يمكن ان يعّرف الفساد بشكل عام (بعدم الاستقامة والنزاهة في ممارسات وتعاملات من هو في موقع وظيفي في الدولة او المجتمع).

في بداية التسعينات من القرن الماضي بعد هزيمة النظام الدكتاتوري العراقي في حرب الكويت المهينة بدأ موظفو الضرائب التغاضي عن المبالغ الحقيقية المستوجبة للضريبة مقابل استلامهم مبلغ كرشوة من دافع الضرائب ليتجنب دفعها كاملاً ليسدوا نفقات عيشهم، والمعلمون والمدرسون بدأوا باستلام مبالغ مقابل درجات نجاح التلاميذ دون استحقاقهم، والعاملون في القطاع الخاص والورش الصغيرة والبيع المفرق بدأوا باحتكار السلع والمواد لرفع الاسعار تحركهم بذلك الاجهزة الامنية للدكتاتورية حيث أذرعها ممتدة في كل مكان، لتستمر الأزمات وتنشغل بها الناس وتوضع الأسباب على الحصار الجائر من دون ذكر ممارسات الدكتاتورية بذلك ... وبدأت الاجهزة الامنية في فترة الدكتاتورية المبادة ممارسة الفساد باستغلال نفوذها بابتزاز عوائل المناضلين والمعارضين لها، وحصل ذلك مع أهالي المناضلين ومع غيرهم، ولكن لم ترضخ العوائل لهذا الابتزاز القميء وامتنعوا من دفع الرشى مقابل غلق الملف للشيوعي الهارب! (بمفهوم الطغاة) المطلوب للأجهزة الامنية... أما المؤسسة العسكرية والأمنية آنذاك فامتلأت بقصص خيالية حول ابتزاز واستغلال الجنود ليتحول راتبهم (دخلهم) البسيط وجلهم من الفقراء مقابل تنفيذ واجبهم الى ضباط المراتب الوسطى والكبيرة،لأجل منحهم الاجازات المتكررة بلا محاسبة من عدم الالتحاق بوحداتهم، فاغتنوا جميعهم واصبح لهم عمارات ومزارع ومقاولات واموال، وكانت ظاهرة جديدة وشاذة بدخول رجال الأمن والعسكر في الاقتصاد والمقاولات لتحقيق أرباح تعود لهم وليستخدموها لملذاتهم وموبقاتهم ... وتبقى هناك استثناءات من جميع الشرائح من المعلمين والمدرسين والعسكريين والموظفين ممن لم تتلوث اياديهم او قيمهم بتلك الممارسات.
ازداد مع هذا الفساد، الورع والتقوى والصلاة والمظاهر الدينية وبناء الجوامع والحسينيات وممارسة الطقوس والعبادة ونشر وطبع المنشورات الدينية المختلفة، وكأنه تزامن خادع للتكفير عن الذنوب المرتكبة اعلاه ليصدق الفاسد والمرتشي والراشي والسارق لقوت الغير بان ما يقوم به هو “شرعا” مقبول ...ليعطي مبررا لنفسه كوهم بانه لم يرتكب ذنباً (يبرر سلوكه المشين بمظاهر الورع والتقوى والصلاة والصوم)، وهنا ايضاً استثناءات لمن هو مؤمن بسلوكه الحسن عن المخادع.
كانت تلك هي البدايات الحقيقية لزرع الفساد والتحايل والسرقات والصفقات ايام بعد حرب الكويت والحصار الجائر الدولي (١٩٩١-٢٠٠٣) فتداخلت الأسباب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقيمية والدينية للمجتمع وقسوة وارهاب الدكتاتورية واجهزتها الامنية لإنتاج نوع خاص من الفساد في العراق يمكن لاحقاً ان يكون معياراً لتوصيف الفساد في العراق عالمياً بمعايير جديدة تميزه عن غيره.
ثم جاءت فترة (٢٠٠٣-٢٠٢٠) فترة الاحتلال والتأسيس لمنظومة سياسية جديدة تعلن أنها تتبع آليات لها قطيعة مع دكتاتورية الماضي بشكل بات، ولكن في هذه الفترة ازداد سلوك وممارسات الفساد والخداع والتزوير والغش والتحايل ليصبح أكثر خصوبة، ولينتشر بسهولة ويزدهر في المجتمع والدولة بأشكال عجيبة، اذ ضخت الولايات المتحدة وفي فترة الحاكم المدني بول بريمر (٢٠٠٣-٢٠٠٤) اموالا طائلة كانت بقيمة مليارين دولار نقدا من صندوق التنمية العراقي الذي يديره البنك الفدرالي الأمريكي، وبموافقات دولية والامم المتحدة والجانب العراقي ليتمكن الاحتلال من تسيير أمور الحكومة، وكانت تلك الأموال قد صرفت في قنوات وطرق غير منتجة،أو في تنفيذ مشاريع بنى تحتية محكمة كالطرق والجسور والري والصناعات الثقيلة والخفيفة والزارعة والتكنولوجيا، ولتخلق فرص عمل واعدة، وتدشين الماكنة الاقتصادية للعراق دورانها بعد توقف ذلك إثر انهيار النظام الدكتاتوري. لكنها ذهبت الى الذين التفوا حول الحاكم المدني بول بريمر للعراق، وكانتقيمة مبلغ المليارين كبيرة في تلك الظروف الشديدة القسوة والمفتوحة على احتمالات شتى،وأبرز مظاهرها ازدياد الفساد تبعاً لازدياد المال في تناسب طردي.

يمكن تلخيص مسارات الفساد في الفترة التي تلت إسقاط الدكتاتورية البغيضة بالنقاط التالية:
١- الفساد في الجانب السياسي، حيث تم تقاسم النفوذ الأكبر في الدولة على اساس طائفي واثني بمقاييس (شيعي، سني، كردي). وأصبح العراق وكأنه ثلاثةأجزاء. وواضحة اليوم المعاناة الكبيرة للشعب حيث نقص الخدمات والسرقات والاهمال الذي سبّب تظاهرات جارفة غير مسبوقة في مناطق ابناء شعبنا العراقي (اتباع المذهب الشيعي دينيا) بسبب هذه السياسة الطائفية، ويمكن ملاحظة ذات المعاناة وبشكل اشد في مناطق ابناء شعبنا العراقي (اتباع المذهب السني دينياً) وماذا حصل لمحافظات الموصل والرمادي وديالى وتكريت، وكيف لعب الاٍرهاب دوره في تدمير هذه المناطق بالإضافة الى الفساد والمحاصصة، اما ابناء شعبنا العراقي في اقليم كردستان فمعروفة معاناتهم من أزمة الرواتب منذ عام ٢٠١٤ والى اليوم..وتخبط حكومة الاقليم وحكومة بغداد بعدم نجاحهمابإيجاد الحلول ومحاسبة المسببين لهذه المعاناة رغم التظاهرات الكبيرة التي عمت اقليم كردستان/ العراق مطالبين بمستحقاتهم الشهرية التي كفلها لهم القانون، ولكن السياسيين في الجانبين لم يحترموا ذلك ولا زالت المشكلة قائمةبلا حللحد وقت كتابة هذا الموضوع ؟
٢- الفساد في الجانب المالي والعقود والمقاولات:
وهذا هو جوهر الفساد الذي يغذي الفساد السياسي حيث المال أحد أهم أدواته، ويدفع الى نشر وانتشار الفساد في بقية جوانب وقطاعات الدولة والمجتمع، فمن يمسك بقرار صرف الاموال يمسك بقرار نشر الفساد وترسيخه بطرق وسخة منها الرشاوى وشراء الضمائر والنفوس الضعيفة، حتى أصبح ظاهرة، والشذوذ من كان نظيف اليد والضمير والسيرة.
حصل الفساد مع جهات دولية بدفع رشاوى ليوقعوا على صفقات تحمل سرقات كبيرة، وحامت حولها شبهات مؤكدة، مثل صفقة السلاح مع روسيا واوكرانيا وصربيا، وفي وقتها أزاح الرئيس الروسي وزير الدفاع من منصبه، ومعروفة صفقات الشركات النفطية مع مسؤولين في الدولة العراقية، ولا زالت قضية شركة اونا اويل مستمرة بمحاكمة وتغريم مسؤولين بريطانيين لدفعهم رشى الى الجانب العراقي لتمرير صفقات برشاوى.
٣- الفساد في التعيينات مقابل دفع رشى والتوظيفات غير الحقيقية لأشخاص لا وجود لهم، لكن رواتبهم موجودة ونسميها كعراقيين كمصطلح دارج ب (الفضائيين)، وأشهرها ما أعلنه رئيس مجلس الوزراء السابق د. حيدر العبادي عام ٢٠١٥ عن وجود ٥٠٠٠٠ خمسين ألف فضائي في القوات المسلحة والأمنية.
وهو ما يميز أهم طبيعة للفساد الذي أنتجته منظومة المحاصصة الطائفية في العراق، فتذهب نسبة كبيرة من موارد الموازنة الى اتجاهات تصب في صالح الجهات التي لديها هذه الأسماء مثل القوات المسلحة ووزارة الداخلية والحشد الشعبي والبيشمه رگه، وقد أكد ذلك نواب وشخصيات كثيرة حيث وصل العدد الى مئات آلاف من الموظفين والمنتسبين الوهميين تتحمل رواتبهم الخزينة لتنتهي بجيوب الفاسدين والسراق وأغلبهم هم الذين يحددون قرارات الدولة.
٤- الفساد في بنوك ومصارف ومكاتب تحويل العملة وتصريفها ... وخاصة الدولار والذي يفترض بان يأخذ التجار العملة بسعر تشجيعي لإدخال مواد ومعدات وسلع الى السوق العراقية توازي المبالغ المحولة الى الدولار.. وعند الكمارك تكون الارقام اقل بكثير مما حولته الدولة (البنك المركزي) لهم من عملة صعبة لإنجاز هذه العملية، مما يعني هناك استخدامات اخرى لهذه الاموال في غير مجالاتها ومعروفة الجهات التي استلمت العملة الصعبة وكميتها وادخلت بضاعة أقل من كمية وقيمة عملة المبالغ المحولة.
هناك فساد بمستويات أدنى لدى الموظفين والمنتسبين في الاقسام والشُعب والدوائر في الوزارات والمؤسسات والهيئات،وأصبح التعامل به شيئاً مألوفا واعتيادياً ومن دون احساس بالخجل او الندم او بشيء من تأنيب الضمير او محاسبة الذات وبدوافع متعددة.
هذه هي الصورة المقربة لما يجري من مظاهر الفساد الفتاك بالمجتمع والدولة، ومحق من ربطه مع الاٍرهاب واعتبره وجهين لعملة واحدة....

ما الحلول المتاحة لتفكيك هذه المنظومة والسلوكيات والعلاقات المشحونة والمملوءة بالآثام والأخطاء والتجاوزات على الحق العام والمال العام؟
نحتاج شرطين مهمين لمكافحة ذلك،
١- قرار شجاع
٢- قاض شجاع
القرار الشجاع يتعلق بتحمل ر. مجلس الوزراء والطاقم الحكومي (المؤسسة الحكومية) اتخاذه بدون تخاذل، بوضع “العتاوي السمان” المعروفة بمسؤوليتها عن السرقات والهدر المالي الكبير للمال العام بطرق غير قانونية ولا شرعية،بوضعها على الأقل قيد التحقيق خلف القضبان كطلب حكومي رسمي. وصولاً الى استرجاعها الى الخزينة.والمبالغ المسروقة بطرق مختلفة تصل الى ما بين ٢٥٠-٣٢٠ مليار دولار.
والقاضي الشجاع (اوالمؤسسة القضائية) من يصدر امرا قضائيا بناء على طلب واتهامات وادعاءات وأدلة ملموسة للحكومة بحجز هذه “العتاوي السمان” على ذمة التحقيق في المحاكم لمعرفة طرق ضياع وهدر هذه المبالغ الضخمة.
وبتقديم الأدلة والإفادات والاعترافات والمستندات المختلفة التي تكون كافية للمحاكم، اما للإدانة وإصدار الحكم الجنائي والعقوبة،أو البراءة وإطلاق السراح وتلك هي العدالة بعينها. وهنا نحتاج محكمة وقضاة وادعاء عاما ومحاميي دفاع يمتلكون شرف المهنة ولا يدنسونها، ويمتلك العراق مثل هؤلاء القضاة ومحاميي الدفاع والادعاء ليعالجوا هذا المرض الكريه والفتاك لاستئصاله من جسد المجتمع العراقي، مرض الفساد الملعون.
نعم لعراق خالِ من الفاسدين والمفسدين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
*
برلماني ووزير سابق

 

عرض مقالات: