خاض الشعب الإيراني منذ بداية القرن العشرين ويخوض حتى الآن معارك ضارية من أجل الديمقراطية وضد الاستبداد الشاهنشاهي وما تبعه من الاستبداد الديني بعد الإطاحة بالملكية في عام 1979. وكان الشعب الإيراني، أول شعب آسيوي ومسلم، يرفع راية الديمقراطية في الثورة الديمقراطية الأولى في آسيا عام 1905، والتي تعرف بـ"ثورة المشروطة". هذه الثورة التي خاضها الشعب الإيراني من أجل المطالبة بالديمقراطية واسقاط الملكية وحل القضية الزراعية وإنصاف العمال والشغيلة وحل القضية القومية في البلاد. وقد ذاع صدى هذه الثورة في جميع الدول المجاورة، ومنها العراق، حيث ظهرت إلى الوجود حركات سياسية تدعو هي الأخرى إلى "المشروطة"(الديمقراطية) مقابل "المشروعة" (الإستبداد الديني). وجرت على المنابر الدينية مدن بغداد والنجف نقاشات واسعة بين طرفي الآراء المتناقضة اتخذت أحياناً طابع اعنف.

ولكن الشعب الإيراني رغم حجم التضحيات التي قدمها منذ أكثر من قرن مضى، لم تتاح له الفرصة لتحقيق حلمه في إرساء قواعد الديمقراطية في البلاد. وفشلت ثورة عام 1905 الشعبية بسبب تواطؤ الاستعمار البريطاني ووحدات القوزاق الروس مع تيار متشدد من رجال الدين (آية الله فضل الله نوري، وهو جد نوري الدين كيانوري المسؤول الأول لحزب توده ايران) والاقطاعيين وكبار ضباط الجيش. كما فشلت بعدها سلسلة من الحراك الجماهيري، وخاصة أثناء تأميم النفط في عام 1951، حيث تمكنت وكالة المخابرات المركزية وشركات النفط الاجنبية العاملة في إيران والمؤسسة الدينية (آية الله أبو القاسم الكاشاني) في إسقاط حكومة الدكتور مصدق الوطنية وإعادة الشاه إلى عرشه بعد هروبه إلى العراق عام 1953، وشن الانقلابيون حملة دموية وتصفيات ضد القوى الديمقراطية واليسار الإيراني.

 ولكن لم يلق الشعب الإيراني الراية، واستمر في نضاله إلى أن إستطاع الإطاحة بالحكم الشاهنشاهي الاستبدادي في الثورة الشعبية عام 1979. ولكن القوى المعادية للديمقراطية، سرعان ما جمعت قواها وإستطاعت إجهاض حلم الإيرانيين في تحقيق شعار الثورة الاساسي "الحرية والاستقلال"، واستبدل شعار الحرية بشعار "الجمهورية الاسلامية" بعد أن خاضت قوة الردة والظلام سلسلة من حملات الخداع والتلويح بالراية المذهبية والدين، وممارسة أساليب أكثر قسوة من سابقاته في العنف والتصفيات ضد الشعب والقوى الوطنية والديمقراطية. 

وإذا كانت الشخصية الكاريزماتية لآية الله روح الله الخميني ومواقفه الراديكالية ضد النظام الشهنشاهي قد لعبت دوراً حاسماً في جذب أوساط واسعة من الرأي العام الإيرانية نحو التيار الديني المتشدد الراديكالي خاصة منذ إندلاع الثورة في عام 1978 وانتصارها في شباط عام 1978، إلاّ أن خيارات وممارسات التيارات الديني المتشدد سرعان ما تراجع رصيده الشعبي بعد مرور سنوات من الثورة، لتوجه سلطة المتشددين كل قوى القمع ضد جميع الحركات الدينية المعارضة للتشدد المذهبي والديني وضد التيارات الوطنية والقومية واليسارية. ولقد تعزز رصيد التيار المتطرف في السلطة خاصة بعد غزو صدام حسين للأراضي الإيرانية وتعبئة التيار المتشدد لكل أنصاره في ردع الغزو مما وفر لهذا التيار الفرصة كي يحظى بتعاطف الرأي العام الإيراني وتعبئة قواها العسكرية والأمنية لمواجهة أية معارضة له في الداخل. صوتت الغالبية من الإيرانيين بعد الثورة للدستور الإيراني الذي يشرع ويكرس مبدأ ولاية الفقيه (الإستبداد المذهبي) بسبب وجود شخصية الخميني الكاريزماتية بالذات، حيث بلغ حجم المشاركة في الاستفتاء على الدستور عام 1979 وانتخاب أول مجلس شورى في البلاد قرابة 80% ممن يحق لهم التصويت في الانتخابات. ولكن بعد وفاته بدأت الأرض تتزلزل تحت أقدام خلفه بسبب فقدان ولي الفقيه الجديد ( علي خامنئي) تلك السمة الكاريزماتية من ناحية، ومن ناحية أخر فأن التيار المتشدد فشل في تحقيق توقعات ومطاليب الشعب الإيراني في الجانب الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، ولا في توفير حيز من الحريات العامة. فقد تحول النظام تدريجياً إلى نمط صارخ للاستبداد بستار ديني وكان السبب في العزلة الاقليمية والدولية لإيران التي تفاقمت مع كل خطوة يخطوها النظام على طريق التشدد والتعصب المذهبي والسير على طريق تصدير "ثورته".

وهكذا بدأ العد التنازلي لنظام ولاية الفقيه وشعبيته، ومعها بدء العد التنازلي لمؤيديه والمشاركين في الانتخابات الشكلية في البلاد. هذا ناهيك عن التصدع والتمزق في صفوف هذا التيار لينشق عن صفوفه ما عرف "بتيار الخضر" ثم "تيار الإصلاحيين". ولم تعد الفئة الحاكمة منسجمة بحيث أن المتشددين أنفسهم قد انقسموا على بعضهم كما حصل بالنسبة لأحمدي نجاد، بما يعني تراجع القاعدة الاجتماعية للنظام. ويشير انطونيو غرامشي ، القيادي في الحزب الشيوعي الإيطالي، في مؤلفه "الدفاتر السجنية" التي دونها في سجون الفاشية الإيطالية (1926-1937) أن :"الطبقات الاجتماعية في مرحلة تاريخية من حياتها تبتعد عن الأحزاب التقليدية. وعبارة أخرى فإن الطبقة أو جزء من الطبقة تتخلى عن حزبها التقليدي، ويقترن ذلك بتبلور منظمة جديدة ولم يعد أعضاؤها يعترفون رسمياً بالناطقين بالحزب التقليدي".

لقد بدأت في المجتمع الإيراني بوادر تململ خطيرة وحراك جماهير بين حين وآخر يطالب بالتغيير ويرفع شعارات طالت قمة ولاية الفقيه، كشعار "الموت للديكتاتور" وشعارات تندد بالقمع البوليسي وتدهور أحوال المواطنين معيشياً واجتماعياً وثقافياً. ومن الطبيعي أن يكون رد فعل النظام الذي يشهد تراجع شعبيته وتعاظم المعارضة له بالتوسل بالأساليب البوليسية وفتح باب السجون لمعارضيه ودوران عجلة القصاص والإعدامات ضدهم ( وهو دليل على ضعف النظام اجتماعياً وليس قوته)، مستخدماً نفس الماكنة والأدوات التي كانت مستخدمة في عهد الشاه.

لقد أيقن الناخب الإيراني بعد مرور أربعين سنة من تجارب السعي للتغيير عبر اللجوء إلى المؤسسات الرسمية وتشبث هذا التيار بالسلطة، أن لا فائدة من التعويل على إنتخابات لا يحق لأي مواطن إيراني أن يرشح نفسه لها. فمجلس الخبراء له الحق قبل الانتخابات، وحسب الدستور، أن يحذف أسم أي شخص من قائمة المرشحين ( تقدم للترشيح في الدورة الأخيرة قرابة 14 ألف مرشح وحذف مجلس الخبراء 7 آلاف بدعوى عدم صلاحيتهم في خوض الانتخابات)، وإن لولي الفقيه غير المنتخب من الشعب الحق، وأيضاً حسب الدستور، أن يعزل رئيس الجمهورية المنتخب من الشعب أو أية شخصية رسمية منتخبة سواء في مجلس الشورى أو في أية مواقع أخرى. لذا يلاحظ أن هناك منحنيا تنازليا في عدد المشاركين في الانتخابات الدورية لرئاسة الجمهورية أو لمجلس الشورى أو لجان المحافظات، بسبب قناعة المواطن الإيراني أن لا جدوى من المشاركة من أجل التغيير. ولم يبق أمام المواطن الإيراني من حل من أجل التغيير سوى اللجوء إلى الحراك الشعبي السلمي مهما يقدمه من ضحايا وما يحتاجه من وقت، مجدداً تجربته السلمية في إسقاط النظام الشاهنشاهي في عام 1979. فالمواطن الإيراني في اختياره الطريق السلمي على قناعة بأن أي طريق آخر، الطريق العنفي مثلاً، لا يصب إلاّ في مصلحة الإستبداد المذهبي الذي يمتلك كل أدوات القمع، هذا الإستبداد الذي يسعى إلى استدراج المواطنين الإيراني إلى الخيار العنفي ولكن دون جدوى. 

وقدمت الانتخابات الأخيرة  التي جرت في شباط الماضي، والذي عول النظام على مشاركة فعالة "مليونية!!" من الناخب الإيراني خاصة بعد حاث مقتل سليماني، مؤشراً على أن الدعوة إلى مقاطعة الانتخابات لقيت استقبالاً من قبل الناخب الإيراني. فقد دلت المؤشرات الرسمية على أن ثلثي من يحق لهم التصويت قد شاركوا في الانتخابات المتعاقبة الماضية. لكن الأرقام الرسمية لنتائج الانتخابات الحالية (الدورة الحادية عشر) اؤكد مشاركة أقل من 25% تقريباً من الذين يحق لهم التصويت (عدد من يحق له التصويت قرابة 58 مليون ناخب، في حين لم يتجاوز عدد المشاركين بالفعل 22 مليون ناخب)، ولم يتحقق حلم حكام إيران في مشاركة مليونية كما كان يسعى إليها النظام.

ومن المعلوم أن هناك الكثير من الدلائل على احتفاظ مسؤولين إداريين بصناديق الانتخابات في بيوتهم كي يتم ملأها بالأوراق الانتخابية جزافاً وتزويراً، وهو ما كان يحدث خلال كل الانتخابات الدورية التي جرت منذ الإطاحة بنظام الشاه. إضافة إلى شراء أصوات الناخبين وسرقة صناديق الانتخابات من قبل الحرس الثوري وإجبار المنتسبين في القوات المسلحة والأمنية إلى المشاركة في الانتخابات بسبب إن تصويتهم عادة ما يجري في الثكنات العسكرية والدوائر الأمنية وتحت إشراف رؤسائهم.

إن العزوف عن المشاركة في الانتخابات هو سلاح مجد في إحداث التغيير، من شأنه أن يعمق الهوة بين أنصار هذا النظام ويضعفه. إن الرأي العام الإيراني رغم كل المآسي التي يتعرض لها في مسعاه للتغيير، على قناعة بأن التغيير ضمن  الواقع الإيراني الملموس لا يحتاج جيش ولا مدفعية ودبابات، ولا يحتاج أمريكا ودول أجنبية، بل يحتاج إلى مواطنين من أصحاب هذا البلد، يحتاج إلى مواطنين يدركون حقوقهم الطبيعية والانسانية، حق الانتخاب والتمتع بالحرية، مواطنين يدركون بأن هذا الحق لا يكسب إلاّ بأن يتولون بناء البلاد وتقرير مصيره، مواطنين يتمتعون بمستوى أرفع من الوعي السياسي والثقافي مقارنة بتدني هذا الوعي لدى الطبقة الحاكمة.

وهذا ما أفرزته الانتخابات الشكلية المزورة الأخيرة من نصر نسبي للشعب الإيرانية، من خلال إرتفاع منسوب الوعي بين المواطنين الإيرانيين. وتواجه الفئة الحاكمة ما يسميه غرامشي بـ"أزمة الهيمنة"، حين تفقد الطبقة الحاكمة أدوات سيطرتها على الشعب، حيث يثير في "الدفاتر السجنية" :"إذا فقدت الطبقة الحاكمة اجماع الجماهير الشعبية على تأييدها، فإنها ستفقد دورها القيادي والموجه، وتتحول إلى مجرد فئة اجتماعية تمارس القهر، وهذا يعني أن جماهير الشعب قد تخلت عن الأيديولوجية التقليدية، وإن ما كانت تؤمن به سابقاً لم يعد مصدراً لإيمانها ".   

6/3/2020  

عرض مقالات: