تلكم هي السخرية بعينها حين تحولت فرحة العراقيين بسقوط الصنم وانهاء أخطر حقبة طغيان مر به العراق ومراهنة العراقيين على أنهم يعيشون حالة تحول حقيقي بين ليلة وضحاها بعد أن تحولوا في زمن الطاغية الى قرابين على مذبح الحرية والكرامة، وتعرضوا لأبشع صور الإبادة الجماعية ولأتفه الأسباب، حيث كانوا يساقون الى المقاصل الجماعية، فلا غرو إذن أن ترتفع أصواتهم لمعارج السماء استبشارا بزوال الكابوس المخيف، رافعين أياديهم بالدعاء لأن يكون البديل وطنيا مخلصا لبلده وشعبه ويعمل على أن يجعل من العراق واحة أمل ورخاء وخير وتعويض كل ما فات المظلومين من اقصاء وحروب وجوع وعذاب يومي لا يوصف، وكان البديل المؤمل هم من كانوا ضد الطاغية بمعظمهم ممن واجهوا النظام بقوة وتحالفوا مع قوى العالم لتغييره، وما أن تسنى لهم ذلك، تحولوا بقدرة قادر إلى رجالات هدم وليس بناء، وتفرغوا لأبشع صيغ السادية في فرض الوصايات التي ما أنزل الله بها من سلطان، من نهب المال العام وإخضاع نظام الحكم الى الطائفية ومحاصصة الامتيازات مالية كانت أم سياسية، أم غيرها، وتوزعت كعكعة العراق الماسخة المذاق أصلا من كل شيء إلا من ثروته التي حولها القادمون الجدد من ناهبين ولصوص وحولوا الكراسي الى ملك عضوض وأموال الفقراء موروثة لهم وحدهم دون سواهم، وكأني بهم يريدون إفهام الناس بأن حظوتهم هي في امتلاك خيرات العراق وترك الفتات للمسحوقين، هذا إن بقي فتات في خزينة الدولة بعد أن أفرغوها بالكامل وأشاعوا قيما جديدة لم تكن معروفة بكل تفاصيلها للعراقيين، من اطلاق يد السراق من المنتمين لأحزابهم الدينية وتحولت تلك الأيادي إلى أخطبوط شره وعنيف وجائع، تاركين خلفهم ما تبقى من أنين تركه نظام صدام الأبله لفقراء العراق ومنكوبيه، ويكملوا مسلسل الخراب الذي تركه مجرمو البعث، ليمسكوا هم براية الفساد والهدم وتكملة مشوار الحقبة البعثية الرثة وترك العراق لمصيره المحتوم والعراقيين لعذاباتهم وصراخهم، مستخدمين الدين وتحديدا المذهب ورقة يلعبون عليها، وهم عارفون بأن البسطاء والجهلة والأميين من العراقيين متمسكون بطقوسهم التي أطلق لها اللصوص العنان، ليتفرغوا هم للنهب وبوضح النهار.

أليس من حقنا أن نصف فرحة العراقيين بسخرية القدر، حين خرجوا زرافات ووحدانا لمنح أصواتهم لسراقهم وفاسديهم؟

إن سبعة عشر عاما من التغيير ليست بالهينة، حين يعرف القاصي والداني بأن العراق الذي خرج من محارق ومغامرات صدام الغبية كسيحا في كل شيء، لم يعرف زحزحة بسيطة باتجاه التغيير المنشود للعمل في احداث نقلات نوعية في بنيته المخربة وإعادة اعمارها واسعاد الشعب الجائع واطلاق الحريات وتأسيس نظام حكم يتسع لجميع العراقيين بكل مكوناتهم وطوائفهم ومعتقداتهم، وتوزيع الثروة بشكل عادل ومتعقل من أجل بناء الغد المشرق لكل العراقيين وازاحة غبار الضيم الذي لازمهم طيلة عقود البعث الأربعة من سطوته وقسوته المفرطة، ليأتي من يكمل المشوار الرهيب بوتائر أعنف وأشد وأمضى ليفاجَأ العراقيون بأنهم وقعوا في الفخ، وما معارضو الأمس من الأحزاب الدينية وما كانوا  يعلنون، عكس ما يضمرون وكأنهم كانوا يهيئون لتحويل العراق إلى بؤر من الفساد امتدت وبشكل سريع ومدهش مثلما النار في الهشيم، لتتفرغ هذه المخلوقات الرثة وبسرعة البرق الى مافيات خطيرة ليتفننوا في صيغ اللصوصية التي أحرقت الأخضر واليابس.

كنا نحن العراقيين المراقبين للأوضاع السياسية العجيبة والغريبة، كثيرو التساؤل بدهشة الجاهل لتفاصيل ما يحدث من هول الصدمة، لم نصدق أبدا ما كان يجري ونحن بعيدين عن الوطن، ونضرب أخماسنا بأسداسنا، حتى بلغ بنا اليأس مديات لا يمكن تصورها، ذلك أن العراقي قد حقنه المنافقون والمتاجرون بالدين بمورفيم المعتقد والمذهب والطائفية والمحاصصة الكريهة، وأحكموا القبضة عليه بفتح الأبواب مشرعة لممارسة طقوسهم والقيام بها كيف يشاؤون، والتنازل عن العراق لأعدائه والحاقدين عليه، الذين يضمرون العداء والحقد ضد شعبنا المظلوم، ليتفرغوا هم لسرقة العراق بشكل منظم وواسع ومخيف، لنتذكر قولة خالد الذكر العلامة ابن رشد "إن التجارة بالأديان هي التجارة الرائجة في المجتمعات التي ينتشر فيها الجهل"  

وكما قال ماركس بأن " الدين أفيون الشعوب" وكان سراق العراق الجدد يعرفون جيدا بأنهم مأمنون من هذه الناحية، اعتقدا منهم بأن الناس قد "نامت عليهم الطابوكة" وكان هذا التصور عين الغباء، لأن العراقيين مهما بلغ بهم الصمت والصبر والتحمل على الضيم، لا بد وأن ينهضوا غيلانا لا يوقفهم أحد أبدا مهما كانت سطوته وسلطته وضحكه على الذقون.

فكان الحراك المبارك والتفجر العظيم والزلزال الذي لم يبلغ بعد مدياته الحقيقية في جرف الفاسدين لمزبلة التاريخ بعد تعريتهم وفضحهم ومحاسبتهم وتخليص البلاد والعباد من شرورهم ومكائدهم. ويقينا ان اشد ما يخيف الطبقة الحاكمة الهبة الجماهيرية المباركة التي تتحين الفرصة لتجاوز محنة الكورونا للانقضاض على طغمة الفساد اذا لم يعودوا لرشدهم، واظنهم وصلوا الى حالة من الإعاقة الذهنية مما جعلهم لا يعيرون اهتماما للطوفان القادم الذي لا مديات له الا بجرفهم غير مأسوف عليهم.

هنا نهض الشموخ العراقي بكل عنفوانه في دواخلنا بعد أن تركنا الباب مشرعا لكل المتربصين والحاقدين وبائعي الضمائر والقيم من عراقيين من أيتام البعث الخائب والعرب السائرين في فلكهم ليتقولوا علينا بأقذع التوصيفات وبأننا سنندم لكنس البعث وازلامه المجرمين، لأننا فتحنا المجال للصوص والبديل الأنجس من نظام المقبور، ليتصحح المسار ويعود الأمل من جديد وبوتيرة أشد وأمضى ونحن نشاهد وبفرح وفخر واعتزاز ما يحصل في شوارع العراق من غليان وثورة عارمة لا يمكن إيقاف امتدادهما وتصاعدهما إلا بالتغيير الجذري ووضع العراق على الطريق السوي.

وهنا لا بد للسيد الكاظمي ان يفهم ان لا بديل له مطلقا الا الاصطفاف لمطالب المنتفضين والا سيكون مصيره كمن سبقه، ويبقى العراق في ذات الفوضى بانتظار المخلّص الوطني الحقيقي والوفي لهذا التراب المقدس وهذا الشعب المظلوم. وعليه عدم التردد في القيام بإصلاحات جريئة ومدوية لاجتثاث الفاسدين وتصحيح مسار العملية السياسية وعودة الحق لنصابه، إنصافا لدم شهداء الانتفاضة والجرحى الأبرياء وإعادة الأموال المنهوبة وسحب السلاح المنفلت ومحاسبة من تسبب في كارثة الموصل وجريمة سبايكر، ونحن بانتظار مبادراتكم التي ستشفي غليل الأرامل والأمهات والأيتام وكل العراقيين المتضررين الذين ينتظرون ساعة الفرج الحقيقي.

طوبى لكم أيها المنتفضون الأبطال وانتم تزاحمون الوقت للانطلاق العارم من جديد، ومرحى لكم من عراقيين أحرار رفعتم بهذا الحراك المبارك رؤوسنا ولا يغرنكم تخاذل اللصوص وخونة الشعب، إنهم حرابي خطيرة لا تأتمنوهم تحت أية ذريعة كتخويفكم وتهويل القادم من الأيام لمجرد بث الخوف والحذر في نفوسكم ليسلموا هم من العقاب ويستمروا في الفساد والخراب وتبقون أنتم في الدرك الأسفل "وحاشاكم" أن تبلغوا هذا الدرك لأنكم أقوى وأشد بأسا ونشامى حقيقيون.

واصلوا حراككم المبارك من أجل العراق وكرامة العراق وشموخ العراق ومن أجلكم أنتم ومن أجل مستقبل أبنائكم الذي سيرهنه الفاسدون في سوق النخاسة، ومن أجلنا نحن اخوتكم في المواطنة والعزة والكرامة.

شكرا لكم لأنكم رفعتم رؤوسنا عاليا امام الصديق قبل العدو وبيّنتم من هو العراقي وكيف يكون في المحن والشدائد، إذا ما نهض هادرا كأنه الموج المتلاطم.  

دامت لكم الانتصارات وإلى الغد المشرق

عرض مقالات: