مع بدايات تفشي وباء كورونا في العالم العربي، أواخر شباط / فبراير الماضي، أخذ يتفشى بموازاته نوع آخر من الوباء يجري الترويج له في وسائل التواصل الاجتماعي، بل والفضائيات العربية؛ ويتمثل في كالعادة في كل الكوارث في اجتهادات غير علمية لأسباب الوباء، باعتباره امتحاناً من الله سبحانه وتعالى ضد خلقه، ومن ثم تقديم علاجات ووصفات شعوذية للتشافي منه لا تمت بالعلم والقيقة بصلة.

 وهذا بالضبط ما تقوم به حالياً شريحة كبيرة من مشايخ الدين في عدد كبير من البلدان العربية، ناهيك عن عدم توانيهم في حض مريديهم البسطاء على عصيان سٌبل الوقاية الطبية العلمية من الوباء، كالحجر المنزلي، والتباعد الاجتماعي، وتأدية العبادات في البيوت. وهذا ما يذكرنا بممارسات من هذا القبيل كانت تمارس في العصور الإسلامية الغابرة؛ ومنها -على سبيل المثال لا الحصر – ما ورد مؤخراً في تغريده لصحيفة” اليوم السابع " المصرية: ففي سنة 1374 م حيث اجتاح الطاعون مصر ليحصد فيها أعداد هائلة من أرواح المصريين، باءت بالفشل كل المحاولات العلاجية الشعوذية الدينية بغية السيطرة على الوباء بالفشل الذريع. في البداية أمر كبار مشايخ الأزهر أن ينكب الناس على قراءة " صحيح البخاري”، لكن الوباء ركب رأسه وواصل حصاده أرواح المصريين بمعدلات رهيبة أكبر، وازاء ذلك تفتقت عبقرية المشايخ بحل آخر تمثل في جمع 40 شخصاً من الأشراف يحملون إسم” محمد " في الجامع الأزهر ليقرأوا القرآن من بعد صلاة الجمعة حتى صلاة العصر ثم بعد ذلك أن يصعدوا فوق سطح الجامع ومآذنه ليأذنوا معاً، ففعلوا ومع ذلك أخذ أزداد الوباء العنيد ينتشر ويتفشى بشكل جنوني أكبر فارتفعت أعداد ضحاياه. وكانت المذيعة المصرية التي ظهرت في فيديو التغريدة المشار إليها بدأت حديثها بالتهكم غمزاً على مشايخ الجهل في عصرنا: " لو أنت عاوز تتخلص من كورونا أقرأ سورة نوح 3363”، ونقلت بعد ذلك عن المؤرخ " إبن كثير”، بأنه في سنة 749 هـ وأثناء تغول الطاعون طلب أحد السلفيين من الناس للتخلص منه أن يقرأوا سورة نوح 3363 مرة، ففعلوا لكن النتيجة جاءت مخيبة للآمال، حيث حصد الوباء هذه المرة 200 ألف شخص في القاهرة وحدها! 

ومنذ بضعة أسابيع ينتشر في وسائل التواصل الإجتماعي على أوسع نطاق مقطع من فيلم سوفييتي قديم اُنتج عام 1956 إبان عهد خروشوف بعنوان " إبن سينا " ، وهو كما نعلم أحد أبرز أعلام حضارتنا العربية - الإسلامية ، وبدا هذا المقطع قد جاء في توقيته المناسب ليذكّرنا ليس بصفحة مشرقة من صفحات تراثنا العلمي والفلسفي فحسب  بل والتراث السياسي السوفييتي ازاء المنطقة العربية  ، وليفند هذا المقطع  شعوذات " مشايخ الجهل " الذين ما برحوا  يعيدون وصفات السلف " الصالح " نفسها لمواجهة الجائحة الحالية ، فكأنما عقارب الساعة لم تتغير منذ تلك العصور الغابرة  . وليس بعيداً عن الدلالات إغلاق عدد من أكبر المقدسات الإسلامية في منطقتنا ، وبضمنها إيران مركز تفشي الجائحة وعلى الأخص بؤرتها في قم ، والعراق الذي رأينا مشاهد لبعض محافظاته الجنوبية تبرز تحديهم لسُبل الوقاية في بعض المساجد والحسينيات بتحريض من مشايخهم لكي لا تبور تجارتهم القائمة على الجهل والتجهيل في أوساط عوام الناس البسطاء  ، هذا  رغم قيام السلطات والمعنيين بالمراقد المقدسة بتنظيفها  وتعقيمها  والتي لطالما  نسجت حولها أساطير دينية ما أنزل الله بها من سلطان حول  قوتها الروحية الخارقة في الاستجابة لدعوات مريديها فوراً من كل مشاكلهم المستعصية بما فيها المرضية ! 

ومن المؤكد بأن أولئك المشايخ لو شاهدوا مقطع الفيلم ونصتوا إلى ما يقوله إبن سينا فيه لما تزحزحوا عن تمسكهم بمواعظهم الخرافية بإسم الإسلام ووصفاتهم العلاجية غير العلمية.

وأنت تتابع وقائع مقطع الفيلم المترجم تتملكك دهشة شديدة ممزوجة بالإعجاب لما كان يتمتع به ذلك الطبيب والعالم والفيلسوف إبن سينا قبل ألف عام ونيف من علم ومعرفة عميقة بشؤون الطب، وكان يُلقب لتبحره مجالات علمية متعددة " الشيخ الرئيس”؛ هو الذي كان موسوعة زمانه في علوم شتى، منها الفلسفة والموسيقى والطب. وفي هذا المقطع إذ يوصف لك بدقة خواص وباء " الطاعون”، وسُبل محاصرته والتخلص منه، تشعر وكأن هذا الرجل الحاذق يعايش عصرنا في ظل جائحة كورونا، حيث وصف الوباء بأنه ينتقل عبر الهواء وبملامسة الأيدي ويلتصق بالشعر. ومن إرشاداته لتفادي الوباء: ضرورة التباعد الاجتماعي، غسل الأيدي بمحلول من الخل، التزام الحجر المنزلي، إغلاق الأسواق، وفتح مراكز البيع في بعض البيوت.

ومع أن معارف ابن سينا عن خواص الاوبئة وسُبل علاجها معروفة لكل من قرأ واجلو بعض كتبه أو من اطلع على سيرته، إلا أن ما حققه مقطع الفيلم السوفييتي من انتشار وشهرة عظيمين لدى ملايين الروس والعرب ليٌرينا الدور الكبير الذي كانت تلعبه السينما في توعية الناس بمثل هذه الأمور في الوقت الذي مازالت السينما العربية والأعمال الدرامية مقصرة للأسف عن لعب هذا الدور. ولو أن السينما السوفييتية أولت اهتماما أكبر بمثل هذه الأعمال من التراث العلمي العربي وترجمتها لكم كانت استفادت من تعزيز مكانتها في أوساط فئات اجتماعية وثقافية مختلفة من الشعوب العربية! 

عرض مقالات: