كان الزمن هو النصف الثاني من العقد الثالث من القرن العشرين، عندما حطت عائلة مسيحية رحالها في هذه المدينة الصغيرة، قادمة من البصرة، وافتتح الإبن الأكبر لهذه العائلة فرج معملاً للثلج - وكان بينهم يوسف الأخ الأصغر الذي كان وقتها قد جاوز الخامسة والعشرين من عمره.
وقتها لم تكن الناصرية سوى بضعة شوارع متقاطعة عمودياً مع بعضها، وعشرات من صرائف القصب والبيوت الطينية الملتصقة بإحدى ضفتي الفرات، وكان النخيل يسورها من جميع جوانبها، محتضناً ذلك المنخفض الذي زرعها فيه مدحت باشا. وكان سكانها فلاحين فروا من ظلم الإقطاع وكسبة وحرفيين يزاولون مهناً بسيطة وأصحاب حوانيت متواضعة تزدحم بالضروريات من البضائع.
ومنذ وصوله المدينة إنخرط يوسف في الحركة السياسية التي كانت نشطة، في ذلك الوقت، خصوصاً بين أوساط الشباب المتعلم _ طلاب المدارس _ ودواوين بعض البيوت، ثم ما لبث أن أصبح عضواً في الحزب الوطني العراقي، الذي كان يقوده في الناصرية عبد الجبار حسون جار الله.
ونشط يوسف في لجان الحزب التي كان معظم عملها ذا طابع إجتماعي كلجنة دعم الرغيف، واللجنة الخاصة بمتابعة أمور الفلاحين القادمين من الريف وتسهيل مراجعاتهم لدوائر الدولة والمستشفيات... الخ.
وخلال فترة زمنية قصيرة إستطاع يوسف بحكم شخصيته وقدرته على معرفة مشكلات الكادحين وقيادتهم وتنظيمهم، أن يكون عنصراً بارزاً في الحزب الوطني العراقي في الناصرية، وراسل جريدة الأهالي التي مدها بمواد وتحقيقات ذات نكهة جديدة، فقد إتسمت بالإصالة والإنحياز التام الى جانب كادحي الناصرية وجماهيرها المسحوقة.
في تموز عام 1931 كان العراق يختظُ من أقصاه الى أقصاه رافضاً الضرائب الجديدة التي فرضتها السلطة، ولم تكن الناصرية بعيدة عن المساهمة مع شقيقاتها مدن العراق الأخرى. إذ خرجت من جامع الشيخ عباس في السوق الرئيس للمدينة، تظاهرة ضخمة، تهتف ضد السلطة، وتطالب بإلغاء الضرائب الجديدة، وكان {يوسف أحد قادة ومنظمي هذه التظاهرة، مع إنه لم يشارك فيها بشكل مباشر، بل كان يشرف عليها من بعيد، وحين سقط شهيدان يدعى أحدهما محمد السايس برصاص الشرطة التي تصدت للتظاهرة، حمل المتظاهرون الشهيدين وتوجهوا بهما وهم يهتفون بغضب وإستنكار، نحو بيت المتصرف المحافظ ولم يكن أمام الأخير، وهو يجد أن الأمر يكاد يفلت من بين يديه إلا أن يعد المتظاهرين بالإستجابة لطلبهم حول محاسبة المسؤولين عن إطلاق النار، أما مطالبهم الأخرى فسيرفعها للجهات العليا.
في ذلك الجو الحماسي الذي كانت تعيشه الناصرية أوائل الثلاثينات، كان يوسف يعمل في السر أيضاً، كان منكباً على بناء إولى الحلقات الماركسية، التي إنتقى أعضاءها من بين أنشط أعضاء الحزب الوطني العراقي نفسه. وقد نجح في تكوين عدة حلقات كان يشرف على قيادتها وتثقيفها بنفسه. وبذلك تحول معمل الثلج في الناصرية وعامله يوسف الى محطة يلتقي عندها عدد من البناة الأوائل لصرح الشيوعية الشامخ في العراق.
في أحد الأيام، أواخر عام 1931، يقول عبد الكريم حسون جار الله كنت أزور يوسف في المعمل، عندما انتحى بي جانباً وأخبرني أن في نيته تأسيس حزب من طراز جديد... حزب يناضل من أجل كنس عروش الطغاة وإنتزاع السلطة من أيدي المتسلطين وتسليمها للفقراء والكادحين. وقتها يقول عبد الكريم ابتسمت وأنا أسمع هذه الكلمات، وحين سـألني يوسف لماذا أبتسم ؟ أجبته : أبتسم فرحاً لما أسمعه منك! لكني في الحقيقة كنت أبتسم وأنا أحدق في الملابس الملطخة بزيت الألة وبصاحبها الذي يتحدث بثقة وتصميم عن كنس العروش، حتى يخيل لمن يسمعه ويراه أنه سيفعل ذلك دون شك !!
ولم يتعب يوسف في تفسير إبتسامة رفيقه، بل راح على الفور يحدثه عن أول عمل يجب القيام به لتحقيق ذلك الحلم المنشود، وكان ذلك العمل صياغة وتوزيع منشور جماهيري يتضمن أهداف الحزب العامة ووسائل تحقيقها. وبالفعل شرع يوسف بكتابة مسودة المنشور الذي تصدره شعار يا عمال وفلاحي البلدان العربية اتحدوا وكان مضمونه المطالبة بتحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة والدعوة الى التخلص من جور الإقطاع وإلى النضال من أجل إجبار السلطة على الرضوخ لمطالب الجماهير العادلة في الخبز والحرية. وقد تجند لإستنساخ المنشور باليد عدد من أعضاء الحلقات الماركسية، واختير لذلك ورق أحمر.
بعد أيام إستيقظت الناصرية لتجد شوارعها مطرزة بالورق الأحمر ولم تسلم حتى أبواب بيوت المسؤولين وجدران سراي الحكومة، فقد رصعت بنسخ من هذا المنشور.
وقرأ الناس لغة جديدة لم يألفوها وتساءلوا فيما بينهم عن سر هذا التنظيم الجديد.. من هم قادته؟ وكيف إستطاعت هذه الكلمات البسيطة والجريئة أن تكون قريبة من القلب ؟ وارتبك المسؤولون في المدينة وأسقط في أيديهم وهم يجدون أنفسهم عاجزين عن فهم سر هذا المنشور الجديد، وعاجزين عن التوصل الى أولئك الذين يقفون وراء إصداره !
وبينما كان المسؤولون في لحظة الإرتباك والخوف تلك كان يوسف ورفاقه يفكرون في إيجاد طرق مناسبة لإيصال منشورهم الى مدن العراق الأخرى !
ولمعت في رأس يوسف فكرة سرعان ما بسطها أمام رفاقه. فقد كانت زيارة الأربعين لكربلاء على الأبواب، وهي أنسب فرصة لتوزيع المنشور.
وهكذا احتضن قدر نحاسي كبير عشرات من نسخ المنشور. وأخذ القدر مكانه الى جانب قدور مشابهة في إحدى عربات القطار المتوجهة نحو مدينة الديوانية. ولم يكن يعرف سر ما في القدر النحاسي، سوى نفر من أولئك الرفاق، الذين كانوا ضمن وفد الأنصار المتوجهين الى كربلاء. وفي مدينة السماوة، وبعد أن تحرك القطار من محطته بلحظات تطايرت من نافذة إحدى عرباته حزمة من الورق الأحمر. تلقفتها أيدي المودعين والمستقبلين، الذين ما زالوا بعد في المحطة، وراحوا يتطلعون بإندهاش الى كلماتها الملتهبة، مما جعل سلطات المحطة تتصل بالقطار المغادر طالبة عودته فوراً الى المحطة !
ورغم الساعة الكاملة التي تأخرها القطار بعد عودته الى المحطة لم يتوصل رجال الشرطة الكثيرون الى كنز القدر النحاسي، كما لم يستطيعوا أن يكتشفوا _ من بين الوف المسافرين _ أولئك الذين غامروا برمي نسخ المنشور من نافذة القطار!
وهكذا وصل القدر النحاسي الكبير بسلام الى كربلاء، وأخرجت من أحضانه رزم الأوراق الحمراء، التي راحت تتنقل بين أكف وفود المدن العراقية الأخرى، ثم ما تلبث أن تختفي في طيات الدشاديش أو تحت أغطية الرأس، مؤملة الوصول الى أكف جديدة ومصافحة عيونٍ لا تحصى.
وقد جاء في المنشور:
( أيها العمال!.. العاطلون عن العمل يملأون الشوارع...نساؤهم وأطفالهم لا يملكون ما يقتاتون به.. هل فكرت الحكومة بمساعدتهم في هذا الطقس البارد ؟ لم يحصل شيء من هذا.. لأن الحكومة ليست إلا عصابة تعمل ضد الشعب...
ايها العمال ! إن للناس حقوقاً لن يؤمنوها إلا القوة. هذا ما أكدته دروس التأريخ.. ما من أحد يمكنه أن يشعر ببؤس العمال إلا العمال أنفسهم. ولا أحد يعرف آلام الجوع إلا الجائع. لماذا نلوم الذين يأكلون ثمارعملنا ؟ إذا كنا نحن أنفسنا نشجعهم على سرقتنا...لا تُخدعوا بإسم فلان من الناس لكونه من الأعيان أو لكونه غنياً أو من عائلة كبيرة، فكل الرذائل تأتي من العائلات الكبيرة التي يُزعم أنها شريفة، حيث لا شرف إلا في العمل، وما من شريف غير العامل والفلاح.
تشجعوا أيها الرفاق! فنحن نناضل في سبيل شرفنا وحياتنا وخير أجيالنا المقبلة، الى الأمام أيها العمال! تقدموا الى العمل المثمر وإلى الحرية وإلى الرفاهية )
وظهرت في الاشهر التالية بيانات اخرى في الناصرية، وإزدادت الدعاية الشفهية كذلك، وإنتقلت نسخ الترجمة العربية للبيان الشيوعي من يد الى يد، وبدأت السلطات ، التي شعرت بالانزعاج، في البحث عن يوسف سلمان يوسف في كل مكان، ووجدته أخيراً يوم 21 شباط 1933، ودهشت السلطات لأنه _ خلافاً للمعتقلين الآخرين _ لم يتذلل ولا أظهر خوفاً، ولاحظت الشرطة السياسية، كما ورد في ملفه في ذلك التأريخ، أنه اعترف عند التحقيق معه بكونه شيوعياً، وألقى محاضرة مطوّلةعن (الرأسماليين) و(الجماهير الكادحة).
وكان لهذا الحدث أثره المدوي على الدولة العراقية، والذي تعكسه الكتب الرسمية_ على علاتها اللغوية _ والتي أورد واحداً منها وهذا نصه :
الموضوع | العامل الشيوعي
الحاقا بكتابنا المرقم 20 والمؤرخ في 12 شباط 1933
لقد أخذت الشرطة بالسير في تحقيق قضية إلقاء الإذاعات بتوقيع عامل شيوعي في قضية الناصرية بين آونة واخرى. وقد اجتمعت الدلائل التي اؤمل ان يقال انها كافية للاتهام من ان المدبر والمنظم لهذه الاعمال هو عبد الجبار الحسون الذي اخذ رهن التوقيف اعتبارا من 19 الجاري بعد الظهر، كما انه قد اوقف اثنان اخران وهما عبد الجبار ابن غفوري ويوسف بن سلمان الذي يظن انهما هما الذين كانا يكتبان هذه الاذاعات بتوقيع العامل الشيوعي ، وبتاريخ 20 منه جلب يوسف سلمان لاجل الاستكتاب نظرا للشبهة الحوله من انه احد اعضاء هذه الجماعة بهذا العمل، ولدى استكتابه من قبل مفوض التحقيق اخذ يتصنع بشكل يجعل خطه غير طبيعي ولما طلب منه ان يكتب بصورة طبيعية امتنع عن الكتابة وبين بصورة واضحة للمفوض من انه رجل شيوعي، فاذا كان الاستكتاب من اجل ذلك فهو شيوعي وهذا معتقده ومذهبه فاخذوه فورا لمدير الشرطة فأيد ذلك بحضور مدير الشرطة وامتنع ايضا عن الكتابة وعليه عمل ورقة ضبط بحق المرقوم ثم ارسله الى الحاكم فأيد ما قاله بحضور مدير الشرطة عند الحاكم ثم احضره امامي، فبعد المباحثة معه عن شغله وصنعته ومقدار دخله الشهري، وما يملكه ومسقط رأسه اجاب انه عامل ميكانيكي، اما دخلي في ايام الصيف كان بين الخمسة وستة دنانير وذلك من واردات ماكنتي الثلج والطحين اللتين لي بهما الربع وليس لدى الشيوعي مالا عدا الالبسة والاضطهاد من المجتمع واصحاب رؤوس الاموال وانني على ذلك مضطهد أما بيتي ومسقط راسي فهو بغداد، وكانت اجوبته هذه بكل برودة دم وتأييده وتعريفه لي من انه شيوعي دون ان يسال عن ذلك ولما سألته عن امتناعه عن الاستكتاب اجاب اذا كان المراد مقابلة خطه فهو الذي كتبه امام المفوض هو كافي للتطبيق وانه لا يحرر غيره.
ولما سألته عما اذا كان هو المحرر للمناشير التي بتوقيع عامل شيوعي اجاب لا أتخطر ولا يجوز فعليه طبعا توقف المرقوم وكبس داره وقد عثر على بعض الكتب والمراسلات ولم يتم فحصها بعد.
أقارب المرقوم : يتبين ان للمرقوم ثلاثة أخوان المحررة اسماؤهم ووظائفهم ادناه :
1 _ داود سلمان مدير معمل الكهرباء في الناصرية.
2 _ فرج سلمان مترجم متصرفية البصرة.
3 _ طارق سلمان كاتب الشرطة في الدليم.
ومن رايي ان يؤخذ المرقومين تحت المراقبة ايضا، واني اهنئ مدير التحقيقات الجنائية على ما جاء باخباره المبلغ الينا طي كتابكم س| 105 والمؤرخ في 17 كانون الثاني 1933 عن المرقوم.
أصدقاء المرقوم : تبين ان المرقوم كثير التردد مع مهدي وفي مخابر جريدة صوت العراق الذي نشر عدة مقالات عن الناصرية وعن الانتخابات فيها وتجاوز حيم الصراف على احدى بنات اليهود وقد وجد كتاب خصوصي من المرقوم مهدي وفي الى سلمان منذ 1929 اقدم صورة منه بطيه ، اما صديقه الثاني فهو بطرس شمعون الخياط الذي قدم الناصرية في 2 تموز 1932 كان في كمب الاثوريين في بعقوبة ثم نقل الى مندان ثم رجع الى بغداد ثم السليمانية فالبصرة ثم الناصرية ويدعي انه اشوري من ابريشه قاربو الاها في قرية دورى من ملحقات ناحية برواري بالا في العمادية وله اخ في روسيا وليس له اقارب في العراق وقد كبس داره وحانوته وعثر على عدة اوراق ارسلت الى دائرة التحقيقات الجنائية لترجمتها لانها في لغة اثورية.
انني ارى ان المسألة خرجت من طور الحزبية والاعمال المدنية ودخلت في طور الدسائس وخلق المشاكل للحكومة والمجتمع وعليه ارى الواجب يدعو لاستعمال الحزم والصرامة، وعليه ارجو ان ايعار اهتمام لمراجعة بعض الشخصيات بداعي ان المرقومين من الحزب ومربوطين بهم ويسترحمون مساعدتهم، حيث ان الحالة وصلت الى اخر مرحلة يمكن معها تحمل هذه الالعاب والدسائس لان حالة اللواء وعقلية سكانه لا يمكن ان تتحمل الحزبية التي رائدها الاصلاح والخير فكيف بنا ورئيس الجماعة عبد الجبار والاعضاء من السوقة وعليه ارى ان اقل ضعف او تردد يظهر في معالجة هذه القضية سوف يؤول حتما الى توسيع نطاق هذه الفكرة ويحدث تطورا يتطلب اتعابا زائدة لمعالجته، فارجو معاضدتكم لنا في الاجراءات التي نقوم بها.
صورة منه |
المفتش الآداري | للمعلومات _
مدير شرطة اللواء _ لاجل مواصلة التحقيق عن معرفة الاشخاص الذين كانوا على اتصال معه ولزوم مراقبتهم بصورة شديدة والاستمرار في تعقيب اكمال تحقيقات هذه القضية شخصيا.
مع الكتاب نص رسالة من ( مهدي وفي ) مؤرخة ( كركوك 6|2|1929 )
حضرة الشاب الناهض نصير الانسانية يوسف افندي سلمان المحترم.
ايها الحر خذ رسالة حر
( قصيدة ثورية )
ثم يبين كيف اتهم مع عبد القادر السياب بانهم كانوا يسعون (وراء نشر مبادئ حزبنا الحر الشريف) اتصور انه الحزب الوطني.
وردت في الرسالة اسماء (صالح افندي حنا ) من كركوك _ الشاعر عبد الحافظ الخصيبي.
نادي الشبيبة
غالي بك زويد| في البصرة. جرجيس افندي
هؤلاء يسميهم مهدي وفي بالاحرار...