عندما تربع الرئيس باراك اوباما ذو البشرة السمراء ومن أصول افريقية على عرش البيت الأبيض الأمريكي،اعتقد الكثيرون حول العالم بأن فايروس العنصرية داخل المجتمع الأمريكي ومؤسساته الحاكمة قد مات، أو إن التمييز العنصري اتجاه الملونين وبالأخص السود لم يعد يشكل ظاهرة فيه، لكن حادثتي ولاية ميرلاند وموت الشاب الأسود في احد سجون الشرطة سنة 2015  وما تبعه من تداعيات خطيرة تمثلت بموجة من الاحتجاجات والمظاهرات التي اجتاحت بعض المدن الأمريكية، ومقتل الرجل الأسود خنقا على يد احد رجال الأمن في مينيا بولس قبل أيام، أعادتا إلى الواجهة تاريخ التمييز العنصري في الولايات المتحدة الأمريكية، والذي ابتدأ منذ صيرورتها في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي، وكان أول ضحاياه السكان الأصليين لها وهم الهنود الحمر، الذين مارس البيض القادمين من وراء البحار أبشع صور القتل والإقصاء والاستغلال بحقهم ، يشير الباحث منير الحمش في دراسة له بعنوان (أمريكا والكنانيون الحمر).. (إن المستعمرين البيض قضوا على أكثر من مئة مليون هندي احمر من سكان أمريكا الأصليين).

لكن في إحصائية رسمية أمريكية صدرت عام 1900 ميلادي تشير إلى إن عدد الضحايا لم يتجاوز المليون شخص، قضى معظم هؤلاء في عمليات إبادة ممنهجة كانت تشرف عليها المؤسسة الحاكمة آنذاك، ويذكر الباحث الإسلامي علي عزت بيجوفتش رئيس البوسنة السابق في كتابه (الاسلام بين الشرق والغرب).. (إن قانونا كان ساري المفعول في الولايات المتحدة الأمريكية حتى عام 1865 ميلادي، ينص على ان من حق الأبيض الحصول على مبلغ من المال إذا قدم لأي مخفر شرطة فروة رأس هندي احمر)..

وقد راجت تجارة العبيد في النصف الأول من القرن التاسع عشر بسبب اكتشاف مناجم الذهب في أمريكا ، وإصدار قانون ينظم هذه التجارة من قبل الحكومة الأمريكية، حيث تم استغلال أكثر من عشرة ملايين هندي احمر في أعمال السخرة معظمهم من الأطفال الذين تم اختطافهم وترحيلهم للعمل في المزارع وفي هذه المناجم قضى أكثرهم من الجوع والإمراض ، كما أشار الكاتب جاري ناس في كتابه ( الحمر والبيض والسود )، ولازدياد أعداد العبيد بصورة كبيرة مما شكل خطرا على النظام السياسي الأمريكي مما اضطر حاكم ولاية بيتر بيزنت إلى الطلب من المجلس التشريعي بإصدار قوانين تساهم في القضاء على الهنود الحمر بقوله ( إن الرجل الأبيض الذي يعتبر الوقت من ذهب، والذي يعمل طوال اليوم لا يستطيع السهر ليلا لحماية ممتلكاته من الهنود لذلك يجب شن حرب إبادة عليهم ) وبالفعل فقد تم إبادة أكثر من مئة واثنا عشر مليون هندي احمر في الولايات المتحدة الأمريكية وأمريكا الجنوبية …

وكان للسود الحظ الأوفر من التمييز العنصري والاستعباد في الولايات المتحدة الأمريكية الذي بدأ من عام 1619 ميلادي، حين رست أول سفينة تحمل على متنها عشرين رجلا اسود استقدمهم البريطانيون البيض من أفريقيا للعمل في ولاية فرجينيا كخدم ومزارعين في حقول التبغ والقطن، وكانت هذه الحادثة نقطة الشروع في انتشار العبودية في الولايات المتحدة الأمريكية وأمريكا الجنوبية، حتى وصل عدد العبيد المستقدمين من أفريقيا في الأمريكيتين اثني عشر مليون شخص حصة الولايات المتحدة منهم أربعة ملايين، وقد شرعت عدة قوانين بين عامي (1680 -1700) ميلادي منها قانون جمعية بور جيسيس  العنصرية الذي ينص ( على إن العرق الأبيض هو المتفوق والمهيمن على العرق الأسود ) وقد أنتج هذا التمييز العنصري انتفاضة فرجينيا الدموية عام 1831ميلادي بقيادة نات تيرنر للمطالبة بحرية السود وقام السود بقتل العشرات من البيض، وتم قمع هذه الانتفاضة من قبل البيض وقطع جسد تيرنر إلى أوصال ومن ثم شنت حملة إبادة طالت المئات من السود في هذه الولاية كنوع من التنكيل والترهيب من قبل مليشيات عنصرية بيضاء.

استمر الجدل في موضوع الرق لعقود طويلة في الولايات المتحدة وخاصة بعد إقرار قانون عودة العبيد الهاربين من قبل الكونغرس الفدرالي عام 1850 ميلادي والذي ينظم عودة العبيد الهاربين من أسيادهم البيض إلى دول ألغت العبودية مثل كندا ، ونتيجة لهذا الجدل وهذا الصراع بين الأصوات المنادية بإنهاء العبودية في أمريكا وبين ملاك الأراضي الزراعية الذين يشكلون السود العنصر الأساس في الأيدي العاملة لديهم ، نشبت ما يعرف بالحرب الأهلية الأمريكية عام 1861ميلادي، وتعد رواية (كوخ العم توم )  احد الأسباب الرئيسية لنشوب هذه الحرب والتي كتبتها هيريت ستو عام 1852 ميلادي، وكانت أكثر كتاب مبيعا في العالم بعد الكتاب المقدس، وتناولت فيها الكاتبة موضوع الرق في أمريكا، والمعاناة والماسي التي يلاقيها العبيد تحت نير العبودية.

أدت الحرب الأهلية إلى نهاية الرق كملكية في أمريكا،  وما إن بدأت هذه الحرب حتى أتخذ جنرال الإتحاد بتلر بنيامين موقفا قانونيا ينص على اعتبار العبيد الذين أسروا خلال الحرب ملك للولايات المتحدة، وغنيمة حرب تم الاستيلاء عليها من العدو، وأعلن  أنها لا تعاد إلى أصحابها  حتى نهاية الحرب، وانتشرت الأخبار بسرعة، وحاول العديد من العبيد للفرار إلى أراضي الشمال، راغبين في أن يصبحوا غنيمة، انضمت الكثير من هذه الغنائم إلى قوات الاتحاد، لتقديم خدمات أو ليعملوا كجنود في تشكيل أفواج كاملة من السود، وقد صادق الكونغرس على قانون المصادرة عام 1861 ميلادي، والذي نص على مصادرة جميع الممتلكات، بما في ذلك العبيد … وبعد انتهاء الحرب الأهلية وانتصار الشماليين على الجنوبيين فيها  عام 1865 ميلاديا، أعلن الرئيس لينكولن (إعلان التحرير) والذي بموجبه انتهى الرق في الولايات المتحدة الأمريكية، لتتشكل بعد هذا الاعلان منظمة كو كلوكس كلان العنصرية من المحاربين الجنوبيين القدامى بقيادة الجنرال روبرت لي والتي عملت على إعادة العبودية للسود الأمريكيين واضطهادهم وفق رؤية مسيحية كاثوليكية تتخذ من الصلب والحرق وسيلة للتطهير واستمر عمل هذه المنظمة إلى أن تم حضرها عام 1922 ميلادي  … لكن هل فعلا انتهت العبودية في الولايات المتحدة..؟

بسبب الحاجة الماسة للأيدي العاملة القادرة على انجاز أعمال شاقة وصعبة ، وسبب طبيعة المجتمع الأبيض الأمريكي الذي تربى على مفاهيم وقيم تجعل منه العنصر السائد في هذا المجتمع، والتي زحفت هذه المفاهيم إلى صلب العقيدة المسيحية، حيث كان يجبر السود على الذهاب إلى الكنائس مع أسيادهم البيض ويجلسوهم في المقاعد الخلفية هناك ، ليستمعوا إلى موعظة رجال الدين الذين عملوا نوع من الموائمة بين الكتاب المقدس ومفهوم الرق من خلال الترويج لأفكار تخدم مصالح البيض العنصرية، ومحاولة إقناع السود على إن طاعتهم وخدمتهم لأسيادهم البيض هو جزء رئيسي من العبادة والتقرب إلى الله.

كل هذه الأسباب وغيرها مكنت الفكر العنصري المتجذر هناك من الالتفاف على قانون تحرير العبيد، وإيجاد بدائل للعبودية بصيغ اقل حدة، ومنها (قانون السخرة) الذي صدر عام 1880 ميلادي والذي يخص الأمريكيين من أصول افريقية، ويقول الكاتب الأمريكي دوغلاس بلاكمون في كتابه (الرق تحت أسم آخر) عن هذا القانون .. ( كان شكلا من أشكال العبودية الموجودة في الولايات الجنوبية قبل الحرب الأهلية، حيث كان يمارس بحق رجال أحرار غير مذنبين، وكانوا يجبرون على العمل دون تعويض ويباعون ويشترون، مجبرين على إطاعة البيض تحت أكراه بدني لا يصدق ) ويضيف الكاتب إلى إن هذا النمط من التعامل مع السود استمر حتى نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 ميلادي ، وان الآلاف قط خطفوا وبيعوا أو اجبروا على العمل مقابل أجور زهيدة ، كما إن الآلاف الآخرين من السود السجناء بيعوا إلى ملاك أراضي ومناجم الفحم ومعامل الطوب للعمل لديهم سخرة.. يقول المفكر الأميركي نعوم تشومسكي معلقاً على ارتفاع نسبة العنصرية في بلاده  (إنه لو أراد الإنسان قیاس أعمال العنف التی یتعرض لها المواطنون الملونون في أميركا حالیاً بفترة الرقیق والعبودية فإن الأعمال القمعیة التي یتعرض لها هؤلاء فی الوقت الحالي هي أکثر بكثير مما کانت في السابق) …

 إن هذه المقولة تسلط الضوء على حقيقة لم يستطع الإعلام الأمريكي الهوليودي أن يحجبها أو يسوفها وتكشف حقيقة المجتمع الأمريكي القائم على التمييز العنصري والتهميش بحق الأقليات الملونة فيه، بالرغم من تزعم الولايات المتحدة الأمريكية  للعالم الغربي المتحضر وانتهاجها للديمقراطية الليبرالية كأسلوب لإدارة الحكم والحياة فيها ، وهذا ما دعا إلى ظهور العديد من الدعاة المطالبين بالمساواة والعدالة داخل المجتمع الأمريكي بين البيض والسود، ومنهم داعية الحقوق مارتن لوثر كينغ، الزعيم الأمريكي من أصول افريقية والحاصل على جائزة نوبل للسلام، وهو مؤسس حركة المسيحية الجنوبية ، والتي أخذت على عاتقها المطالبة بالمساواة وإنهاء التمييز العنصري بحق السود في المجتمع الأمريكي، وانتهى به المطاف قتيلا عام 1968 ميلادي  على يد احد المتعصبين البيض الذي كان مسجونا لمدة عشرين عاما ، وتم تهريبه لينفذ هذه الجريمة، التي اندلعت على أثرها أعمال عنف في عدة ولايات أمريكية تطلب استدعاء اكثر من ستون ألف من الحرس الوطني لإيقافها بعدما تم نشوب اكثر من ستمائة حريق في واشنطن وحدها .. ان من يتتبع هذا السفر العدائي والعنصري الذي أسس عليه المجتمع الأمريكي منذ قرون، لا يستغرب ما فعلته وتفعله أمريكا في شعوب الأرض المغلوبة على أمرها، من تأيدها ومؤازرتها للدكتاتوريات المتسلطة على تلك الشعوب أو وقوفها بوجه الحركات التحررية والتقدمية والتآمر عليها في كل بقاع العالم.. أمريكا هي مهد العنصرية العالمية الحديثة، ورمز كبير من رموزها.

عرض مقالات: