ليس أمراً عجيبا ضبط إيقاع ذلك وتحقيقه ان توفرت الارادة. إنما العجب ألا تجد الأطراف القائمة على رأس السلطة ومؤسسات الدولة من أمرٍ يجعل المواطن يطمئِن على حياته ومستقبله وحق المواطنة، كما يشعر بالاقتراب من نهاية النفق وعبور بلاده الازمات والمحن.

 ليس بالمستطاع التنبؤ بما يجري في العراق ومتى تحل أزمة الحكم والاستئثار بالسلطة؟، وماذا يُمكن أن يطرأ على السياسة العامة للدولة بعد ان توقفت مظاهرات الاحتجاج التي بدأت في اكتوبر 2019، بسبب انتشار وباء الكورونا المستفحل وانتهاز احزاب السلطة والاسلام السياسي ومنظماتهم المسلحة، الفرصة، لاخماد الثورة والتنكيل بها.. الصراعات الطائفية والعرقية لم تتوقف وزادتها حدة "عقدة" رئيس الوزراء مستحيلة الحل. ولم تنكفيء احزاب السلطة عن عنادها وشد القبضة على عنق المجتمع لتحقيق مآربها الفئوية والشخصية، وبسط نفوذها للمهيمنة على الرئاسات الثلاث. ومنذ تشكيل أول إدارة حكم في البلاد على يدِ الاحتلال، لا تزال القضايا المصيرية الهامة التي تعني في الدرجة الأولى المواطن العراقي، بين أوساط "الكتل"، موضع خلاف يؤدي بين الحين والآخر إلى صراعات تكاد أن تقوّض مصير العراق أرضاً وشعباً، وتتجه بهما نحو المجهول. وفي مقدمة هذه القضايا الحساسة، ليس افتقار الماء والكهرباء وأتساع الهجرة والتهجير وتصاعد عدد الأرامل واليتامى وتفشي البطالة والإرهاب والقتل على الهوية فحسب، إنما هي مسألة الحكم برمته، حيث يفتقر الى المرجعيات الدستورية والقانونية والقضائية التي يمكن الاحتكام إليهما على أساس مهني نزيه، وليس على أساس تصورات عقائدية واثنية تتجاذبها تناقضات يتراخى معها القانون والدستور على هوى أطراف الصراع وما تستوجبه مصالحهم الطائفية والقومية الضيقة وفق قاعدة الحفاظ على ما يسمى "التوافق" سيئ الصيت الذي عطل ميكانيكياً ودستوريا كل أمر في البلد.

 إلى ذلك فلا زال موضوع قانون الانتخابات "احد اهم شروط المتظاهرين الرئيسية" لم يصادق عليه لحد الآن. وقانون الاحزاب لم يشرع بعد، ولاتزال مفوضية الانتخابات موضع جدل مثلما العديد من مواد الدستور الخلافية التي لا تنسجم مع التطورات السياسية التي طرات على الساحة العراقية والاقليمية والدولية، وتتعارض العديد من مواده في المقام الاول مع مصالح الوطن والمواطنين. وعناصر الحشد الشعبي والميليشيات المسلحة التي شكلت كلها على أساس الولاءات والمحاصصات الطائفية والعرقية والحزبية، ليس في وارد المؤسسة ضمها إلى القوات العسكرية وقوى الشرطة والأمن العراقية. ويشكل موقف الأطراف السياسية المتنفذة "داخل السلطة وخارجها" من العناصر المسلحة الخارجة على القانون، انتهاكا خطيرا، اذ تعتبرها "أداة ردع" للضغط وتوجيه المسارات السياسية ـ والفئوية ومنها تمرير وزارة المكلف الثالث المقبلة، وطبيعة حكومته العتيدة وفرض الشروط مسبقا.    

سعى الاحتلال منذ غزوه للعراق إلى تشجيع الاتجاهات والأفكار الهادفة إلى إنهاء كيان العراق كوحدة وطنية، أرضاً وشعباً، بدعم من الأحزاب الطائفية والشوفينية التي تتربص الفرص لتحقيق مآربها. وما كان تكوين مجلس الحكم الذي تألف على أسس أثنيه، إلا خطوة أولى في هذا الاتجاه لحقها خطوات أخرى في إطار ما يسمى بالعملية السياسية، التي اعتمدت على تفكيك الروابط الوطنية وتعويضها بروابط طائفية وقومية وعشائرية، غير معروفة في ثقافة العراق والعراقيين. ولتعزيز هذا النهج سمحت الحكومة للميليشيات المسلحة بالعمل خارج إطار الدولة وعلى أسس طائفية أو قومية، لا بل ودعمتها بالمال والسلاح للوقوف بوجه من يعارض سياساتها واستبدادها بالحكم. كان لها شرف القيام بهذه المهمة خلال حركات الاحتجاج وسقوط آلاف القتلى والجرحى الابرياء.

في ظل أزمة الكورونا وتدهور اسعار النفط وانكماش الاقتصاد واتساع رقعة الجوع بسبب الحظر على اثر الجائحة، يواجه العراق ومستقبله مخاطر جذرية، جيوسياسية ومعاشية وامنية ـ الأمر الذي يتطلب المسائلة عما يجري من خطط تحت أقنعة كاذبة لا تريد احزاب السلطة إضاءة الحقائق والكشف عنها ووضع حدٍ للتبعية والاستهتار باستقلال البلد وخيراته ومواطنيه.. فالثروات النفطية والغازية لم تعد لها من ناحية الاسعار والطلب اية قيمة مادية ومعنوية تكفي لاعالة المجتمع وسد احتياجاته. وبحجة حاجة العراق للخبرات والتكنولوجيا الأجنبية، تستمر خطط إحالة عقود حقول النفط والغاز إلى شركات اجنبية بالسر مع غياب الحديث عن تشريع قانون جديد للنفط والغاز. فيما يحتفظ إقليم كردستان بحقه في الانتاج مع شركات اجنبية ووهمية دون أي دور للحكومة المركزية، بذريعة أن "قانون الإقليم للنفط" أعطى الصلاحية المطلقة لحكومة الإقليم القيام بذلك. فيما تتعرض مصالح العراق وشعبه بسبب ذلك للخطر ويتكبل خسائر مادية ومعنوية كثيرة..ان المبررات التي تحاول قوى وأحزاب السلطة "شيعية وسنية وكردية" تسويغها للبقاء في الحكم تحت ذريعة "الاستحقاق الانتخابي" بمعنى "حاميها حراميها"، ستبقى غاية لا جدوى منها. وان ما يعرف بالحكومة الحالية، لا تمتلك، لا الشرعية ولا الأهلية لحكم البلاد بهذه العنجهية والاستمرار الى أبد الآبدين تقاسم ثروات العراق والسلطة فيما بينها.

إن مسألة الصراع المفتعل فيما يتعلق بـ "التكليف" لرئاسة الوزراء خلال الاشهر الأخيرة، أضاء السبيل أمام خطورة الوضع وتفاقمه في العراق. فأحزاب الإتلاف الشيعي يتزعزع تحت قهر الزعامات وارادة الميليشيات، ولا يدرك خطورة المرحلة على وجوده المجتمعي ـ والسياسي. وأحزاب التآلف الكردي التي تبدو موحدة، متخندقة، تساوم تارة وتبتز تارة حد المجازفة بالنرد في حلبة الروليت. والاحزاب والكتل السنية تلعب لعبة "الربح أو الخسارة" في جميع الاتجاهات، بين أهمهما، العربة أم الحصان. الحصيلة النهائية في المعادلة: ان الجميع غير معنيين بالشأن الوطني العراقي، يتحينون الفرص لاجل مصالحهم الحزبية والشخصية ليس إلا. الحلقة التي سينفجر عندها السخط الشعبي كالبركان، عندئذ يحدث انسلاخ فوضوي في أوساط الكتل والأحزاب الحاكمة دون ان تنفعهم جائحة أكليل الكورونا، مقابل اتساع حركة التظاهر والاحتجاج بصورة أكثر تنظيما وثبور.

إن محاولة عدم تمرير "المكلف" الثالث، ليس محض صدفة على الإطلاق. إنما كان مخططاً له وفق برنامج معد سلفاً بين أطراف عراقية وأجنبية ذات مصالح مشتركة. فبعد تعثر وزارة عبد المهدي، الذي ابتدأ بالفشل، وافشالها من قبل حلفائه في العملية السياسية الذين أتوا به. ومن ثم استقالته اثر المظاهرات، كان لابد أن يجر الى صراع داخلي على أسس فرضيات اثنية "احنا اخذناها وبعد ما ننطيها" في محاولة للخروج من المأزق الذي احدثته الانتفاضة دون عقاب او كشف اسرار ما حدث منذ 2003 من مآثم على الساحة العراقية.. بالنهاية فان مشروع احزاب السلطة آيل نحو الزوال، وبالتاكيد ان الشعب العراقي يدرك تماماً مخططات الفئة الحاكمة وتوجهاتها، بالضد، من التغيير والاصلاح، وتفتيت الوطن وتحويله إلى دويلات احزاب، تدين بالولاء لحفنة من المعممين والعشائر والعوائل المتنفذة التي أثرت على حساب الشعب والوطن.. ويبقى السؤال: هل سيطعم النمر البهيمة إلى الأبد؟، وهو يعاني من وطأة القمع والفقر والجوع والبطالة في ظل مؤسسات ـ تنفيذية وتشريعية وقضائية، تفتقد الشرعية والنزاهة ولا تسعى لان يتحقق حلم العراقيين وان تكون حياتهم وردية ومتناغمة بدل العذابات التي عانوا منها قيحا من الزمن. 

 

عرض مقالات: