- من المعروف أن صيغة الحكم الفيدرالي في إقليم كردستان العراق، هي وليدة نضالات الشعب الكردستاني وإنتفاضة الشعب العراقي المجيدة في عام 1991. وقد أقرت هذه الصيغة في الدورة الأولى لأول مجلس وطني كردستاني (البرلمان)، بتاريخ 04 / 10/ 1992، والتي دعت الى إقامة حكومة إقليم كردستان، وانها ثبتت ايضاً في الدستورالعراقي المقرمن الشعب عام 2005. وذلك لتنظيم العلاقة بين الحكومة الفيدرالية والإقليم بهدف ضمان قدر أكبر من الإستقلالية الذاتية في بناء وتكوين إدارة ممركزة ( على مستوى الإقليم)، وتقاسم السلطة، والعدل في توزيع الموارد المالية، إدارة السياسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
- ومنذ ذلك الحين يتقاسم الحزبان الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكوردستاني حكومة الإقليم بالمناصفة بينهما (ففتي ففتي). يقابل ذلك تهميش دورالاحزاب الاخرى من الشيوعيين والاشتراكيين والكادحيين والاسلاميين والعناصر المستقلة، مع السماح بمزاولة نشاطها السياسي وإشراكها بين حين وأخر في الإدارة الفيدرالية ومؤسساتها بشكل رمزي. وبعد عام 2003، شاركت الاحزاب الكردستانية في إدارة مؤسسات الإتحادية (السلطات التشريعية، التنقيذية، والقضائية)، وفق المحاصصة الحزبية والفئوية.
- وقد أصبحت نزعة الهيمنة والتفرد والتنافس ظاهرة ملازمة للحزبين الاتحاد الوطني والديمقراطي الكردستاني عبر تاريخهما السياسي، وذلك من أجل الهيمنة على السلطة والمال والنفوذ. وقد أشتدت هذه النزاعات عام 1994، لاسباب مختلفة على رأسها الإستئتار بإرادات المعبرالحدودي مع تركيا (إبراهيم خليل)، مما أسفرعن الإحتكام الى السلاح والإقتتال الداخلي، بدل الحوار الحضاري والمصالحة وممارسة الديمقراطية، والذي طال أمده أربع سنوات، الى أن انتهى بالمصالحة وإيقاف الإقتتال، بتدخل العامل الخارجي، وخاصة الامريكي. وعلى أثر ذلك أنقسمت الإدارة المركزية الى إدارتين: أربيل مع دهوك تحت سيطرة الحزب الديمقراطي الكردستاني والسليمانية تحت سيطرة حزب الإتحاد الوطني الكردستاني. وقد تم توحيد هاتين الإدارتين (عدا قوات البشمركة) في عام 2006، وتشكيل الكابينة الخامسة في الإقليم.
- وفي عام2015، حدثت اشكالية تمديد ولاية الرئيس مسعود البرزاني، بعد تمديدها لمدة سنتين، كما طرح الحزب الديمقراطي الكوردستاني عرض دستورالإقليم للإستفتاء الشعبي، إلا أن الاتحاد الوطني وحركة التغيير والاحزاب الاسلامية عارضوا ذلك وطلبوا إرجاع الدستور الى البرلمان لإعادة النظرفيه وتعديله قبل طرحه للإستفتاء الشعبي. ولكن هذا الموضوع لم يتم حسمه، مع بروز الخلافات بين حين وأخر تجاه مجمل الأوضاع التي يعيشها الإقليم، وإنتهاج السياسة الديماغوجية في الحوار بين الاحزاب المشاركة في الحكم، مما أوصل العملية السياسية في الإقليم الى ما هي عليه اليوم، وتعثرت عملية إيجاد حلول صائبة للأزمة الخانقة التي يمر بها الإقليم في مختلف مفاصل الحياة، وخاصة في جوانبها السياسية والاقتصادية والمالية والاجتماعية والامنية.
- وفي الانتخابات الاخيرة التي جرت في عام 2018، التي فاز بها الحزب الديمقراطي الكردستاني بالمرتبة الاولى، أعتمد الحزب على أسلوب الإستحقاق الإنتخابي بدلا عن الصيغة التوافقية، اي المحاصصة الحزبية والفئوية المعمولة بها سابقا في علاقاته التفاوضية مع الاحزاب الرئيسة، بخصوص توزيع المهام الرئيسية في كل من البرلمان وتشكيل الحكومة الثامنة في الاقليم. وقد مارس الحزب الديمقراطي أسلوب الضغط على الاتحاد الوطني، وخاصة بعد حصول الاخيرعلى مهام رئيس جمهورية العراق من دون التوافق مع الحزب الديمقراطي الذي حصل على منصب نائب رئيس البرلمان الاتحادي، ومطالبته بعدد أكثر من الوزراء في الحكومة الإتحادية، مما ساعده على الإنفراد بزمام الحكم على صعيدي رئاسة الإقليم وحكومته، مع معارضة برلمانية ضعيفة.
هذا بالاضافة الى إتهام الحزب الديمقراطي الكردستاني للاتحاد الوطني بالخيانه الوطنية العظمى والتواطوء مع الحكومة الاتحادية عند دخول قوات الجيش العراقي في 15/تشرين الاول ـ اكتوبر2017 ، (معركة كركوك )لاستعادة السيطرة على محافظة كركوك وحقول النفط فيها والاراضي المتنازع عليها بين الحكومة الإتحادية والإقليم.
- زيادة التوتر في العلاقات بين الحزبين على أثر تراكم وعدم حل مشاكلهما، مما أدى الى تفاقم الخلافات وإنعدام الثقة بينهما. وقد اخذت هذه المشاكل والخلافات اليوم طابعا آخرمن المواجهة بالسلاح الى بروزالخلافات الكامنة الى السطح بين حين واخر، وكل ذلك من إجل توسيع النفوذ والسلطة والمال والمنافسة على تشكيلات الأمن والبشمركة ، والحصول على أكبر المناصب في الداخل والمركز، والإندماج العضوي بين الجهازين الإداري والحزبي في مؤسسات المجتمع، وعدم الفصل بين السلطات القضائية والتشريعية والتنفيذية وحتى السلطة الرابعة ـ الاعلام، مما جعلها مؤسسات هامشية لا حول لها ولا قوة.
- وبعد مرور حوالي ثلاثة عقود عن هذه التجربة، تتعمق اليوم المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الإقليم، بعد تراكمها لفترة طويلة من دون معالجة. ويمكن إجمال هذه المشكلات بإختصار شديد (من دون الدخول في التفاصيل)، فيما يلي:
1.على الصعيد السياسي:
ـ وجود تباينات وخلافات فكرية بين الأطراف العملية السياسية، وخاصة الحزبين الرئيسين الاتحاد الوطني والديمقراطي الكوردستاني، حول مسالة تطوير الصيغة الفيدرالية وآفاقها المستقبلية؛
ـ عدم إنجاز دستور الإقليم وطرحه للاستفتاء الشعبي، وعدم حسم صيغة نظام الحكم على أساس رئاسي أو برلماني الى اليوم؛
ـ ضعف التنسيق والعمل المشترك مع الاحزاب في حركة التحررالكردية للاجزاء الاخرى من كردستان الكبرى، بهدف جمع شمل البيت الكردي وتوحيد خطابه السياسي؛
ـ التدخلات الإقليمية السافرة والمباشرة من دول منطقة (تركيا وبعض الدول الخليجية مثل قطر والسعودية التي يمتلك الحزب الديقراطي علاقات جيدة معها، وايران التي تمتلك علاقات جيدة مع الاتحاد الوطني)، وكذلك ضعف العامل الذاتي والإعتماد على العامل الموضوعي المتمثل في هذه الجهات وأمريكا وبعض دول الاتحاد الاوربي، وذلك عند إتخاذ القرارات المصيرية، بدلا من الإعتماد على الجماهير والإستفادة العقلانية من العامل الخارجي؛
ـ عدم حل كثيرمن الملفات في العلاقة مع الحكومة الإتحادية وفق للدستورالعراقي مثل: صيغة المشاركة في الحكومة الإتحادية، تفعيل وتطبيق المادة (140)، حول المناطق المتنازع عليها، ومشاكل العقود والإنتاج والتسويق الخاصة بالنفط في الإقليم، ومسالة البيشمركة وتوحيدها بين الحزبين الكرديين بوزارة الدفاع الإتحادية؛
ـ لا يزال الخطر الأمني قائما من بقاء (داعش) والتنظيمات الارهابية الأخرى، وأن السلم الاهلي معرض للتهديد ايضا، وخاصة في المناطق المتنازع عليها، والنزاعات الداخلية.
- وعلى الصعيد الاقتصادي:
ـ عدم وضوح فلسفة النظام السياسي في تبني رؤية شفافة وإستراتيجية واضحة لعملية التنمية الاقتصادية ـ الاجتماعية المستدامة؛
ـ الظروف المعيشية الصعبة بسبب عدم صرف وتوزيع رواتب الموظفين بشكل منتظم، وتخفيضها بسبب إستقطاعات الإدخار الإجباري؛
ـ عدم إستقرار حصة الإقليم من الموازنة العامة الاتحادية، والإعتماد على الاقتصاد النفطي ـ الريعي في ايرادات الإقليم التي تنقصها الشفافية ويستشري فيها الفساد المالي. وكذلك سوء إستخدام المال العام، مما تسبب في شحة الموارد المالية؛
ـ هيمنة الصفة الاستهلاكية والكمالية على الاقتصاد، والأعتماد المفرط على إستيرادها، وإغراق الأسواق المحلية بها، على حساب تطوير وتنمية الأنتاج الوطني؛
ـ تفشي نظام الفساد المالي والإداري في كل المفاصيل الإدارية والحزبية والقطاعات الاقتصادية؛
ـ تصل ديون إقليم كردستان الخارجية والداخلية الى أكثر من (100) مليارد دولار؛
ـ ضعف آداء هيئة الرقابة المالية والنزاهة، ورفع تقاريرهما الى البرلمان لدراستها وإتخاذ الإجراءات اللازمة بصددها.
3.على الصعيد الاجتماعي:
ـ نسبة البطالة (25 ـ 30)% من قوة العمل، ونسبة مستوى خط الفقر(15) من عدد السكان البالغ اكثر من (5 ) نسمة؛
ـ تزايد حدة الإستقطاب والتفاوات في المجتمع، وظهور فجوة كبيرة بين الفقراء والأغنياء؛
ـ ضعف شديد في مواكبة القوى العاملة للتكنلوجيا الحديثة بهدف رفع الإنتاج والإنتاجية وتحسين نوعية المنتوجات؛
ـ تراجع ورداءة الخدمات الصحية المجانية للمواطنين؛
ـ تدني ورداءة خدمات التعليم المجاني في جميع مراحل الدراسية؛
ـ ضعف الوعي العام والمستوى الثقافي والحضاري للمجتمع. وضعف دور المجتمع المدني والمنظمات المعنية في ممارسة الديمقراطية والتعويد على الحوار البناء، والمشاركة الفعالة في صنع القرار، وممارسة الرقابة الشعبية؛
ـ التراجع في تأمين الضمان الاجتماعي للفقراء والعاطلين عن العمل لتحقيق العدالة الاجتماعية؛
ـ عدم الإعتناء بجودة الإنتاج الذي يعتبر أحد عناصرالإنتاج المهمة، ورداءة تقديم الخدمات التسويقية وفق المعايير القياسية لصالح المستهلك وحمايته؛
ـ ضعف المسوولية الإجتماعية تجاه البئة وحمايتها من التلوث.
- وأمام هذه الصورة القاتمة للأوضاع في الإقليم، التي يتحمل المسؤولية الرئيسية عنها الحزبان الحاكمان: الاتحاد الوطني والديمقراطي الكردستاني، وتفاقم الهوة بينهما يوما بعد يوم، فإن العلاقة الإستراتيجية التي تربطهما تجرأنفاسها الاخيرة وتنتظر موتها السريري. من هنا، توجه مجلس محافظة السليمانية، الذي يهيمن عليه الاتحاد الوطني الكردستاني وحركة كوران، الى تشكيل لجنة في 30 نيسان/ ابريل2020، بغية تطبيق قرارالمجلس بالإنتقال الى صيغة اللامركزية الإدارية والمالية لتسييرأمورالمحافظة، وذلك من خلال نقل بعض سلطات الادارة المركزية الى السلطة المحلية في محافظة السليمانية كشكل لتقاسم السلطة مع الحزب الديمقراطي الكردستاني، المهيمن على الإدارة المركزية (على مستوى الاقليم)، إذ أن الإدارة المركزية في اربيل ليس لها تحفظ على ذلك، شرط أن لا يؤدي الى تمزيق وحدة الإقليم مستقبلا.
ويرى البعض ان هذا الاجراء قد يؤدي الى تقسيم حكومة إقليم كردستان الى إدارتين مستقلتين، كما حدث ذلك في عام 1994، المشار اليه في الفقرة (3) اعلاه، وزعزعة وحدة الاقليم، وبالتالي إنفراد الاتحاد الوطني بالتعامل بشكل مباشرمع الحكومة الاتحادية، وطلب منها تخصيص حصتها من الموازنة العامة الإتحادية بشكل منفرد عن ميزانية الإقليم.
وهناك من يرى ايضا، بان الإدارة المركزية في الإقليم تخصص حصة أكبرمن مخصصاتها للإعمار والبناء والمشاريع والخدمات في محافظتي اربيل والدهوك لأنهما تحت هيمنة الحزب الديمقراطي الكردستاني وذلك على حساب محافظتي السليمانية وحلبجة الخاضعتين لسيطرة الاتحاد الوطني وحركة كوران، مع تشديد البيرقراطية في عملية إتخاذ القرارات في المسائل المهمة والاساسية التي تخص المحافظتين الاخيرتين. ولذلك، فإن اللامركزية الإدارية والمالية قد تساعد كل محافظات الإقليم على تقديم خدمات أفضل للمواطنين وتنفيذ مشاريع حسب أهميتها وفق رؤى استراتيجية واضحة مبنية على برامج وخطط مدروسة.
إن التوجه نحواللامركزية الإدارية والمالية في كافة محافظات الإقليم يمكن تطبيقها وفق: الضوابط والمعاييرالشفافة، والاستعانة بمبادئ الإدارة الرشيدة المعروفة، وتوسيع القاعدة الديمقراطية وممارستها في الحياة اليومية، وتحديد الواجبات والمسؤوليات في تسييرالامور، مما سيساهم في تخفيف البيروقراطية المركزية في إتخاذ القرارات، وتحسين كفاءة الإدارة الذاتية، وتعززالثقة من خلال العمل المشترك والمتابعة والتنفيد مع الإدارة المركزية في اربيل.
ختاما، أن المحاصصة الحزبية الضيقة والفئوية والتوافقات السياسية المصلحية الداعمة للفساد المالي والاداري، والشركات الإحتكارية التي يمتلكها الحزبان المتنفذان، تمثل (الدولة العميقة) التي تسيركل انواع النشاط الاقتصادي لمصالحهما، قد ساهمت وسببت في فشل الادارات المتعاقبة منذ 1992 وحتى اليوم في آداء مهامها لصالح المجتمع، وأوصلت مسيرة تجربة الفيدرالية في الإقليم الى الأزمات والإخفاقات في المسارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والامنية.
لقد حان الوقت لإجراء التغيير والإصلاح في بنية النظام السياسي والاقتصادي في الإقليم، والجلوس الى طاولة الحوار البناء مع الاطراف المساهمة في الحكم والعملية السياسية وإعادة الثقة بينها، وإقرار مبدأ تداول السلطة، وتأمين الإستقرار السياسي والاقتصادي والسلم الاجتماعي، وصيانة الحريات وحقوق الإنسان، وتحقيق نوع من العدالة الاجتماعية ـ الاقتصادية للمواطنيين، وإتخاذ اجراءت صارمة وحازمة لوقف منهج الفساد المالي المستشري على كافة المستويات، وتوحيد الخطاب السياسي وجمع شمل بيت الكردي، وتفعيل دور الجماهير الكردستانية في عملية صنع القرار، وتحسين العلاقة مع الحكومة الإتحادية وفق المصالح المشتركة.
إن خفض حصة ميزانية الإقليم من الموازنة العامة الإتحادية في حالة عدم تسليم الإقليم( 250.000) برميل نفط يوميا الى الحكومة الإتحادية، مع تدني أسعار النفط وتصديره من اربيل مباشرة (تنقصها الشفافية وتستشري فيه الفساد المالي والإداري)، بالإضافة الى نفقات حملة مكافحة (فايروس كورنا)، قد يؤدي الى أزمة أقتصادية كبيرة، ويفاقم من حدة الصراع بين الاطراف السياسية، ويهدد الامن والإستقرار والسلم الاهلي الى الخطر، وفي نهاية المطاف تفكك وحدة الإقليم، وإجهاض تجربته الفيدالية، وتقويض شرعية الحكم القائم.
وفي هذه الحالة، يتوجب على حكومة الإقليم إتخاذ قرارات وإجراءات سريعة وحاسمة وتاريخية تتعلق ببنية النظام القائم من شأنها إنقاذ الإقليم وشعبة من ازماته الراهنة وإيصاله الى برالأمان، بما في ذلك حماية وحدة الإقليم وتجربته التاريخية.