيعي سني وكردي ثانيا، وقد جيئ به على مضض من القوى التي رشحته لأنه مثل خيار الفرصة الأخيرة، وخاصة للقوى الأسلاموية الشيعية، وبالتالي كان خياره هو فرصة تلك القوى للتنصل من مسؤلياتها عن ما جرى من فساد وازهاق للأرواح ومن عبث في الأمن والسلم الاجتماعي، وحين الأتفاق عليه تمت ايضا المصادقة على برنامجه الحكومي في محاربة الفساد وسرقة المال العام والكشف عن قتلة المتظاهرين، وعندما بدأ الكاظمي بخطوات صوب محاربة الفساد او محاولاته لوضع حد للسلاح المنفلت، وهي محاولات الحد الأدنى بل بعضها خجول او محاولات جس النبض، حتى بدأت القوى الأسلاموية التي رشحته لرئاسة الوزراء في حملة مسعورة للتشكيك بجهودة في محاربة الفساد والسلاح المنفلت السائب لدى العشائر وغيرها، وقد أتهم من قبل القوى التي أتت به ووافقت على برنامجه الحكومي بأنه يسعى الى تصفية الحساب والانتقام من بعض القوى الأسلاموية، وان محاربته للفساد تخرج عن السياقات القانونية والقضائية، وأنه ينفذ الأجندة الأمريكية في العراق وغيرها من التهم الجاهزة التي يسوقها من لا يرغب الاستقرار والامن في العراق.

وبعيدا عن قدرات السيد الكاظمي وحدود جرئته ووضوحه في معالجة مختلف الملفات، فأنه لا يمكن لرئيس وزراء ان يعمل دون كتلة برلمانية تسنده وتقف الى جانبه، وخاصة تلك القوى التي جاءت به، ولكن بالتأكيد أثبتت الفترة المنصرمة والقصيرة من حكومة الكاظمي أن من أتى به اراد لنفسه الخلاص من ضغط الشارع العراقي المنتفض، ووضع الكاظمي في فم المدفع وأفشاله بمختلف الوسائل بل وتحميله مسؤولية الفوضى والخراب وغياب هيبة الدولة منذ 17 عاما في آتون الصراعات الطائفية والاثنية وتحميله فشل اكثر من عقد ونصف من الخراب والدمار والفساد.

 لقد سعت أحزاب الإسلام السياسي بعد سقوط الدكتاتورية، إلى تشكيل "دولة عميقة" في الظل ومنظومة متكاملة من شبكات المصالح، تمثلها قوى خفية متسلحة بالنفوذ السياسي والمالي ولديها ميليشياتها وإعلامها، شعارها: السلطة والثروة والنفوذ، قامت بتوظيف الفئات الرثة في المجتمع لديها علاقات ومصالح مشتركة مع دول الجوار، واعتمدت البيروقراطية الإدارية والفساد المنظم للاستحواذ على الموارد المالية وتعزيز مشاركتها في رسم سياسة الدولة، وفق مبتغاها.

تجذرت هذه الأحزاب في مفاصل الدولة المختلفة وأجهزتها، وسيطرت على وسائل الإعلام، كقوة إضافية لتعزيز مواقعها ومواقفها على السواء، وفرضت أجنداتها وفق مرامها ونهجها وأهدافها. وهي التي تتحكم اليوم بالموارد المالية والبشرية، وتعتمد على شبكات الفساد المعشعشة في قلب الدولة ومؤسساتها، التشريعية والقضائية، التي تم إنشاؤها أو السيطرة عليها والتغلغل فيها من خلال استخدام الموارد الطفيلية وغير القانونية، وهي تمتلك سلطة مدججة بالمال والسلاح، تستخدمها من أجل بسط نفوذها لقمع المعارضين والحفاظ على النظام العام.

وفي ظل هذا التعقيد والتشابك في الأجندة والمصالح وانهيار الدولة فقد شكلت قوى الدولة العميقة، وخاصة الأحزاب الطائفية المليشياوية والقوى الأثنية جزء اساسي من واجهة الدولة الرسمية في ابرز مؤسساتها التشريعية والتنفيذية والقضائية، مما عقد المشهد الميداني في معالجة الفساد الاداري والمالي والحد من الجرائم وحصر السلاح بيد الدولة وتدهور الأمن حيث تشابك اجندة الدولة الرسمية مع اجندة الدولة العميقة، ومن هنا نفهم صعوبات الكاظمي في الأطاحة بالرؤوس الكبار للفساد والبدأ بالرؤوس الأصغر رغم الصعوبات التي ترافق ذلك والتي ابرزها ضعف الدعم والتشكيك من قبل القوى السياسية الطائفية والمليشياوية ومحاولة افشال جهود الكاظمي وتصويره بالفاشل غير المتمكن او عديم الخبرة.  

قد يدفعنا هذا التشابك بين الدولة العميقة والدولة الشرعية أنه ليس هناك دولة عميقة في العراق إنما دولة سطحية وحكومة ضعيفة تتلاعب بها الأحزاب الشخصيات والميليشيات المتنفذة وهناك حركة انسيابية بين الدولة العميقة والرسمية وسهولة انتقال وخلط اجندة، هذه القوى لا تعمل مثل جماعات الضغط المشروعة في الأنظمة الديمقراطية كما موجود في أمريكا وأوربا إنما تعمل بوسائل مشروعة وغير مشروعة وهي معروفة الصلات والروابط وليست خفية كما في الديمقراطيات العريقة، فمعظم المطلعين يعلمون من هي الجهات التي تقوم بالأعمال الغير مشروعة والتي تصل إلى تنفيذ اغتيالات ضد خصومها وتخريب العملية السياسية وحرفها عن مسارها الديمقراطي والعبث بأصول اللعبة الديمقراطية.

فمصطلح “الدولة العميقة” عراقيا ، يقصد به “صناعة النفوذ” لشخصيات وأحزاب وميليشيات أغلبها مرتبط بأجندة خارجية ويعمل معها لمصلحته الشخصية او لأرضاء الطرف الخارجي وهما ضد مصلحة العراق بالضرورة ، ولا يقتصر ذلك على الفاعل السياسي الشيعي فقط إنما الفاعل السياسي السني والأثني القومي وبعض الأقليات ومن جميع التوجهات التي تبدو متناقضة ، لكن توحدها المصالح الضيقة والتي لها أذرع واسعة وتدخل في جميع المجالات.

وفي وسط تلك التعقيدات في العملية السياسية وبناءات الدولة المشوهة فأن الكاظمي يدخل في لعبة خطرة يفتقد فيها الى حلفاء سياسيين من داخل قبة البرلمان، بل أنه يدخل في صراع مع الدولة بملامحها الحالية كما أن الدولة بتشوهاتها تقاتل الكاظمي وتعرقل اقدامه على أية خطوة صغيرة كانت أم كبيرة، بل أنها تخطط لأفشاله، ومن هنا نرى ان تحالفه المرحلي مع المتظاهرين، وتحالف المتظاهرين معه لتقوية عوده هو ضرورة ميدانية وتكتكية لابد منها، وبكل الأحوال تبقى الخطوات القادمة والمتمثلة بالمهام الأتية هي من يعزز فرص النجاح لمصلحة بناء الدولة والتأسيس لظروف اكثر أمنا واستقرار للعملية السياسية، وابرز تلك المهام هي:

إقرار القانون الانتخابي: وهو من اختصاص مجلس النواب وقد تم التصويت على أغلبية مواده، وان المتبقي تحديد عدد الدوائر وعدد المقاعد المخصص لكل دائرة، والتي هي محل شد وجذب بين الكتل السياسية حتى هذه اللحظة. وحسب تقديرات المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، لابد من إقرار القانون الانتخابي قبل ستة أشهر من الموعد المحدد للانتخابات، لغرض توفير المواد اللوجستية.

تعديل قانون المحكمة الاتحادية: لقد أصبح تعديل قانون المحكمة الاتحادية حاجة ملحة بعد الاختلال في قوامها، لغرض إعادة النصاب لاجتماعاتها، لأنها هي المعنية بالمصادقة على النتائج النهائية للانتخابات العامة لعضوية مجلس النواب، وفق (الفقرة سابعاً، المادة 93 من الدستور العراقي).

حل مجلس النواب: لا يمكن الحديث عن الانتخابات العامة المبكرة دون الاتفاق بين الكتل السياسية على حل مجلس النواب بالأغلبية المطلقة لعدد أعضائه، بطلب من ثلث أعضائه أو من قبل رئيس مجلس الوزراء وموافقة رئيس الجمهورية، وان يكون ذلك قبل شهرين من السادس من حزيران إذا اتفقت الكتل السياسية على هذا الموعد، ليتسنى لرئيس الجمهورية الدعوة للانتخابات العامة

تطبيق قانون الاحزاب السياسية: لقد تم إصدار قانون الأحزاب منذ 2015 دون إجراءات حقيقية لتفعيله، وقد جاء ضمن المنهاج الوزاري: التطبيق الكامل لقانون الأحزاب وهو من اختصاص الوزارة والمفوضية العليا المستقلة للانتخابات وكذلك ديوان الرقابة المالية وأيضا يقع من مهام مجلس النواب المعني بالرقابة على أداء هذه المؤسسات. لضمان الحد المقبول من تكافؤ الفرص بين الكيانات السياسية عند خوض الانتخابات.

نزع سلاح المليشيات السائبة والسيطرة على السلاح المنفلت والاستعانة بالمنظمات الدولية لمراقبة الانتخابات وتوفير بيئة آمنة للناخبين الى جانب الجرأة الحكومية في الاعلان عن قتلة المتظاهرين وبما يسهم في خلق مزاج مطمئن للناخب ورسالة للمواطنين ان الحكومة قادرة على اتخاذ قرارات مصيرية تبعث الامل وتؤسس لنظام سياسي جديد يعبر عن ارادة المواطن بعيدا عن التزوير والتهديد وسلب ارادة الناخب.

عرض مقالات: