لا شك أن العالم يعيش اليوم نوعاً من فوضى فكرية عارمة تتجلى في كل مرة تحلّ فيها كارثة ما أو أزمة طاحنة يقف الفكر والناس جميعاً حائرين أمامها. ويعرف العالم بشكل عام، ومناطق خاصة من هذا العالم بشكل خاص – منطقة الشرق الأدنى العربية على سبيل المثال – ازدحاماً بالكوارث والتطرفات، وسط فراغ فكري يدفع إلى التساؤل عن مآل الأفكار الإنسانية والعقلانية الكبرى، التي كانت قد سادت وبدت واعدة في فترات معينة من القرنين السابقين على الأقل. والسؤال الحاسم الآن هو، ماذا بعد؟ هل على الإنسان أن يستسلم أمام ضروب التطرف و”الهويات القاتلة”، و”قوميات الكراهية”، وفلسفات “التجويع”، أم يجدر به أن يزيد من بحثه عن حلول، ولو باستعادة بعض اللحظات المضيئة من فكر نقديٍ عرف بعض لحظات مجد في المراحل السابقة، قبل أن تنحيه جانبا العصبيات المتناحرة وكل ضروب التعنت الإيديولوجي؟

بصيص أمل في الظلمة العارمة

ربما يحمل هذا البحث شيئاً من بصيص أمل. ومن هنا لن يكون من غير المفيد التقاط بعض اللحظات الأكثر وعداً، واستعادة ذكراها في زمن نفقد فيه البوصلة، ولا يبقى سوى التحدي في لعبة “التحدي والبوصلة”، التي دائماً ما قادت النخب الأكثر تقدماً من الإنسانية في اللحظات الصعبة. وفي مثل هذا السياق تبرز أمامنا تجربة فكرية لعل من أهم حسناتها أنها لم تصل إلى أية سلطة سياسية، أو غير سياسية في معمعان العصر الذي ظهرت فيه، وبالتالي تفادت، حتى الآن على الأقل، الوقوع في مطبات السلطة ودهاليزها، والمساومات التي تنشأ من حولها. مهما يكن فإن هذا التيار الفكري الذي نحاول أن نستعيده هنا لم يكن لا مؤهلاً ولا راغباً، انطلاقاً من طبيعته نفسها، في ولوج تجربة السلطة. بل على العكس من هذا رأيناه دائماً تياراً نقدياً احتجاجياً، في السياسة، وأيضاً في كل المجالات التي خاض فيها، ماثلاً في خلفية الاندفاعات الثورية في تلك المجالات من دون أن يحاول لا تزعّمها ولا توجيهها. كل ما في الأمر أنه يكتفي بلعب دور صاحب الخلفية الفكرية لا أكثر ولا أقل. وهذا التيار هو بالتأكيد ذاك الذي تمثله “مدرسة فرانكفورت” التي انطلقت من ألمانيا ما قبل النازية لتزدهر لاحقاً في الولايات المتحدة، ولكن أيضاً في أماكن عديدة في العالم، عرف الفكر كيف يلعب فيها دوراً كبيراً ودائماً من موقع النقد.

كيف ردّ الفكر على تدهورين

هذا التيار الفكري تأسس، أولاً ثم أخيراً بعد هجرة قسرية إلى أميركا، في مدينة فرانكفورت الألمانية، كرد فعل على تدهورين، تدهور الفكر الماركسي من طريق الممارسة الستالينية، وتدهور العقل الألماني من طريق – النازية واستشرائها كرد فعل على الهزيمة الألمانية في الحرب العالمية الأولى. وكان من سماته الاهتمام النقدي – الموروث من كانط كما من اليسار الهيغلي – بكل ما يطاول الحياة الفكرية، من الفلسفة إلى التاريخ، ومن علم الاجتماع إلى الفن، ومن السياسة (أولاً وأخيراً) إلى الاقتصاد. ذلك أن اهتمامه الأول انصب على الحياة نفسها، حتى وإن كان المأخذ الأساس الذي سيؤخذ عليه هو ابتعاده عن ربط النظرية بالممارسة. ومهما يكن من أمر، لا بد من أن نذكّر منذ الآن بأن الفكر الماركسي التقليدي الذي إن لم يهاجم “الفرانكفورتيين” كثيراً، اكتفى بتجاهلهم، اكتشف – متأخراً جداً – أنهم منذ ضروب انتقادهم الأولى، كانوا على حق، بل كانوا ما يشبه الفرصة الأخيرة حتى لإنقاذ الماركسية من جمودها، وتحولها من ثورة واعدة إلى دولة قامعة.
الحقيقة أننا من أجل أخذ فكرة أولية عن التنوع المعرفي والفكري لمدرسة فرانكفورت هذه، قد يكون حسبنا أن نذكر أن الأعلام الأربعة الأساسيين فيها، في مرحلتها الذهبية (بين أواخر العشرينيات وأواخر الثلاثينيات من القرن المنصرم) كانوا، على تقاربهم، ذوي اتجاهات متباعدة ومتكاملة، هوركهايمر كان فيلسوفاً، وماركوزه أقرب إلى علم الاجتماع وعلم الإيديولوجيا مع إطلالة أكيدة على علم النفس. وفيما كان إريك فروم عالم نفس ورث الفرويدية في توجه ماركسي واضح، كان جلّ عمل ثيودور أدورنو منصباً على نظرية الفن وعلم الجمال، وهو الذي كانت أشغاله النظرية حول الموسيقى الحديثة (أعمال شونبرغ وآلبن برغ) من أهم الأعمال التي تناولت هذه الموسيقى.

معهد للبحث الاجتماعي

هنا لا بد من إشارتين أساسيتين، وهما أن “مدرسة فرانكفورت” هو الاسم الشعبي المتداول لذلك التيار، الذي تأسس ونما داخل جامعة فرانكفورت، أما الاسم الرسمي فهو “معهد البحث الاجتماعي”، كما أن تأسيس المعهد لم يتم عند بداية الثلاثينيات من طريق هوركهايمر كما كان معتقداً دائماً، بل قبلها بسنوات، أي عام 1923، من طريق عدد من مفكرين تحلقوا من حول فردريش بولوك وك. أ. فيتفوغل وليو لوفنتال… أما هوركهايمر فكان فقط من بين المتحلقين، في زمن قدم فيه مفكر هاوٍ للفلسفة هو فيليكس فايل، عام 1922، مبلغاً أخذه من والده رجل الأعمال، لتمويل تأسيس المعهد داخل حرم جامعة فرانكفورت. وعلى هذا النحو مضت ثمانية أعوام تعد ما – قبل – تاريخ مدرسة فرانكفورت قبل أن يحل عام 1930، ويصبح هوركهايمر رئيساً للمعهد، وبالتالي يعرف هذا التيار انطلاقته النقدية الحقيقية. أما في المرحلة الأولى فكان الهدف المعلن “الاهتمام بمعرفة الحياة الاجتماعية، وفهمها في مجملها من القاعدة الاقتصادية إلى البنية القومية المؤسسية والمفهومية”.
في شكل أساس راح الاهتمام الأول ينصب على تصور ما للمادية التاريخية. ولاحقاً، من دون التخلي عن تلك الأهداف الأولية، توسع فكر مدرسة فرانكفورت لتصبح أكثر إيديولوجية ونقدية بالتالي، خصوصاً أن صعود النازية وفّر مادة خصبة لدراسات جدية تبتعد من التفسير التبسيطي الميكانيكي لمسائل مثل صراع الطبقات والمصالح الطبقية، وإلى ما هنالك من أفكار جامدة مثل ديكتاتورية البروليتارية والحتمية التاريخية. ومن هنا إذا كان قد قيل دائماً إن المناخ الفكري العام للمعهد كان مناخاً ماركسياً خالصاً، فإنه لم يكن أبداً عقائدياً جامداً. بالأحرى اهتم المعهد – ومدرسته طبعاً – بدراسة النازية والفاشية قبل الاهتمام بطرح اجتماعي بديل، وهكذا كتب فروم مع فرانتز نيومان “الخوف من الحرية” و”بهيموت”، ووضع ماركوزه دراسة أساسية عن أصول الإيديولوجيا الفاشية، وصيغت دراسات جماعية وفردية حول الإطار الاقتصادي للفاشية، ثم لاحقاً حول “السلطة والأسرة”، وحول “الشخصية التسلطية”، واشتغل فيتفوغل على “الاستبداد الآسيوي”… فيما انصرف ماركوزه إلى دراسة “الحب والحضارة” (بالتزامن مع) كخط تلاقٍ لديه بين ماركسية متطورة، وفرويدية مشذبة.
لقد شكل هذا كله الأسس التي بني عليها الفكر الجماعي والتعددي لتلك المدرسة، التي قد يصح أن نعتبرها اليوم أهم ظاهرة فكرية جماعية ظهرت في القرن العشرين، في اشتغالها أصلاً في مفهوم العقل غير الميكانيكي، وهو ما يتضح خصوصاً في كتاب أصدره، والحرب العالمية الثانية لم تنته بعد، فيلسوفا المدرسة الأساسيان هوركهايمر، وأدورنو، على شكل مقتطفات فلسفية بعنوان “جدلية العقل”. ولعل أهم ما أكده هذا الكتاب التأسيسي، الذي سيستعيد وريث المدرسة يورغن هابرماس، بعض أفكاره الأساسية في كتبه التالية، التي لها تأثير كبير في الفكر الفلسفي العالمي اليوم، هو أن أفكار التقدم كانت العنصر الأساس في فلسفة الأنوار البورجوازية، التي راحت تسير قدماً إلى الأمام تحت لواء العقل، أما الآن فإن من الضروري تحليل الكيفية التي تنحو بها هذه الحركة إلى محو قيمها الخاصة، حتى قبل أن تترك المجال حراً أمام ممارسة اجتماعية، اعتبرها المفكران نوعاً من “التدمير الذاتي للعقل”، لا يمكنه إلا أن يتواصل مستقبلاً مولداً معه أنماطاً جديدة من الشموليات، إذا لم يصل إلى الاعتراف بالالتباس الكامن في لب هذا المفهوم، وإلى العمل على تجاوزه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
اندبندنت عربية” 12 آب 2020a

عرض مقالات: