اثارت الجريمة العنصرية بقتل المواطن الأمريكي من اصول افريقية جورج فلويد  بدم بارد، تداعيات خطيرة في الولايات المتحدة، نتيجة ما حدث بعدها من اضطرابات  واحتجاجات واسعة واشكال من التحدي الشعبي غبر مسبوقة أدت الى إعلان حالة الطوارئ وحظر التجوال في 140 مدينة أمريكية على الأقل، واعتقال الالاف من المتظاهرين الذين نددوا بسياسات الرئيس الامريكي  دونالد ترامب التي تحرض على الفوضى وممارسة العنف واستخدام القوة المفرطة وتشجيع العنصريين لتصفية الاحتجاجات من اجل تعزيز موقعه وزيادة شعبيته بين الأوساط البيضاء والمحافظة واليمينية في الانتخابات الرئاسية القادمة.

ويمكن تلخيص ما تشهده امريكا انه انعكاس لما يواجه الاقتصاد والمجتمع الامريكي من ازمات والتي جاء مقتل فلويد أشبه بالشرارة التي فجرت برميلا من البارود في ظل جو محتقن ورعب متزايد في المجتمع الامريكي - الافريقي والاقليات الاخرى نتيجة اشتداد الجائحة.

ومن الجدير بالذكر ان مشكلة التمييز العنصري في امريكا لها جذور تاريخية منذ ابادة سكان امريكا الأصليين من قبل المهاجرين قبل 300 عام للاستيلاء على أراضيهم وما تحتويه من معادن، عبر القتل الجماعي ونشر مرض الجدري والكوليرا كسلاح لأبادته. وايضا بعد قيام الدولة الامريكية الحديثة حيث طغت العنصرية على مؤسساتها المختلفة وبشكل خاص في مؤسساتها العسكرية والامنية والقضائية، خاصة في المقاطعات الجنوبية حيث سادت تجارة العبيد لغاية الحرب الاهلية. ولكنها استمرت بأشكال مختلفة بعدها.

ولم يكن هذا الاحتجاج هو الاول بل سبقته احداث كانت العنصرية فيها محركا رئيسا. ففي النصف الأول من   القرن الماضي اُستهدفت التيارات العنصرية اليساريين والقادة النقابيين في أمريكا. بينما شهدت العقود الثلاثة الاخيرة موجات متعاقبة من العنف كان السبب في جميعها مقتل مواطن امريكي من اصل افريقي على يد شرطي ابيض.

العنصرية كمفهوم تاريخي

وقد ظهر مصطلح العنصرية كمفهوم في القرن العشرين حيث قامت اليونسكو بتعريفة عام ١٩٦٧على انه كل ما يعطي صفة معينة، كلون الجلد مثلا، خصائص مميزة عقلية او نفسية متوارثة، والتي هي وراء قدرات الانسان العقلية والاجتماعية وما قد يستطيع ان يحققه اجتماعيا واقتصاديا وبالتالي يصنف البشر في هرمية تصف قدراتهم وقابلياتهم. ففي امريكا يكون البيض في قمة الهرم. وفي الفكر النازي العنصر الآري هو المتغلب. وقد امتد التمييز  العنصري ليشمل الموروث الثقافي ايضا. ولم يتوانى بعض  المنظرين العنصريين عن استخدام تفسير تبسيطي للداروينية حول تفوق اجناس على اخرى حسب  ديناميكية البقاء للأصلح او نظريات لامارك من ان الخصائص الثقافية تتوارث أيضا. 

وقد تفنن العنصريون في تقديم نظريات علمية زائفة لشرعنه العنصرية في القرن الثامن عشر في ما سمي بعصر التنوير، مثل كتابات جورج كوفير الذين أعتبر لون البشرة كدلالة على وجود خصائص بيولوجية وعقلية في كل جنس بشري ثابتة ومتوارثة يمكن ترتيبها هرميا. فالأبيض في قمة الهرم السود في قاعدته كعنصر واطئ قليل الذكاء ومتحلل اخلاقيا واجتماعيا وبالتالي يحق استعبادهم وبيعهم في أسواق النخاسة. ومما يلاحظ هو تشددهم في الوقت نفسه بالنص الإنجيلي المقدس من ان الانسان قد جاء من ادم وبدون تناول لاهوتيا كيف اختلفت الاجناس. اما فلسفيا فقد أشار العالم الالماني المشهور ايمانويل كانت الى ان الروح الإنسانية الخالصة تتأثر بالمحيط البيئي والاجتماعي وعند تشكلها تبقى الخصائص العنصرية المختلفة ثابتة. وتطورت هذه لاحقا الى فلسفة سياسية لدى روبرت نوكس واخرين الذين طرحوا فكرة ان النقاء العنصري هو الأهم وهو القوة الدافعة للتطور والصراع التاريخي. أما الابعاد السياسية لهذا السرد العنصري فيكمن في أن سوق الرق يوفر آلية للحصول على عمالة شبه مجانية تحقق للإمبراطوريات الاستعمارية أرباحا فلكية عبر تشغيلها في المزارع والمصانع. لذا فالعنصرية هي نتاج تاريخي وجدت أساسا لتبرير حق البرجوازيات الأوربية في استعباد شعوب أخرى من اجل رفع معدلات فائض القيمة التي هو جوهر ومصدر أرباحها مغلفة بنظريات زائفة عن فوارق بيولوجية عن تفوق جنس بشري على آخر.   

ولم يتناول الفكر الكلاسيكي الماركسي موضوعة النقاء العنصري بشكل تفصيلي عدا اشارات الى ان الانسان حيوان اجتماعي يدخل من خلال انتاجه الخيرات المادية في علاقات انتاجية والتي بعلاقاتها الجدلية مع القوى المنتجة تشكل البنية التحتية للتشكيلات الاجتماعية الاقتصادية بدءا من المشاعة البداية الى الرأسمالية، والتي يعتبر البعض انها توصيف أوروبي وان ماركس تعامل مع بلدان الشرق بشكل مختلف في اشاراته الى النموذج الاسيوي للإنتاج في الهند وبلاد وادي الرافدين. وفي مخطوطات ١٨٤٨ وفي نقد برنامج غوته وصف ماركس الانسان كمخلوق له قدرات وصفات تجد تعبيرها في النشاط الانساني الانتاجي لتطويع الطبيعة. وانتقد ايضا آراء نوكس واخرين بأن نتاجاتهم هي شيطنة العرق الأسود. وكان ماركس وانجلز من مؤيدي حركات الغاء العبودية والقنانة والتي وصفوها بالبربرية.  

عولمة الحركات الاحتجاجية

ما يميز الاحداث الأخيرة هو الامتداد العالمي للاحتجاجات ضد العنصرية حيث تختلف جذريا عن مثيلاتها في القرن الماضي بسبب اتساع حركات التضامن وعولمة أنشطة التضامن ضد العنصرية بكافة اشكالها نتيجة انطلاقها في عشرات من البلدان، وأيضا في الدفاع عن حقوق الانسان ومن اجل العدالة الاجتماعية. والدور الفاعل الذي تلعبه منصات التواصل الاجتماعي كأدوات لنقل الاخبار والمعلومات، واصبحت جهازا فاعلا للدعاية والتحريض وتنظيم المشاركة في الاحتجاجات وتوحيد الشعارات الأساسية عبر المطالبة بالإصلاح والتغيير في البلدان التي للأيديولوجيا العنصرية حضور فيها، ومن اجل نشر قيم  الحرية وحرية التعبير والمساواة وحقوق الإنسان. وانعكست على شكل غضب عالمي متنامٍ بسبب تجذر العنصرية في العالم وأيضا الوحشية التي قُتل بها فلويد. وسلطت الضوء من جديد على تنامي العنصرية والتمييز في الولايات المتحدة التي تدعي انها المدافعة عن حقوق الإنسان. كل هذا اكد من جديد بأن الأنظمة الرأسمالية مهما استطاعت تجاوز ازماتها الاقتصادية فان النخر الاجتماعي والثقافي سيستمر، وان الامبراطوريات مهما تمددت وعظمت فأنها ستنتهي نتيجة ما تشهده من أزمات وصراعات تاريخية لأن تاريخ كل الحضارات في العالم تبدأ وتتمدد ثم تضمحل نتيجة التناقضات الطبقية الحادة. وتتباين تجلياتها حسب الظروف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والنفسية لكل مجتمع. ومنها ما نشهده اليوم من احتجاجات على النطاق العالمي، والتي هي احد مظاهر العولمة الإيجابية. ولا يأتي هذا الاختلاف الطبقي نتيجة اسباب وراثية او عنصرية او تفوق عرق على الآخر كما يدعي العنصريون، بل نتيجة ظلم تاريخي سببه الصراع الطبقي والتأزم الاجتماعي وطرق اكتناز الثروة.

ومع اشتداد وتصاعد الحركات الاحتجاجية ضد سيطرة البرجوازية ورأس المال في القرن التاسع عشر ونضالات الطبقة العاملة الصاعدة في أوروبا ضد سلطة البرجوازية، شكلت منظماتها النقابية  للدفاع عن مصالحها الاقتصادية ثم دخلت معترك النضال الطبقي السياسي عبر تبنيها الفكر الشيوعي والاشتراكي في معترك النضال السياسي الاوربي. ثم امتد الى جميع انحاء العالم في النصف الثاني من القرن العشرين وبعد اندحار الفاشية النازية، واصبح شبحا يهدد مضاجع البرجوازية التي تصدت له  بالنار والحديد والارهاب عبر استخدام سلطة الدولة، و ايضا بشن حرب فكرية نفسية لشق وحدة الطبقات المتصدية لها على اساس قومي أو عنصري. واحيانا يمتزج الاثنان، كما هو في الفكر النازي في ثلاثينات القرن الماضي او البعثي الكلاسيكي عربيا. ونلاحظ صعود التيارات المعادية للشيوعية والممارسات والسياسات العنصرية ولأهداف سياسية  خاصة في مرحلة الحرب الباردة وبعد انهيار نظام الاشتراكية القائمة، كجزء من ترسانة النظام الرأسمالي لمواجهة الحركات الاجتماعية واليسارية الجديدة المتسعة التي تطالب بحقوق الانسان والعدالة الاجتماعية، والتي اعتبرتها البرجوازية، وبحس طبقي مرهف، انها حليف موضوعي للأحزاب الشيوعية و اليسارية وجندت اجهزتها واستخدمت العنصرية والدين في محاولة للحد من نفوذها خاصة بين اوساط الشباب. وضمن هذه الترسانة الفكرية نشهد  تصاعد دور الأفكار اليمينية والمتطرفة و العنصرية التي وجدت طريقها الى البلدان العربية، والعراق أحدها، حيث تجسدت في الأفكار الطائفية والعرقية التي أدت الى مجازر ومذابح تصب في مصالح البرجوازيات الطفيلية المهيمنة على الشأن العراقي.

عرض مقالات: