من بين المهمات الرئيسية في ضرورات فهم (الحرية) ان محافظ البصرة، المدعو محمد الحياني، مارس عام ١٩٦٦ (حريته) كأكبر موظف في البصرة، مدينة الموانئ والنفط يتمتع بصلاحيات مطلقة في المحافظة بإزالة (ساعة سورين) المشادة، عام ١٩٠٦، بجمال أخاذ ومعمار جذاب، على نهر العشار. كان سبب الإزالة يعتمد على ان اسم (سورين) الذي تحمله الساعة هو اسم (ارمني) وليس اسماً اسلامياً. بنظر هذا المسؤول العراقي ليس من الدين الإسلامي حق إقامة الصلاة لله على توقيت ارمني طغى اسمه وشاع في بلاد عربية – إسلامية.. مارس هذا المسؤول الحكومي (حرية الدولة) بحرمان الأرمن من علو اسم أحدهم بسماء مدينة البصرة.  النتيجة بقيت البصرة من دون ساعة دقيقة تنافس ساعة بك بن اللندنية. 

ذات مرّة ظنّ الرئيس العراقي الأسبق، صدام حسين، ان خطراً ما، يأتي الى نظامه من (الاهوار)، حيث (حرية) تدفق مياه نهري دجلة والفرات إليها، كما كانت منذ آلاف السنين. هذه الحرية المائية ذات خطر بيئوي - سياسي، لابد من اتخاذ قرار صارم بــ (تجفيف الاهوار) وإنهاء هذا النوع من (الحرية المائية) بقصد إيجاد (مكونات) جديدة بمنطقة الاهوار في العراق الجنوبي. لكن نهاية هذه الرؤية التسلطية أنهت حالة جفاف الحرية المائية بسقوط فكرة نظام صدام حسين في نيسان عام ٢٠٠٣ إذ عاد ماء الفراتين (حراً) في الممارسة الطبيعية بمنطقة الاهوار..  بهذا وضع صدام حسين نفسه شاهداً محركاً على الزور، شهدَ للباطل والفقر والمذلة وإهانة الناس والطيور والاسماك وحتى الجواميس لأنه انطلق الى (الجهاد) بقوة هائلة أطلقها، على كل شيء حي، على الطبيعة والانسان والحيوان.

 المعنى الاول والأخير في هذين المثلين ان الطريقة الوحيدة في ممارسة (الحرية) تأتي على أيادي الحكام بصورة مشوّهة، جاهلة.   انها ليست مفيدة عندما تستقر في عقول ابناءً الشعب. أهم قضية تواجه   العراقيين منذ ١٦ عاماً هي البحث عن (الحرية). بعضهم، خاصة من قادة احزاب (الاسلام السياسي) يريد توفير مقدار ضعيف عن الحرية بحدود ممارسة (الحرية الانتخابية). يريدون توفير حرية انتخابهم باعتبارهم (وكلاء) الله على ارض الرافدين مخولين أمور وشؤون البشر، بعد نشوء (قضية التفاحة) بين ادام وحواء وبعد قصة الطوفان في ارضهم وبحورهم. يعتقدون ان الله، ترك لهم، وحدهم، الكون، كله، تحت رعايتهم.  

التحدي الجماهيري يقوم على ضرورة (كمال الحرية)، من دون وجود خوف او ريبة.   انعدام الكمال في ممارسة الحرية يعني، أول ما يعني، أن وجود الجماهير الشعبية توقّف على خطوط الخطر الإنساني تحت نزوات الحكام الصدفة.  الحكام يفرضون على المحكومين (خرافات) باعتبارها حقائق. خرافات دينية وسياسية متنوعة عن التاريخ القديم حدثت في السماء والأرض.  لا وجود علمي لها ولا أساس، معتقدين ان (السياسة) أي (الحكومة) ليست منفصلة عن الدين، بل يجب دمجهما، معاً، حتى يكون التحدث باسم الله عملاً مقبولاً من قبل السامعين، المنتفعين، البسطاء والجهلاء، من الناس مؤكدين على تحجيب المرأة وتجنب أكل لحوم الخنزير وعبادة الفرد من خلال الولي الفقيه او الحاكم الفقيه أو خادم الحرمين الشريفين، وطاعتهم طاعة مطلقة لأنهم ولاة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ...!

هل تأتي الحرية الى العراقيين بعد اضطهادهم، بمقاربات او مناقضات، من مظاهر حكومة عراقية ليست منتخبة، بعد عقود طويلة من القمع والبطش، خاصة بعد ان نصّب الكون الظالم، حاكماً منفصلاً عن جميع المستويات الاخلاقية، كثير الفوران في قمع كل شكل من أشكال الحرية. هل تأتي الحرية من حاكمٍ يأمر بموت المواطن من دون محاكمة.. هل تأتي من حاكمٍ يمارس العنف والقتل مع النساء والأطفال.. هل تأتي الحرية من حاكمٍ لا يرتكز على المساواة امام القانون، بل يرتكز على مؤهلات الإكراه والشك والتعصب والسخط على كل مظهر من مظاهر المدنية ...؟

ثم يأتي سؤال آخر: هل يمكن ان تأتي الحرية الى العراق على أيدي المحتلين الأمريكان ...؟ 

حين سقط نظام صدام حسين يوم ٩ نيسان ٢٠٠٣ وجدتْ الولايات المتحدة الامريكية نفسها في العراق: انها وحدها مزوّدة (بمؤهلات حكيمة) تجعلها من أهل الرأي الحاسم في إيجاد قيادة وطنية للدولة العراقية المحتلة تتكون من وجوه المعارضة العراقية، التي كانت ذات صلة مع الخارجية الامريكية او مع البنتاغون. كان الحاكم الامريكي الاول في بغداد عسكرياً متقاعداً، في جيش الولايات الامريكية المتحدة اسمه: (جي غارن) استقال او اقيل بعد عدة أسابيع.. ربما كان متشائماً. لذلك لم يستطع مواصلة مهمته ليتركها وليسلمها الى بول بريمر، الذي كانت الادارة الامريكية في البيت الأبيض بقيادة جورج بوش مستبشرة ومتفائلة بقدرات بريمر وحكمته.

وجد الحاكم المدني العام بول بريمر، نفسه، امام بعض الأوساط تحمل شعوراً طائفياً وقومياً، في وقت كان يريد تأسيس قاعدة دولة عراقية (مدنية)، مما جعل الثلاثي المتكون من اغراب: الامريكي (بول بريمر) والافغاني (خليل زاد) والجزائري (الأخضر الإبراهيمي) ان ينصاعوا لرغبات القادة العراقيين الجدد وأن يفرضوا على المجتمع العراقي، الغريب عن تجاربهم والغريبون عن تجاربه أساليب ليست واقعية من خلال التشارك (المحاصصة) على أسس مذهبية (سنة وشيعة) وقومية (عرب وكرد).

هذا الوسط الثلاثي الخارجي (بريمر + خليل زاد + الإبراهيمي) قرر (فرض) ظاهرة تقسيم المجتمع العراقي طائفياً بين فئاته وتحاصصنا بين حكامه. كان تصوراً خاطئاً، خطيراً، لا زال انتشاره مستمراً وسلبياً على الفاعلية الاجتماعية والسياسية العراقية كلها. المعنى الأساسي، المقصود او غير المقصود، أدى، بالنتيجة، الى غياب (المواطنية) عن العراقيين من خلال عدم اندماج (الطائفة) وعدم انصهار القوميات واتباع الديانات المختلفة في دولة حقيقية موحدة. هذا الثلاثي - السياسي -الأجنبي لم يستطع ان يقدر، تقديراً علمياً، صائباً، ظروف الحالة الجديدة الناشئة في العراق جراء إسقاط نظام الحزب الواحد عن طريق الغزو الامريكي بحرب مدمرة. كما لم يستطع ان يتعرف الى رغبة الشعب العراقي بالديمقراطية الواسعة لإقامة (مجتمع مدني) و (دولة مدنية) حقيقية، فعالة، في خدمة المواطنين العراقيين. الثلاثي ابتدع، بعد خطوة حل الجيش العراقي وتشريع الاحتلال، طريق الابتعاد السياسي، الاستراتيجي والتكتيكي عن هموم المجتمع المدني واغراق المجتمع بالخصومات الفئوية والطائفية والاثنية والعشائرية، التي تنامت خلال الستة عشر الماضية، وصولاً الى انتفاضة الشباب العراقي في أكتوبر ٢٠١٩. 

كل انسان عراقي، رجلاً كان او امرأة، هو جزء من القاعدة الاساسية لتحريك المجتمع نحو التقدم. في المجتمع ظواهر كثيرة، محسوسة ومثيرة. احيانا تكون تلك الظواهر مساندة للإنسان وأحيانا اخرى تكون عائقاً. لكن يبقى العمل الرئيسي هو كيفية تعامل الانسان معها.. كيف يكون شعوره تجاهها. كيف تؤثر على افكاره وخططه وكيف تعيق او تحقق أمانيه الفردية والعمومية. يصعب على كل مواطن، بما فيهم الأساتذة الأكاديميون وعلماء الاجتماع التعرف على (جميع) أفكار وأحاسيس وتطلعات (كل) مواطن، بصورة عميقة كاملة. 

ابتدع (الاسلام السياسي) بدعة قوية، ليست متخيلة، خصوصاً بعد أن رفرف عليها العلم الإيراني، خلال السنين الستة عشرة الماضية. صار العلم الإيراني، رمزاً للعاصمة الاسلامية الحديثة يمكنه وحده ان يرتقي بالعراقيين الى أعالي السماء، الى جنة الله. ابتدعوا تسمية للبشر المخلوقين في العراق بأنهم (مكونات) اجتماعية، لكل واحد منها طريقته في سباق تسلق السماء وصولاً الى (الجنة). كل انسان في بلاد الرافدين ، جبالها ووديانها هو ليس ( مواطناً ) حراً، مثل بقية البشر ، بل هم مثل ( مكونات المطابخ ) تجتمع و تتصادم و تحترق بجدرٍ واحدٍ عن طريق الطبّاخ ، بدرجات حرارة معينة،  كما تحتاجه طبخة مكونات الدولمة او السنيون او مرقة البامية،  بالعكس من أولئك البشر الذاهبين الى الفضاء الخارجي بسفينةٍ فضائيةٍ واحدةٍ فأن ذهاب البشر من روس او امريكان او بلجيك او جيك ، رجالاً كانوا او نساءً،   او حتى من العرب ، في رحلةٍ مشتركة فأن التكنولوجيا العلمية الراقية ، توحّدهم عند الذهاب الى محيط القمر او المريخ ، يقومون بدراسة مكونات تلك العوالم الكبيرة وباطنها و تاريخ نشوئها وتطورها الكوني،  ناسين أي شكل من اشكال عقائدهم الخاصة او دياناتهم او مذاهبهم او طوائفهم  أو جنسياتهم .  الجامع الوحيد يجمعهم هو اكتشاف جزء من الكون، الذي يجولون فيه، بينما أحزاب الإسلام السياسي وسفنهم الحكومية والبرلمانية من جميع المكونات، بلا استثناء، لا يعلنون ولا يخدمون غير ماضي مذنبات اجدادهم الطائفية والاثنية وانتزاعها من الصخور المتحجرة لتكون لحظة ضوئية لتنير دروبهم التنفيذية والتشريعية والقضائية، بينما هم يغطونها، عن دراية او غير دراية، بوابل من الظلام وتدمير أسس حصاد الدولة خلال السنوات الستة عشر الماضية.

الإسلام السياسي الإيراني منشغل، كلياً، بقتل المتظاهرين في شوارع طهران وغيرها، لمجرد انهم أعربوا عن مشاعرهم الحزينة في اربعينية قتلاهم، بحادث الطائرة الأوكرانية، والإسلام السياسي اللبناني منشغل بنصب تمثال للعسكري الإيراني قاسم سليماني بقرية في جنوب لبنان، تعبيراً عن علاقة التبعية الموحدة   بين بعض اسلاميي لبنان مع ولاية الفقيه الإيرانية. بهذا وذاك يؤكد الإسلام السياسي انهم منزعجون من كل شيء (علمي) ومن كل شيء (مدني) في حياة الناس والمجتمع. انهم يسعون لإقناع أنفسهم واقناع اتباعهم أن لا دور للإنسان المعاصر في بناء وتشييد حياته وممارسة حريته الإنسانية.. بذلك يمارسون العدوان على الآثار الأخلاقية، التي نشرها النبي محمد، مثلما يعتدون على الديمقراطية، التي يعلنون، زوراً وبهتاناً، انهم يصنعونها لمئات الملايين من المسلمين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بصرة لاهاي في 17 شباط 2020  

عرض مقالات: