دأب الاسلام السياسي على ممارسة لعبة تبادل الادوار كأسلوب مفضل لديه في ممارسة السياسة والحكم  بسبب عدم امتلاكه نظرة حداثوية  لممارسة الحكم و بناء الدولة. وقد يرجع ذلك بالاساس الى تقديسه للماضوية تقديم الولاء العقائدي الغيبي على الواقع المادي المتغير. وهذه هي السمة العامة لكل الاديان  والطوائف المنبثقة عنها. حيث سادت مفاهيم اللاوطنية والفرقة والعداوة والاحتراب وفقدان السلم الاجتماعي بين الشعوب بسبب هذا النهج منذ اقدم الازمنة.

وقد لعب الوازع النفعي الانتهازي القصير الاجل والمبتذل دورا مساعدا فعالا في هذا التوجه عند المنتمين لهذه التيارات وخاصة التيار الاسلاموي الشيعي الحاكم. أي بالسعي للحصول على السلطة المال بأسرع ما يمكن وبأية وسيلة، معتبرين ذلك نوعا من الشطارة والذكاء، موهمين الناس البسطاء من انصارهم بأن هذا سيرفع من قيمة الطائفة وشأنها.   

ولعل تجربة سبعة عشرعاما كافية لأن تكون دليلا مقنعا على فشل هذا الاسلوب في ادارة دفة الدولة  وتوفير ابسط مقومات الحياة الكريمة لأبناء الطائفة التي يزعمون انهم يمثلونها.  

لذلك انفجر الغضب الجماهيري في اكتوبر 2019 كدليل حي على هذا الفشل.

ومن ناحية اخرى فان اسلوب الاسلام السياسي الطائفي هذا وجّه ضربة مميتة الى تطور النظام السياسي الديمقراطي البرلماني في العراق.

فالقابعون على السلطة لا يفهمون من الديمقراطية الاّ مسالة واحدة فقط. وهي الوصول الى سدة الحكم  بواسطة عدد المقاعد التي يحصلون عليها بأي شكل، سواء كان شرعيا او غير شرعي.

ولذلك حولوا النظام البرلماني الى عقبة كأداء بوجة تطور العملية السياسية واستكمال مقومات البناء الديمقراطي للدولة وتعزيز دورها داخليا ودوليا.

كما وضعوا مسألة وجود العراق كدولة ذات سيادة وهيبة وسلم اجتماعي في غاية من الضبابية والشك.

وتحت هذه الظروف برزت معادلة صعبة احلاها مر، وهي:

اما ان يبقى هذا الشكل من "النظام البرلماني" سائدا، وهذا يعني التفريط بمستقبل العراق كدولة موحدة  وشعب موحد واهداف اجتماعية واقتصادية موحدة. او الانتقال الى النظام الرئاسي، وربما قد تظهر  امكانية عودة الدكتاتورية ثانية اليه.

طبعا باعتقادي ان النظام الدكتاتوري لا يأتي بالضرورة من وجود  نظام رئاسي فقط بل ربما من عوامل اخرى. وفي العالم امثلة كثيرة على ذلك.

كما ان الدكتاتورية لها اشكال عدة، منها ما يعانيه الشعب العراقي الان من دكتاتورية الفساد والفوضى وفقدان السلم الاجتماعي وتفشي الفقر المدقع بين اوساط واسعة من الكادحين وشيوع الجهل والامية والخرافة في المجتمع، ناهيك عن القتل والاعتقال والخطف والتصفيات الجسدية للمعارضين وللكفاءات العلمية والادبية والفنية والنشطاء من دعاة حقوق الانسان.  

ولذلك كانت انتفاضة اكتوبر 2019 اطول واعمق انتفاضة جماهيرية عرفها العراق منذ تأسيس الدولة العراقية في عام 1921 حيث قدم المنتفضون السلميون اكثر من 700 شهيد واكثر من 25 الف جريح  والاف من المعوقين ومئات من المخطوفين والمغيبين من كلا الجنسين من الشباب المتعلم والعاطل عن العمل واليائس من المستقبل.

ترى اتوجد دكتاتورية اكثر بشاعة من هذه الدكتاتورية؟

وهل يوجد رد اكثر عمقا وابلغ صوتا من انتفاضة تشرين والتي انبثقت من اوساط المدن والقرى الشيعية   حصرا؟

وهنا جاء دور السؤال المركزي: إذن ما هو الحل؟

هل هو بمجرد تغيير شخوص رؤساء الوزارات فقط ؟ مع بقاء هيكل النظام  الحالي بكل ادواته الفاسدة وميليشياته الفاشية تجوب الشوارع، ومع بقاء كادره الاداري الفاسد واللاوطني في دوائر الدولة؟

وهل هو ببقاء عرف "المكونات الطائفية والاثنية والدينية" على حاله والذي مزق اللحمة العراقية إربا إربا؟

وهل يتم ذلك بعدم وجود جيش وطني وقوات مسلحة وطنية بعيدة عن الولاءات الطائفية والاثنية  والولاءات الخارجية ويكون السلاح حصرا بيده؟

وهل بدون قاعدة صناعية وزراعية متينة تحل ولو جزئيا محل النفط؟

وهل بدون بنى تحتية  للطرق والجسور والمواصلات والسكن والصرف الصحي وشبكات الماء الصالح للشرب؟  

وهل بدون قانون للرعاية الاجتماعية والصحية يحمي الفقراء من العوز والفاقة ؟

وهل بدون مشروع سكني يوفر المساكن لأكثر من اربعة ملايين أسرة تعيش اغلبها في العشوائيات؟

وهل بدون نظام صارم للكمارك والحدود لمنع التهريب ولرفد خزينة الدولة بالمال؟

واخيرا وليس آخرا: هل بدون قانون يحرّم  تداول الفكر الطائفي والاثني ويجرّم من يمارس هذه  الثقافة؟

اذا كانت الاجابة بالايجاب ولو على نصف هذه الاسئلة فليتقدم من يشاء  لرئاسة الوزراء.

اما بدون ذلك (فعساك يا ابو زيد ما غزيت)، كما يقول المثل.

ان هذا الطرح الذي يبدو متشائما له أسسه المادية والموضوعية. فحتى لو افترضنا جدلا ان رئيس وزراء وطنيا ومؤهلا جاء الى رئاسة الوزراء فانه لن ينجح و لن يخفف من غثيان الازمة. فالدولة العراقية اصبحت حطاما جافا قابلا للاشتعال في اية لحظة ..   

وبناءً على ذلك، على الوطنيين والديمقراطيين وكل الشرفاء والمدنيين ان يعدّوا انفسهم لمرحلة نضال ساخن وطويل الامد، بعيدا عن الاحلام الوردية والامنيات النبيلة. فهذا النظام الفاسد هو الذي سيوفر المسببات الضرورية للنضال القادم بسبب ايغاله في نهج الفساد والخراب الاجتماعي.

 

عرض مقالات: