شهدت العلاقات العراقية الأردنية في الفترة الاخيرة الكثير من الحراك على خلفية الزيارات العديدة لكثير من صناع القرار السياسي والاقتصادي بين البلدين ابتداء من زيارة رئيس الجمهورية برهم صالح الى عمان في 15 تشرين الثاني 2018 الماضي تبعتها زيارة نائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية وزير المالية فؤاد حسين في 19 كانون الاول 2018 الماضي ثم زيارة الملك عبد الله بن الحسين الى بغداد في 14 كانون الثاني2019، التي سبقتها زيارة العمل الرسمية لرئيس الوزراء الأردني الى بغداد عمر الرزاز في 29 كانون الاول 2018 الماضي ولقائه رئيس الوزراء عادل عبد المهدي التي تمخض عنها بيان مشترك أعلن فيه الجانبان الرغبة في تطوير علاقاتهما في المجالات السياسية والأمنية والاقتصادية، تبعتها زيارة وفد عالي المستوى الى بغداد برئاسة نائب رئيس الوزراء الأردني رجائي المعشر وما تمخض عنه هذا الحراك من الاتفاق بين الطرفين على العديد من القرارات والاتفاقيات الاقتصادية التي اثارت الكثير من المفارقات والاختلافات ما بين مؤيد ورافض لها، ولا انوي في هذه الورقة البسيطة الخوض في التفاصيل السياسية وانّما احببت تسليط الأضواء على الشأن الاقتصادي وما قد اجده مناسباً في هذا الباب.

ان الملاحظ في هذا الحراك هو الرغبة الملحة من قبل الجانب الأردني في التأسيس لعلاقات اقتصادية متينة والعودة بالتبادلات التجارية الى ما قبل عام 2014 حيث شهدت تراجعات كبيرة على اثر الانهيار الأمني بعد سقوط العديد من المحافظات العراقية في قبضة تنظيم داعش الإرهابي، الامر الذي انعكس سلباً على الاقتصاد الأردني الذي يعتمد بشكل كبير على الأسواق العراقية والذي تضافر مع مجموعة عوامل اقتصادية اردنية داخلية اخرى في التأثير سلباً على اقتصاد المملكة الهاشمية وبصورة دراماتيكية لتنهي حكومة هاني الملقي وتكليف الدكتور عمر الرزاز في 4/6/2018 بعد سلسلة من التظاهرات الجماهيرية على اثر تدهور الوضع الاقتصادي ورفع أسعار المحروقات في الأردن، حيث دفعت العوامل أعلاه الأردن الى استثمار انتهاء القتال مع الجماعات المسلحة والسعي بصورة جادة وحثيثة للبدء بصفحة جديدة من العلاقات السياسية والتجارية والصناعية والاقتصادية مستثمرة توجه العراق نحو إعادة مد جسور التواصل مع عمقه العربي من جهة، ورغبته في إيجاد اكثر من سوق للاستيراد والانفتاح على اكثر من جهة في حال ضيقت الولايات المتحدة الخناق على ايران في حصارها الاقتصادي من جهة أخرى، فكان ثمرة هذا التواصل الاقتصادي الاتفاق على مجموعة نقاط وهي كالتالي:

  • الاتفاق على الإجراءات اللازمة لإنشاء منطقة صناعية مشتركة على الحدود بين البلدين وبمساحة 24 كيلومتر مربع.
  • اعفاء مجموعة من البضائع الأردنية الصنع للدخول الى العراق دون تعرفة جمركية وتصل هذه المواد لقرابة 371 مادة منتجة داخل الأردن.
  • فتح المعابر الحدودية وحركة الشاحنات المستمرة من المصدر الى الموقع في البلد الآخر دونما تفريغ في نقطة الحدود.
  • قامت السلطات الأردنية بتقليص الرسوم على البضائع المتجهة من العقبة الى العراق بنسبة 75في المائة.
  • منح أفضليّة للسلع الزراعية العراقية للدخول للأردن في المواسم التي يشحّ فيها إنتاج الأردن من هذه السلع.
  • الاتفاق على مد أنبوب تصدير نفطي من الرميلة في البصرة الى ميناء العقبة عن طريق الأراضي الأردنية وبطاقة استيعابية تصل الى مليون برميل يومياً.
  • إعادة العمل بمذكرة التفاهم الموقعة بين العراق والاردن في 15/8/2006 والتي تنص على تزويد الجانب الاردني بكمية 10 آلاف برميل في اليوم من نفط خام كركوك الى مصفاة الزرقاء وفق معادلة تسعيرية جديدة تعادل سعر نفط خام برنت ناقصاً (16) ستة عشر دولاراً تغطي كلفة النقل ما بين كركوك والزرقاء، مع الفروقات في نوعية نفط خام كركوك عن نفط خام برنت مما يجعل سعر البرميل تفضيلياً واقل من سعره العالمي.

ان النقاط أعلاه مثلت اهم البنود والتفاهمات الاقتصادية بين الجانب العراقي والأردني والذي اثار الكثير من الاختلافات والمداخلات بين الأطراف السياسية والاقتصادية ما بين مؤيد ورافض لهذه النقاط لاعتبارات عديدة ولا اعتقد انه يمكن القبول بها جملة واحدة كما لا يمكن رفضها جملة واحدة فأن طبيعة المشهد السياسي والاقتصاد العراقي بشكله الحالي قد يجرنا الى القبول بقسم من هذه البنود ورفض القسم الاخر مع مراعاة الطبيعة الريعية للاقتصاد العراقي والتي تظافرت معها مجموعة عوامل امنية وجيوسياسية أدت في نهاية المطاف الى تعطل الاقتصاد العراقي بصورته الكلية واعتماده بالمقابل على الاستيراد بدرجة ضيقت من خياراته الاقتصادية وجعلت العديد من تفاصيل الاتفاق الاقتصادي العراقي الأردني بمثابة واقع حال لا يمكن سوى التعامل معه بواقعية، وان كانت هناك العديد من النقاط كان من الممكن التريث بها والبحث عن بدائلها من الداخل.

وعند البحث في تفاصيل الاتفاقيات والتفاهمات الاقتصادية بين البلدين ومناقشة تفاصيلها يمكن الخلوص الى اربعة محاور رئيسة:

  1. المحور الأول هو اعفاء 371 مادة مصنعة داخل الأردن ودخولها للأسواق العراقية دون تعرفة جمركية، والاصوات العديدة التي نوهت الى دور الاستيراد المفرط في تراجع ما تبقى من الصناعة الوطنية، والتي تنتظر منذ فترة ليست بالقصيرة توفير الحماية لها، ولا شك ان استمرار دخول المزيد من البضائع المستوردة يجعل من قيام صناعة او زراعة وطنية امراً صعباً، حتى مع وجود التزام من قبل الحكومة الأردنية بمنح أفضليّة للمنتج العراقي بالدخول للأردنّ في المواسم التي يشحّ فيها إنتاج الأردن لهذه السلع فالجميع يعلم ان حال الصناعة في العراق لا يؤهله لتصدير ولو حتى ابرة الخياطة بسبب ترنح الواقع الصناعي والزراعي في العراق على اثر غزو المنتج الأجنبي للسوق العراقية هذا هو الداء الذي لم نجد له دواء.

 وقد يكون من المناسب في هذا الباب الإشارة الى ان الواقع والمعطيات الحقيقية تشير الى ان قيمة التبادل التجاري مع الاردن في أفضل احواله وصل الى ٦٠٠ مليون دولار مقارنة مع حجم التبادل التجاري الكلي للعراق الذي يبلغ حوالي ٥٥ مليار دولار (وفي بعض السنوات تجاوز هذا الرقم بكثير) وبنفس البضائع المدرجة على قائمة الاعفاء مع الجانب الاردني اي ما نسبته ٠٫٩٢في المائة من اقل من واحد بالمائة لا تشكل تأثيرا كبيرا على النشاط الاقتصادي في الداخل بالنسبة للمتخوفين. مع ملاحظة ان قيمة التبادلات التجارية بين العراق والصين تجاوزت 16 مليار دولار ومع تركيا تجاوزت 12 مليار دولار ومع ايران تجاوزت 9 مليارات دولار والعراق يستورد من هذه الدول ما يمكن ان يستورده من الاردن ودون هذه الضجة الكبرى.

  1. المحور الثاني يمثل امكانية الاستفادة من الاتفاق في إنشاء منطقة صناعية مشتركة على الحدود العراقية الاردنية والتي يمكن ان تكون تجربة رائدة على الحكومة استغلالها وتعميقها من خلال نسخ تجربة مدينة الزرقاء الصناعية الأردنية ونقلها للعراق وعدم السماح للجانب الاردني باحتكار العمالة او الخبرة الميدانية ونقلها للجانب العراقي الذي يفتقر الى تجربة المدن الصناعية، ولا تزال لغاية الان الاحياء الصناعية تغزو مدنه وبصورة تكاد تكون عشوائية وغير منظمة بما تحمله من فوضى وتلوث بيئي واختناقات وازدحامات مرورية في الشوارع العامة نتيجة الأداء الصناعي لهذه الاحياء مع ملاحظة صعوبة إيصال الدعم الحكومي من خطوط كهرباء صناعية وأنواع مختلفة من المياه الصناعية وطرق نقل وتوفير المواد الخام وغيرها من اشكال الدعم الذي تكون الدولة هي المسؤولة عنه.
  2. المحور الثالث هو الاتفاق على مد أنبوب تصدير نفطي من البصرة الى ميناء العقبة لتوسيع الصادرات النفطية العراقية بإضافة مليون برميل يومياً والذي يمكن العراق من رفع حجم صادراته النفطية الى قرابة 5 ملايين برميل يومياً، وهذا رقم يمكن ان يوفر الكثير من الإيرادات العامة وخصوصاً ان النفط يشكل اكثر من 95‎ في المائة‎ من الصادرات العراقية وان ايراداته تشكل قرابة 90‎ في المائة‎ من قيمة الموازنة العمومية للبلاد، ومن جهة ثانية فان هذا الانبوب يمثل منفذا اضافيا يمكن للعراق استثماره، ‎فالعراق يمتلك حاليا خطوط أنابيب موزعة على ميناء البصرة شمالي الخليج بطاقة تزيد على مليوني برميل وخط أنابيب عبر الأراضي التركية بطاقة تتراوح بين أربعمائة وخمسمائة ألف برميل في اليوم وهذا قد لا يكون كافياً مع إمكانية العراق النفطية التي من الممكن ان تصل الى 12 مليون برميل اذا ما احسنت الحكومة الحالية والحكومات القادمة استغلال هذا الملف، مع ملاحظة ان منافذ التصدير الحالية قد لا تستوعب الطاقات الإنتاجية المتزايدة وبالتالي فإن الحاجة إلى بناء منافذ جديدة وبطاقات عالية أصبحت أمراً ضرورياً.
  3. المحور الرابع هو تزويد الجانب الاردني بـ 10 آلاف برميل يومياً من نفط خام كركوك وهذا الدعم بالرغم من كونه لا يشكل رقماً كبيراً بالنسبة للعراق لان مجموع ما يصدره العراق للمملكة في سنة لا يمثل سوى صادرات يوم واحد فقط من النفط العراقي للعالم ولكنه في نفس الوقت يمكن ان يؤمن 7‎ في المائة‎ من احتياجات المملكة حسب ما صرحت به وزيرة الطاقة والثروة المعدنية الاردنية وبسعر تفضيلي، وهذا الجانب تحديداً هو صورة من صور التفاهمات السياسية بين البلدين والذي يحمل الصبغة السياسية بعيداً عن الجوانب الاقتصادية، فالعراق بهذا الاتفاق يقوم بدعم كبير للأردن في ازمة الطاقة التي يعاني منها منذ فترة ليست بالقصيرة والتي كانت السبب المباشر في الاطاحة بحكومة الملقي وتكليف عمر الرزاز بعد مظاهرات واسعة على اثر زيادة أسعار الوقود والمحروقات، ولا شك ان للحكومة الحق في إقامة العلاقات الاستراتيجية ودعم موقفها السياسي مع دول العالم عموماً ودول الجوار خصوصاً، ولكن المتابع لاتجاهات المواقف السياسية للأردن لا يسجل وجود موقف متميز له في دعم العراق في حربه مع الإرهاب، كما ان ارضه تضم العديد من القيادات السياسية المعارضة لمجمل العملية السياسية في العراق، وما زالت المؤتمرات والفعاليات التي تمجد النظام السابق مستمرة على ارضه من دون ان يكون لها رادع من قبل الحكومة الأردنية، بالإضافة الى وجود ديون اردنية على العراق تبلغ اكثر من مليار دولار وودائع عراقية من زمن النظام السابق في عمان تحفظ عليها البنك المركزي وتقدر بحوالي 3 مليارات دولار، وكان من الممكن للحكومة العراقية ان تستغل قضية تزويد الأردن بالنفط للضغط باتجاه حل هذه الأمور العالقة ولصالح العراق او على الأقل الإعلان عن ما يطمئن الشارع العراقي بهذا الخصوص.

وفي الختام فان الاتفاقية العراقية بين العراق والأردن تضم في طياتها بنودا متعددة تحمل العديد من النقاط الإيجابية التي يمكن الاستفادة منها سياسياً واقتصادياً وتصب في الصالح العام، بالاضافة الى بعض النقاط التي من الممكن ان تشكل عناصر ضغط على الاقتصاد العراقي والصناعة الوطنية ومن الممكن تجنبها او العمل على تقليل تأثيرها السلبي، ولكن بصورة عامة يمكن ان تكون هذه الاتفاقية منطلقا لإقامة علاقات صناعية جديدة من خلال خوض تجربة المدن الاقتصادية، وتفتح اكثر من منفذ وطريق للتجارة العراقية مع العالم الخارجي، مع ضرورة التعامل معها بواقعية والعمل على تطويرها وتجاوز نقاطها السلبية مستقبلاً وخصوصاً مع وجود نص يخول مراجعة بعض بنودها كل ستة اشهر.

عرض مقالات: