صدر مؤخراً للباحث الاقتصادي العراقي الدكتور صالح ياسر حسن كتاب بعنوان "عمليات الانتقال الديمقراطي على الصعيد العالمي ـ بعض إشكاليات النظرية والممارسة". وذلك عن دار أوروك ـ ميديا، في العاصمة السويدية ستوكهولم.
يشمل الكتاب (الذي يقع في 234 صفحة من القطع المتوسط)، عشرة فصول، يتناول فيها الباحث وبروح نقدية اختلاف المفاهيم المتعلقة بالديمقراطية وبعمليات الانتقال وأهمية توضيحها. ويسلط الضوء على بعض المفاهيم والأطروحات النظرية التي تؤصل لعملية الانتقال الديمقراطي، من خلال التعريف بمفهوم الانتقال" ذاته. ورصد وتحليل الأسباب التي تؤدي اليه، والطرق أو الأساليب التي تتم من خلال عملية الانتقال، مخرجات هذه العملية، لاسيما فيما يتعلق بترسيخ الديمقراطية في مرحلة مابعد الانتقال.
وقبل أن يشرع الباحث أبواب ثيمة الكتاب، يضع بين أيدينا عدداً من الملاحظات التي تخص مفهموم الانتقال الديمقراطي، وموقعه في البحث عن كيفية تطبيق عمليات الإنتقال، من مجتمع ذي طبيعة استبدادية دكتاتورية الى نظام ديمقراطي نقيض. بمعنى آخر، إعادة بناء الدولة على أسس جديدة، أسس ديمقراطية. ولكن من خلال السعي الى تحقيق هذا الهدف تنشأ بعض الإشكاليات والصعوبات في الممارسة. وهذا ماحدث ويحدث في مختلف البلدان السائرة نحو هذا المسعى، بدرجات متفاوتة، اعتماداً، الى حد كبير، على "مستوى التطور الاجتماعي والاقتصادي في البلد المعني، وعلى الظروف الإقليمية والعالمية السائدة في اللحظة التاريخية التي يحدث فيها هذا الإنتقال.
وبالرغم من وجود تباينات في التحليل العلمي، لفهم موضوعة الانتقال الى الديمقراطية فثمة مقاربات أيضاً في هذا الحقل المعرفي، الذي يخبرنا الباحث، بأن دراسة منظومته أصبحت تأخذ استقلالية، بحيث بات يطلق عليه اسم "علم الانتقال الديمقراطي، أو فقه المرحلة الانتقالية".
بدراسة منهجية ابتدأها بشرح المفاهيم والمصطلحات التي تشكل بنية موضوعة الانتقال الى الديمقراطية، يتابع الباحث صيرورتها التأريخية، وفق ما يطلق عليه "التحقيب التاريخي" بمعنى تتبع انتشار مفاهيم الديمقراطية، بصيغتها المعاصرة على شكل موجات، رغم استدراكه بأن هذه المقاربة تعرضت الى النقد بسبب "تعريفها المبهم للانظمة الديمقراطية من خلال مؤشر الانتخابات أساساً". أذ أن الانتخابات وأن كانت تشكل أحد الجوانب الأساسية في الممارسة الديمقراطية، لكنها ليست العنصر الوحيد، اذ ثمة أساسيات أخرى تتعلق بحقوق الفرد وحرية التعبير والعمل، بل وجميع "الشروط اللازمة لاحترام الحقوق والحريات والفصل بين السلطات الثلاث الخ". ولدينا التجربة العراقية، على سبيل المثال التي تعرض فيها الديمقراطية واحدة من أهم تجلياتها على المحك، حيث الحراك الشعبي الذي يستخدم فيه الشباب المنتفض والمدعم من طيف واسع من فئات المجتمع، أدوات الفعل الديمقراطي الذي ضمنها الدستور، وهي حق التظاهر السلمي والاعتصام والاضراب عن العمل وحرية التعبيروغيرها، والتي تقابل من قبل السلطات المتنفذة بأشكال عدة من محاولات القمع والالتفاف على هذا الحق. فالممارسة الديمقراطية لا تتحدد بصناديق الانتخابات، وأنما هي فعل يومي مؤسساتي، حق يمارسه الجميع.
إن توفر الشروط اللازمة لعمليات الانتقال الى الديمقراطية، لم تصنع لوحدها تحولاً نحو الديمقراطية، فهي ترتكز أيضًا على جملة من العوامل الخاصة في كل بلد، كالبنى الدستورية والهيكليات القانونية والمؤسساتية السياسية التي تنشأ فيها. وهذا الكتاب يلفت انتباهنا الى ضرورة التمييز بين الانتقال الديمقراطي والحكومة الديمقراطية. ويميز بين ثلاثة أنماط للانتقال الى الديمقراطية تتلخص في:
ـ بناء نظام ديمقراطي جديد، على أنقاض حكم لاديمقراطي، ـ استعادة النظام الديمقراطي، بعدة فترة من حكم لاديمقراطي، والثالت الانتقال من نظام شبه ديمقراطي، أو ديمقراطي مقيّد الى نظام ديمقراطي كامل.
في الفصل الأول من الكتاب، يركز الباحث على ما أسماه بمعركة المفاهيم، بمعنى التمييز بين المفاهيم الرئيسة للتحول الى الديمقراطية. فيما يتناول في الفصل الثاني بعض المقاربات النظرية للتحول الديمقراطي التي تشمل مقاربات تحديثية، بمعنى الغوص في بواطن البنى الاقتصادية والاجتماعية ومستوى التصنيع والتمدن ومؤشرات الرفاه المادي. أما الفصل الثالث فقد خصص لمحددات وعوائق الانتقال الديمقراطي، مثل إشكالية العلاقة المدنية ـ العسكرية في مرحلة الانتقال الى الديمقراطية، والحركات والقوى المضادة، التحديات الاقتصادية والاجتماعية، الأنماط الاقتصادية ـ الاجتماعية المختلفة، تآكل قدرات الدولة، التحديات السياسية، عائق الايديولوجيا، اشكالية الدستور، اشكالية العفو والعوائق أمام تطبيق العدالة الاجتماعية الانتقالية، تأثيرات المحيط الاقليمي والدولي ...الخ.
وفي الفصول اللاحقة يتناول د. صالح ياسر حسن تجارب الدول الاوروبية والأمريكيتين ودولاً في القارتين الأفريقية والآسيوية.
ويفرد الباحث فصلاً خاصاً للحالة العراقية، واللحظة التي يعيش فيها العراق اليوم، وهي مرحلة الانتقال الى مرحلة التحول الديمقراطي في ظروف اقتصاد ريعي، والتي يصفها بالثنائية المستحيلة. كما أن تشخيص المرحلة الانتقالية التي يمر بها العراق اليوم جاءت نتيجة لماضٍ شمولي عاشته البلاد ومستقبل صعب لتحقيق الديمقراطية. والمعضلة تكمن في تشكيلة الدولة الريعية وطبيعتها، التي لايمكن لها توفير الشروط الأساسية لبناء الديمقراطية. "وإنما تعزز السمات التسلطية (الدكتاتورية)"، إذ أن الدولة هي المتحكم بالثروة الوطنية. بتعبير آخر يمكن القول أن الريعية النفطية في دول مثل العراق هي الاقتصاد السياسي للاستبداد". ولذلك فأن البدء بعملية الانتقال من الاقتصاد الريعي الى الاقتصاد المنتج هو المدخل الوحيد الى تأسيس حياة ديمقراطية بكل معنى الكلمة. وخلصت الدراسة الى أن "الديمقراطية لن تتحقق في العراق "طالما ظل الاقتصاد ريعياً مشوهاً وأحادي الجانب، وستبقى البلاد تواجه حالات استعصاء دائمة طالما ظلت اسس الدولة الريعية ـ الاستبدادية قائمة".
إذن المرحلة التي يمر بها العراق اليوم هي مرحلة الانتقال الى مرحلة التحول الديمقراطي، "ولم يصل بعد الى مرحلة (التحول الديمقراطي)، كما يستنتج الباحث.
إن ما يهدف اليه كتاب "عمليات الانتقال الديمقراطي ـ بعض إشكاليات النظرية والممارسة" هو تسليط الضوء على بعض المفاهيم والأطروحات النظرية التي تؤصل لعملية الانتقال الديمقراطي، وذلك من خلال التعريف بمفهوم "الانتقال" ذاته، ورصد وتحليل الأسباب التي تؤدي إليه، والطرق أو الأساليب التي تتم من خلالها عملية الانتقال، ومخرجات هذه العملية، لا سيما فيما يتعلق بترسيخ الديمقراطية في مرحلة ما بعد الانتقال. هذا اضافة الى تقديم عرض لبعض التجارب في مختلف مناطق عالمنا المعاصر، وأخيرا تتوج الدراسة ببلورة جملة من الدروس والملاحظات والخلاصات. التي تأتي في المقدمة منها هي أنه لا وجود لتغيير ديمقراطي في التجارب الانتقالية، وخاصة بالنسبة للأنظمة الشمولية والتسلطية، دون مخاطر وأثمان (تكاليف الانتقال)، وهذا يختلف من تجربة الى أخرى، ومن مرحلة الى أخرى، غير انه من الضروري التشديد على أن مخاطر الانتقال الديمقراطي لن تكون أعلى كلفة من بقاء النظام الشمولي والدكتاتوري جاثم على صدور الناس.
وبعد الغوص في موضوعة الانتقال الديمقراطي وتفكيك مفرداتها، وابراز المعايير والأسس التي يشيد عليها المفهوم العام، من خلال" تحليل عمليات الانتقال الديمقراطي على الصعيد العالمي، ومايرافق هذه التحولات من إشكاليات الفهم النظري لمفهوم الديمقراطية، والمعضلات التي تواجه عملية الممارسة، يبلور الباحث جملة من الاستنتاجات والخلاصات، وأبرزها: عدم وجود وصفات جاهزة دولياً للانتقال الديمقراطي. لكن هناك العديد من الدروس التي يمكن تعلمها. ومنها أن التجارب الملموسة بينت أن خبرات وتجارب الانتقال الديمقراطي على الصعيد العالمي جرت من خلال طرق عديدة وآليات مختلفة، كان لكل منها ظروف وسمات وديناميات خاصة. وغالباً ما أثر أسلوب الانتقال على نوعية النظام الديمقراطي الوليد وحدود قدرته على الاستمرار والمطاولة في مواجهة تحديات الانتقال.
ومن الإستنتاجات الأخرى التي توثقت لدى المؤلف، ان الديمقراطية لا تفرض من الخارج، وهي غير قابلة للاستيراد والتصدير، كما أن عملية الانتقال الى الديمقراطية، على الأغلب، معقدة، لكنها ديناميكة، مفتوحة على كافة السيناريوهات وتستغرق فترة زمنية طويلة نسبياً.
"عمليات الانتقال الديمقراطي على الصعيد العالمي – بعض إشكاليات النظرية والممارسة"هذا الكتاب هو الثامن من مجموعة مؤلفات الباحث الكتور صالح ياسر حسن في مجالات الاقتصاد والسياسة وفي المجتمع المدني والمجتمع السياسي.