حتى وإن كان اسم سوزان أنطوني يبدو منسياً، أو “على الرفّ” بعض الشيء في أيامنا هذه، على الأقل بالنسبة إلى نضالاتها في سبيل حقوق السود منذ وقت مبكر، كما لاحقاً في سبيل حق المرأة في خوض الانتخابات، وعلى الأقل المشاركة بالتصويت فيها، إضافة إلى حقوقها الأخرى، فإن اسم هذه السيدة التي ملأت الدنيا وشغلت الناس خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، سرعان ما يقفز إلى الواجهة حين تُستذكر تلك المؤلفات الرئيسة التي تتحدث عن التاريخ المجيد للنضالات النسوية في العالم بصورة عامة وفي أميركا بصورة خاصة.
فالحال أن الكتاب الضخم المؤلف من ستة أجزاء وأكثر من 5 آلاف صفحة، الذي وضعته سوزان أنطوني مع عدد من رفيقاتها في الحراك الساعي إلى نيل المرأة حقها في المشاركة في الانتخابات وعلى رأسهن رفيقتها الدائمة، اليزابيت ستاتون، الذي تواصل صدور أجزائه من عام 1881 إلى عام 1922 أي بعد مرور عقد ونصف العقد على رحيل سوزان أنطوني، يعتبر إنجيل الحركات العالمية وليس فقط الأميركية التي انتفضت مطالبة للمرأة بحقوقها منذ تلك الأوقات المبكرة.

مشهد كما في السينما

ولعل في مقدورنا أن نبدأ هذا الحديث هنا بتلك الحكاية الحقيقية غير المأخوذة من أي مشهد سينمائي؛ مجموعة من النساء تتقدمهن سيدة في الثانية والخمسين من عمرها، وعلى وجوههن جميعاً أمارات العزم والتصميم. تسير السيدات نحو مركز للاقتراع، ويحاولن الدخول للإدلاء بأصواتهن في الانتخابات النيابية، على الضد من القانون الذي يمنع ذلك. لكن ما إن يصلن إلى باب المركز حتى ينقضّ عليهن رجال الشرطة محاولين منعهن من الدخول واصلين إلى حد ضربهن بالهراوات. بعضهن يهرب مرتعباً، والآخر يصر على التحدي والدخول، فلا يكون من رجال الشرطة إلا أن يعتقلوهن، ليتصلوا لاحقاً بأزواجهن أو آبائهن سائلين إياهم أن يأتوا ليقدموا من الكفالات ما يسمح بإرجاع النساء إلى البيوت.
البيوت تلك هي الأمكنة الصالحة لحياتكن، والأفضل لكنّ ألا تبرحنها”، قال لهن قائد الشرطة وعلى وجهه أمارات الغضب والغيظ، فأجابته السيدة التي كانت تقودهن: “البيت هو المكان الذي سنرسلك أنت وجنودك إليه”. صحيح أن السيدة لم تتمكن من إرسال الضابط لينزوي في بيته، لكنها واصلت عملها ونضالها حتى تمنعه هو الآخر من تحقيق غايته. ولسوف تستمر “المعركة” سنوات طويلة أخرى. وستكون معركتها قدوة لغيرها من النساء. حدث ذلك في مدينة وورشستر الأميركية في عام 1872. أما السيدة التي وعدت الضابط بإرساله وجنوده إلى البيت فكانت سوزان أنطوني إحدى رائدات الحركة النسوية في أميركا والعالم خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر. تلك السيدة التي واصلت نضالها في سبيل تحرير السود في أميركا، بخاصة في سبيل حصول المرأة على حقوقها المدنية وحق الانتخاب، حتى رحيلها عن عالمنا في آذار 1906.

مناضلة في الرابعة والثمانين

كان ذلك كافياً لإدخال اسمها في تاريخ تحرر المرأة في العالم من الباب الواسع. أما لحظة مجدها الكبرى فكانت في 1904، حين زارت برلين لتشارك في مؤتمر نسائي عالمي، متكئة، على عصاها كما على مساعداتها لتصفّق لها نساء العالم أجمع معترفات لها بما حقّقته حتى ذلك الحين، واعدات بمتابعة مسيرتها حتى تحقيق المزيد. يومها كانت في الرابعة والثمانين. لكنها كانت لا تزال ممتلئة نشاطاً ومقدرة على المشاركة.
ولدت سوزان أنطوني عام 1820 في مدينة آدمس بولاية ماساشوستس الأميركية. وكان من أول نشاطاتها حين شبت عن الطوق، الانضمام إلى مجموعة من الفتيات والنساء رحن يناضلن من أجل فرض قانون يعطي المرأة الأميركية حق التصويت. وهذا القانون صدر بالفعل. ولكن في 1920، أي بعد رحيلها بعقد ونصف العقد.
منذ طفولتها عرفت سوزان طعم الاستقلال والرغبة في الصراع، حيث كان أبوها من طائفة الكويكرز، وكان بالتالي من أنصار إلغاء العبوديّة. وهي، تحت رعاية ذلك الأب المنفتح الذي كان من أنصار أبراهام لنكولن، بدأت تخوض النضال السياسي والاجتماعي في شكل جدي في 1856، حين راحت تكرس وقتها لنضالين رأت أنهما لا ينفصلان عن بعضهما البعض؛ النضال في سبيل إزالة الرق من ناحية، والنضال في سبيل حقوق المرأة من ناحية ثانية. وهذا ما جعلها تنضم إلى الجمعية الأميركية المعادية للعبودية، وتظل تعمل ضمن إطارها حتى الحرب الأهلية في 1861.

يوم سامحها دونالد ترمب

بعد ذلك؛ أي بعد أن طرأ شيء من التحسن في وضعية السود، وجدت سوزان أن الوقت حان لتكريس نشاطها لتحرّر المرأة، فأسست مع رفيقتها الدائمة اليزابيت كادي ستانتون مجلة “الثورة”، التي واصلت صدورها حتى 1870، حين اضطرت إلى التوقف تحت ضغوط عدة.
لكن توقف المجلة لم يعن توقف النضال في سبيل أهدافها، وهكذا راحت سوزان ورفيقاتها ينظمن التظاهرات والاعتصامات، وكانت “هجمتهن” المذكورة آنفاً على مركز الاقتراع واحدة من ذراها. يومها وبعد أن حوكمت ورفضت أن تدفع أي غرامة، ولسوف يسامحها الرئيس الأميركي دونالد ترمب بعد قرن ونصف القرن، من الغرامة ومستتبعاتها، كما صرح في خطاب انتخابي له!، خرجت وقد اعتبرت نفسها منتصرة، ثم راحت تجول في طول الولايات الأميركية وعرضها، محاضرة حول حقوق المرأة، وأسست وشاركت في أعمال مجلسين نسائيين كبيرين “الجمعية القومية لحق النساء في الانتخاب” و”الجمعية الأميركية لحق النساء في الانتخاب”.
وفي ذلك الوقت كانت قد أضحت وجهاً عالمياً. ثم عملت مع بعض رفيقاتها على إصدار ذلك المؤلف الضخم في ستة أجزاء حول تاريخ حركة النساء ومطالبتهن بحق الانتخاب. وهو مؤلف اعتبر حتى من قبل صدور جزئه الأخير في 1922، مرجعاً أساسياً، ليس في الولايات المتحدة وحدها، بل في العالم أجمع. لئن كان ذلك المؤلَّف الاستثنائي قد بات يبدو عسيراً على القراءة لامتلائه بالتفاصيل والتقارير اليومية والتعليقات وكل ما يتعلق بما عاشته تلك الحركة النسوية المدهشة، فإن ماري جو باتل وبول باهل عمدا في عام 1978 إلى اختصاره في نحو 500 صفحة ضمت ما هو أساس فيه، الأمر الذي أعاد إليه مكانته وجعله قابلاً للترجمة إلى العديد من لغات العالم معيداً في طريقه إلى الواجهة حياة تلك المجموعة من المناضلات الأميركيات، ولكن بشكل خاص، سيرة سوزان أنطوني التي تعتبر اليوم بطلة قومية في الولايات المتحدة. وهو ما بيّنه على أي حال الفيلم الوثائقي الذي حققه في عام 1999 السينمائي الأميركي بول بيرنز، وكانت الراوية فيه الممثلة الهوليوودية المعروفة سالي كيلرمان.

أفضل ما حُقّق عن امرأة أميركية

هذا الفيلم الذي استخدم كمّاً كبيراً من الوثائق والصور والشهادات ملأت ساعاته الثلاث والنصف، اعتبر حين عرضه بنجاح كبير واحداً من أفضل الوثائق السينمائية التي حُقّقت عن امرأة أميركية. عنوان الفيلم “ليس من أجلنا نحن فقط”، ويتألف من عشرين مقطعاً تأرجح فيها بين سيرة حياة سوزان أنطوني وشريكتها الدائمة اليزابيت ستانتون وحكاية النضال النسوي الأميركي الذي لا ينفصل، كما يقول لنا الفيلم، ولكن كما كانت سوزان أنطوني تقول دائماً، عن نضال السود، وكان ذلك هو اسمهم قبل أن يتحول إلى “أميركيين أفارقة”، وبالتالي عن مجمل النضالات الاجتماعية التي خاضها الأميركيون، وصولاً إلى الحركة النضالية الأميركية بشكل عام، تلك الحركة التي اعتاد أن يخوضها مناضلون جعلوا من عبارة “ليس من أجلنا نحن فقط” شعاراً مشتركاً لهم، علماً بأن هذه العبارة نفسها مستقاة من واحد من خطب سوزان أنطوني المبكرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اندبندنت عربية” 22 آب 2020

عرض مقالات: