منذ الأول من تشرين الأول 2019 ، خرجت جماهير الشعب على اختلاف شرائحها في بغداد العاصمة ومحافظات الوسط والجنوب منتفضة رافعة شعار ( نريد وطن ) والأصح هو ( نريد الوطن ) فالوطن موجود  والشباب ليسوا غجرا حتى يراد لهم وطن . فوطننا من اجمل الأوطان  بشعبه وحضارته العريقة ( حضارة وادي الرافدين ) والتي هي بعمق تاريخ هذه الأرض ، وطن الخيرات والعلماء والأدباء والمفكرين. وقد ارادت القوى المتنفذة المدعومة من الخارج الضياع للعراق حين ارادوا اختزاله في شيعته وسنته وكرده وبقية طوائفه ، وارادوا سلب ثرواته وخيراته وحرمان الشعب منها ولكن وعي الشعب احبط محاولاتهم حين تلاحم بجميع اطيافه وهتفوا باسم العراق : ( بالروح بالدم نفديك يا عراق ..) هذا الهتاف الذي افقد السياسيين المتنفذين المدعومين من ايران عقولهم فلجأوا الى الاستخدام الفرط للقوة  لإسكات صوت الشعب المدوي .

ما الأسباب التي دعت شباب الانتفاضة الى رفع شعار ( نريد الوطن )؟

الا يوجد وطن للمنتفضين حتى يطالبوا به ؟

بفضل القوى المتنفذة الفاسدة اصبح الشعب يعيش الغربة داخل الوطن ، فالشعب محروم من الماء النقي الصالح للشرب ومن الكهرباء المستمرة رغم انفاق مليارات الدولارات عليها ، اضافة الى المعاناة من البطالة وخاصة بين الشباب واصحاب الشهادات العليا  حيث فرص العمل متوفرة حصرا لأبناء المسؤولين واقاربهم بغض النظر عن توفر الشهادة والخبرة وقد تكون الشهادات مزورة وفي هذا العهد تحولت الوزارات الى اقطاعات تابعة للوزير واقاربه وممثلي حزبه الى جانب الاستيلاء على السفارات والملحقيات الثقافية والتجارية في الخارج من قبل ابناء واقارب كبار السياسيين. وقد واجهت الحكومة المطالبين بحقهم في العمل بالماء الساخن والرصاص الحي والغاز القاتل وكانت مطالب المتظاهرين المشروعة سواء كانت سياسية او خدمية هي نتيجة فساد العملية السياسية التي نهبت ثروات العراقيين ، ولم ير الشباب في ظل هذا النظام السياسي القائم على نهج المحاصصة والطائفية وجود آفاق لمستقبل قريب يكون في مصلحة الشعب في ظل النخب الحزبية المتنفذة المسيطرة على المال العام من خلال قوانين انتخابية مفصلة على مقاساتهم ومواد دستورية غير قابلة للتغيير من اجل البقاء في السلطة والحصول على مغانمها .وقد انتشر الفساد في كل مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية بشكل لم يسبق له مثيل في أي دولة من دول العالم حيث احتل العراق المراتب الأولى من بين دول العالم الأكثر فسادا حسب منظمة الشفافية الدولية مع وجود موازنات انفجارية تعادل اكثر من ميزانيات اربع دول عربية بينها مصر دون ان تقدم الحكومات المتعاقبة منذ 2003 والى اليوم اية خدمات او انجازات في كافة المجالات وانتشار البطالة والأمية والفقر الذي طال كثير من الطبقات الاجتماعية حيث تشير المعلومات حسب الأمم المتحدة ووزارة التخطيط ان من يعيش تحت خط الفقر في العراق حوالي 30في المائة من الشعب مما حدا بالناس الى ارسال اولادهم الى الشارع للتسول بدلا من المدارس لكسب عيشهم فنجدهم في تقاطعات الطرق يمارسون التسول ومسح زجاج السيارات وبيع الشاي والمناديل الورقية ولجوء البعض الى جمع علب المشروبات الغازية الفارغة من الشوارع لبيعها بمبالغ بسيطة ، على الرغم من كون التعليم الزاميا في المرحلة الابتدائية . وسبق وان قال الثائر العظيم جيفارا :(  لن القي بسلاحي حتي يستطيع كل اطفال العالم شرب كأس حليب على الأقل يوميا ..) ، بينما في العراق نجد النساء والأطفال يبحثون في النفايات عن قطعة خبز في بلد يعتبر من اغنى بلدان العالم بثرواته وخيراته في الوقت الذي تعيش فيه الطبقة الطفيلية الفاسدة الحاكمة في بذخ مريب وسرقة اموال اجيال عديدة على حساب الطبقات الفقيرة بعد ان كانوا اقرب الى الشحاذين يعيشون في الخارج يبيعون المحابس والسبح والخضروات ولا يملكون ايجار شقة لسكنهم معتمدين  على المعونات الاجتماعية التي تقدمها لهم الدولة الأجنبية التي كانوا يعيشون فيها .

تشير الأرقام الى ان 45 في المائة من الموازنة الاتحادية في العراق تذهب لصرفيات الرئاسات الثلاث وبذخها، فمن اين تأتي الخدمات وتوفير فرص العمل للعاطلين من كافة فئات الشعب في ظل سوء الادارة والاقتصاد الريعي ؟ الا يحق لأبناء الشعب المحروم الانتفاض ضد الظلم والفساد وسوء الادارة؟ اضافة الى ذلك فإن قانون الانتخابات مكرس لخدمة الطبقة الطفيلية الفاسدة الذي اثر بشكل كبير على نتائج الانتخابات الى جانب التزوير وحرق صناديق الاقتراع وشراء الذمم ومنح الوعود بالتعيين وتوفير السكن وتوزيع الأراضي  التي مارسها السياسيون المتنفذون ولذلك اصر السياسيون المتأسلمون على ابقاء قانون انتخابات مجحفا لصالحهم يهمش ويبعد القوى الوطنية والديمقراطية، وآخر ما توصلوا اليه اعتماد قانون سانت ليغو بنسبة ( 1.9) لكي يبعدوا الآخرين النزيهين والكفوئين عن الوصول الى البرلمان ومجالس المحافظات. كل هذا ألهب الشارع العراقي ومنذ 2011 والى اليوم حيث تصدر التيار المدني الديمقراطي الاحتجاجات ضد الفساد ومن اجل المطالبة بالخدمات الا ان الحكومة السابقة واجهت المنتفضين بالقوة والاعتقال واستشهاد عدد من المتظاهرين مثل الشهيد هادي المهدي والشهيد منتظر الحلفي من ( المدينة ) في البصرة الذي استشهد عام 2015 الى جانب اعتماد السلطة آنذاك على تقديم الوعود لأهالي البصرة مثلا بتعيين ( 10000 ) مواطن عاطل عن العمل فورا ولكن ذلك كان مجرد وعد بقي حبرا على ورق .

واليوم ايضا واجهت الحكومة الحالية المنتفضين باستخدام القوة المفرطة التي ادت الى استشهاد ما يقارب 400 شهيد واكثر من 15 ألف جريح اضافة الى الاعتقالات والخطف وتكميم الأفواه وهي بذلك لا تختلف عن نظام صدام الدكتاتوري القمعي . الا ان المتحدث الرسمي باسم الحكومة يجمل افعال الحكومة وينكر وجود شهداء او اعتقالات ويرى ان الغاز المسيل للدموع هو غاز عادي لا يؤدي الى القتل . فكل هذه الأمور والمآسي التي يعاني منها شعبنا دفعت بالشباب وشرائح المجتمع الاخرى بمن فيهم النساء والطلبة الى الانتفاض بوجه السلطة الفاسدة حيث عمت الانتفاضة مدن العراق المختلفة في بغداد والوسط والجنوب الا ان السلطة واجهزتها القمعية واجهتهم بالرصاص الحي والماء الساخن والغاز القاتل وليس المسيل للدموع والاعتقال والخطف حيث انكرت السلطة ذلك مشيرة ومن خلال وزير الدفاع الى وجود طرف ثالث لا تعرفه ينزل من السماء يقتل المتظاهرين ويختفي دون علم السلطة . كما لجأت السلطة بعد الاحتجاجات العالمية الى قطع الانترنت واغلاق بعض القنوات الفضائية بعد تدمير اجهزتها وتهديد منتسبيها في خرق مفضوح للدستور الذي يحفظ حرية التعبير وعدم انتهاك الحريات العامة ، وهذا بالضبط مثلما فعله نظام صدام القمعي عندما منع استخدام ( الدش ) لاستقبال القنوات الفضائية التي كانت تفضح النظام واصدر قانونا بذلك متضمنا فرض عقوبات على من يستخدم ( الدش ) لاستقبال القنوات الفضائية .

ومقابل كل ذلك اليس من حق المنتفضين ان يرفعوا شعار ( نريد الوطن ) بعد ان سلبته القوى المتنفذة الفاسدة منهم ؟ وان يرفعوا شعارات تعبر عن معاناتهم ومطالبهم : ( باسم الدين باكونه الحرامية ) ، و ( بالروح بالدم نفديك يا عراق ) و ( سلمية ... سلمية ..) و (إخوان سنة وشيعة  هذا الوطن ما نبيعه ..) وغيرها من الشعارات التي تعبر عما يريده المنتفضون. كما رفض المتظاهرون التدخلات الخارجية في الشأن العراقي سواء من إيران او امريكا او السعودية.

ان الشباب يريدون وطنا يرفض التدخلات الخارجية عموما. ولذلك نقول :

( هبوا ضحايا الاضطهاد       ضحايا جوع الاضطرار

  بركان الفكر في اتقـــــاد       هذا آخر انفجــــــــــــــار

هيا نحّوا كل ما مـــــــــــر       ثــــوروا حطموا القيود

 شيدوا الكون جديدا حــــرا       كونوا انتم الوجـــــــود

بجموع قويـــــــــــــــــــة        هبوا لاح الظفر  ...)..

يريد الشباب المنتفض وطنا يحتضن شعبه بحنان وعدالة وسعادة وليس احتضان الغني  وسحق الفقراء وتعظيم المتزلفين والسراق . الشباب يريد وطنا قويا وقضاء عادلا وطنا يسوده القانون الذي ينبغي ان يكون فوق الجميع ، وطن يتوفر فيه الأمان ولا أمان في العراق اليوم ، وطن يعني الحرية ولا حرية في العراق  ، وطن تكون فيه الديمقراطية حقيقية وليست مقزمة كما هي الآن . وطن يوفر السكن الملائم لأبنائه وليس ذلك متوفر اليوم . وطن يوفر فرص العمل ويحل مشكلة البطالة ولا عمل في العراق اليوم . ويريد الشباب وطنا منتجا ومصدرا وليس وطنا مستوردا ومستهلكا . وطن خال من الفساد المالي والاداري ولا يوجد ذلك اليوم . فكل شيء سلبته الطبقة السياسية المتنفذة  ونتيجة لسوء ادارتها ادت الى تدهور الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي لذلك يريد هذا الزخم الجماهيري الكبير تحسين حياته ويريد ان لا يتسرب اطفاله من المدرسة الى الشارع بسبب الفقر ، يريد العمل والأمل والمستقبل ، لكن تعامل السلطة الدموي معهم اخبرهم واكد لهم ان حياتهم عند الطبقة السياسية الحاكمة برئاساتها  الثلاث لا تساوي سوى عبوة مسيلة للدموع ( قاتلة ) او رصاصة. ويرى الشباب ان السلطة تستميت من اجل البقاء والحصول على المغانم والثروات على الرغم من ان احدا من المنتفضين لا يريدها ويطالبون باستقالتها  ولكنها متمسكة بكرسي الحكم . اليس من حق الشعب الانتفاض على السلطة القاتلة والفاسدة والظالمة. وبالمقابل كلما ازدادت السلطة جورا وقتلا كلما ادى ذلك الى تمسك المتظاهرين بمطالبهم المشروعة وبقوة اكبر، وكما قال شاعرنا الكبير الجواهري :

سينهض من صميم اليأس جيل مريد البأس جبار عنيد يقايض ما يكون بما يرجى ويعطف ما يراد لما يريد ..