قلت في ذكرى ميلاد الحزب العظيم، ولم أقل في ذكرى ميلاد الحزب الشيوعي العراقي، فالحزب الذي تحتفل الفئات الإجتماعية على اختلاف اتجاهاتها بعيد ميلاده، بنى ارضيته في العراق وتجاوزها إلى افقه العالمي، فأصبح واحدًا من الأحزاب التي يقوّمها تاريخ وجوده، وتدلل عليه نضالاته، ويستشهد بتاريخه حتى أعداؤه.

لذلك فقد تجاوز الحزب الشيوعي العراقي محليته منذ أعلن عن تأسيسه، ليصبح حزبًا عالميًا بأيديولوجيا ماركسية تضيء ليس في ميدان اشتغاله فقط، بل وفي المنطقة العربية وفي العالم. ومن يتعرف على تاريخه، وما قام به عبر ست وثمانين سنة هي جوهر وجود كائن معرفي كبير تجاوز محليته بنضاله وطروحاته، وأصبح منارًا يقتدي به الآخرون من فصائل الشعوب العربية والعالمية، اقول ذلك ليس تبجحًا بتاريخ حزب مناضل، انما يسند قولي ما نشهده من اهتمام عندما يكون الحزب حاضرًا في مؤتمرات دولية للأحزاب الشيوعية والوطنية التقدمية.

على مستوى الأرضية العراقية، لم تقتصر طروحات الحزب منذ تأسيسه حتى اليوم على ابجديات ثقافة الحزب الشيوعي لأعضائه، نجدها اليوم مفردات في برامج العديد من الأحزاب العراقية، عندما تلمسوا منهجية ما يطرحه الحزب وصواب تعبيراته ومفاهيمه ومصطلحاته السياسة والثقافية، لنجد نحن الحرس القديم أن الثقافة العراقية بكل تنوعاتها الأدبية والسياسية تنهل من معين الحزب الشيوعي؛ ثقافة ومفاهيم ورؤية وطنية وخارطة طريق نضالية.

هذه ليست ديباجة لتهنئة بل هي جزء من بنية العقل العراقي المجرب، وهي صياغة عملية لايمكن تجاوزها في مرحلة مقبلة، لأنها نابعة من المعايشة والتجربة  المختمرة في الشارع والسجون والمعتقلات والممارسات، في داخل العراق وخارجه، وصقلتها تجارب وحيوات عاشها الشيوعيون على مختلف درجات انتمائهم، مستندة على الأسس الماركسية اللينينة التي ثبتت صحة مواقفها بالرغم من الآلة الرأسمالية التي جندت كل وسائلها الحقيرة للنيل من تاريخ وكوادر وقيادات الحزب. ولن أستشهد بأية فترة، ولكني أقول وبوضوح: لم يشهد تاريخ الحزب إلا مراحل متصلة من النضال، وخارطة عراقية معلّم عليها ببصماتهم، فأينما تولي قبلتك تجد آثار الحزب في القرى والأنهر والبوادي والمدن والجبال، وكأنه النبت التموزي الذي يرافق رحلة الفصول على أرض الرافدين، منذ بابل وسومر وحتى مستقبل وطن حر وشعب سعيد. فهل يصح أن اقول عن عيد ميلاد الحزب الشيوعي العراقي دون أن يقترن قولي بتاريخ الحزب العظيم؟ ابدًا، ليختر ايًا منكم عنوانًا، سيجد نفسه مهما اختلفت كلماته يؤكد عظمة هذا الحزب ودوره الوطني الذي لم يخذل شعبه، ولم يتخل عن مهماته الوطنية، ولم يقف متفرجًا على مآسيه أو يطمع بلقمة من مائدة اللئام.

يعتقد البعض أن الكتابة عن الحزب الشيوعي العراقي كتابة منعزلة عن الشيوعية في العالم، أكاد أجزم أن الحزب الشيوعي العراقي من الأحزاب القليلة التي حافظت على التقاليد الماركسية في العالم، وهذا سرّ قوته المعرفية وكونه يزداد تعمقًا في الماركسية ممارسة واجتهادًا كلما تقدم الزمن.

تعلمنا تجارب الحركة الشيوعية أنها جزء من الحركات التي تتفهم عندما تهب عاصفة من عواصف الرأسمالية المتوحشة على البلدان النامية والفقيرة ومنها العراق، أن النظرية لم يجر تطبيقها في البلدان الاشتراكية كما يجب أن تكون، فهي الأكثر صوابًا في معالجة الخلل، لتجد أن ما قيل قبل قرنين يمكن تطويره بما يلائم متطلبات الوضع الجديد.

لايريد الحزب الشيوعي العراقي في ممارساته طوال أعوام عمره أن يكون  تفكيره بديلًا عن تفكير فئات ومنظمات وأحزاب تقدمية، بل أن تفكيره ومنهجه جزء من الفكر الملائم لمعالجة أية أوضاع اجتماعية وسياسية وثقافية. الحزب الشيوعي العراقي وحده من تفهم بنية وتركيبة المجتمع العراقي، وانه مجتمع الهويات المتعددة، وعليه لن تحكمه إلا تركيبة عقلانية تكنوقراطية مؤلفة من كوادر من هذه الهويات، متطلعة ومفكرة بمصائر كل فئات الشعب، مغلبة القانون والعدالة الاجتماعية على اية رغبات أو طموحات فردية، أو قومية، أو دينية، أو مناطقية.  الا ان هذه النظرة العلمية الدقيقة قادت الحزب في بعض الأحيان إلى مواجهات مأساوية راح ضحيتها مئات بل آلاف من كوادره المتميزة برؤيتها، لأنها تطرح ما يرى المجتمع انه الصورة الأكثر استيعابًا لمشكلات العراق. لذلك يعزو البعض فشل الجبهات الوطنية والمرحلية الآنية إلى قصور نظرة الماركسية لطبيعة المجتمع، في حين أن الجبهات هي أحدى الطرق العملية التي تقود العراق إلى مرحلة أكثر جذرية في فهم مشكلاته، لو احترمت الأطراف تعهداتها. ومن عايش التجارب الجبهوية منذ عام 1956 يجد أن الطرف الآخر هو الذي يفكر بالاحتواء والتفرد وهيمنة الأيديولوجيا الحزبية الضيقة على ما يتطلبه العراق من تفهم لأوضاعه.

مرة أخرى هذه تحية لحزب مناضل لا يمكن إلا أن يكون عظيما ومؤثرا، وجديرا بان يتمثله العراقيون في كل المواقف التي مر بها العراق. تحية لشهدائه الميامين وتحية لأعضائه واصدقائه وهم يجددون تراث قادتهم في الإيثار بما تجود به النفس لصالح العراق، وتحية الى كل القوى الوطنية التي ترى أن مستقبل العراق يتمثل في تكاتف القوى الوطنية .. وإلى شبابنا في ساحات الإنتفاضة مليون تحية ترفعها ايادي الآباء والامهات من كل مدن العراق وقصباته.

عرض مقالات: