عندما كان شمران بعمره العشريني، تسلل إلى ضميره، ذلك الفكر الغريب، الذي أراد أن يغيّر ما يستحيل تغييره، وهو فتنة الناس إلى شيء جديد يدور بآفاقهم ويحول بينهم وبين الركون إلى ما هم عليه. وقد فُتن ذلك الفلاح الشاب، الذي هو بالأصل كان مشروعا للتمرد، وقصة من قصص التطلع إلى المجهول. وحين جاء هؤلاء الغرباء إلى تخوم (الحي) لم يمضوا كثير وقت، ولم يبذلوا كبير جهدٍ حين تعثّر بهم وتعثّروا به. كان الشاب الذي ملأ دواوين ريف الحي بحكاياته وبحضوره الفاتن، صيدا كبيرا للباحثين عن جزورٍ متينة في الريف.. هم منحوه الكلمة والفكر وهو أمدهم بالطين الحِريّ الذي يبنون به فنارتهم هناك.

هو كان متمردا على الظلم والتمييز والإقطاع، وهم ينحتون عقيدتهم في هذا المكان (القصي) لأجل هذا.

الشيوعيون وجدوا في شمران وقِلة من شباب الريف بوابة للإنطلاق والتبشير بمناهج العدالة ومباهجها، فلم يخب ظنهم في هؤلاء الشباب لينيروا الريف عقودًا من العمل المظني.

وعندما جاءت ثورة تموز ١٩٥٨ كان الريف أرضًا خصبة لتطبيق شعاراتها.

في كل آذار، تقف الأجيال عند ذلك اليوم الذي تأسس فيه الحزب الشيوعي العراقي، حزب الفقراء والعمال والفلاحين والكسبة والأرامل واليتامى، لتقول كلمة، لم تستطع كل الأنظمة الغاشمة أن تمحوها، كلمة الاعتراف بأن الطريق الذي أناره هذا المولد لم يُغلق رغم كل ما حصل، ورغم كل الجراح العميقة التي لم تترك في حياة مناضل أو حياة أسرته إلا جرحًا أو ألما أو حُرقة قلب..

كنت صغيرًا عندما كان مناضلو الحزب يجوبون الريف على خيولهم، يوصلون الليل بالنهار كي يظهر الصبح ببشرى للعراق..

وكنت صغيرًا عندما زُج أبي في سجون لم تكن تعنيني أسماءها، ولكن وحشة غيابه هي التي كانت تمس كياني وروحي..

وكنت صغيرًا عندما سقطت الجمهورية الأولى شهيدة غدر الفاشست في شباط الأسود ١٩٦٣.. فكان حزن الشعب على زعيمه وعلى حزبه كبيرا وعميقا..

وكنت صغيرًا عندما ولدت الجبهة وعندما ماتت الجبهة.. ولكن الحزب برغم الجراح، وتداول المصائب من جيلٍ إلى جيل، ظل نقياً ينطق باسم من لا صوت لهم..

في مولده الذي يتكرر كل آذار، يصحو ضمير الشعب لاستذكاره بالفخر والعرفان.. فالمناهج الأولى للفكر والتنوير كان هو.. والكل شاخوا ووخطهم الشيب، إلا هو لم يزل بعمر شمران وفهد ورعيلهم الأول عندما كانوا فتيانا.