إن الحركة الاحتجاجية التي عمت الشارع العراقي منذ بداية اكتوبر لهذا العام هو نوع من المعارك التاريخية الفاصلة والحاسمة بين فريقين متناقضين, هما فريق السلطات الحاكمة التي فقدت شرعية وجودها على خلفية الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الخانقة والمتراكمة عبر اكثر من عقد ونصف من الزمن, ويمثل هذا الفريق منظومة الحكم والاحزاب الحاكمة منذ 2003 والقائمة على اساس المحاصصة الطائفية والاثنية السياسية والتي تعاملت مع الدولة العراقية كغنيمة يجري تقاسمها بين الاحزاب التي توالت على تسيير دفة الحكم, والفريق الثاني هو قوى الاحتجاجات الشعبية ذات المصلحة الأساسية في عملية التغير التقدمي, والمطالب بالحرية والعدالة الاجتماعية. ولكل فريق " جمهوره " الخاص والذي يتشكل في سياقات الغضب المتراكم في اتجاهين متنافرين: غضب السلطة وسدنتها وأعوانها, وغضب الثوار. ما هي طبيعة الغضب الجمعي لدى الفريقين, وما هي دلالاته, وكيف ينشأ لدى الفريقين, وما هي تداعياته, ذلك ما نطمح إلى تبيان اتجاهاته الرئيسية في هذه المحاولة المتواضعة.
أما الغضب الجمعي و" الثائر " أو الانفعال الثوري منه بشكل خاص فيتشكل من خلال حالة الوعي الجمعي بالمشكلات المشتركة بين أفراد المجتمع والمستعصية على الحل, كالمشكلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية, والتي تبدو بشكل واضح في انتشار الفقر والتفاوت المريع للدخول, وخاصة القائم منه على خلفية الفساد الإداري والمالي والسياسي, والمتمثل بالرشوة والمحسوبية والمحاباة والوساطة والابتزاز والتزوير وسرقة المال العام وغيرها, وخاصة عندما يكون الفساد اكبر حجما من المحاسبة ويصبح ثقافة شائعة تنهك أفراد المجتمع, ويدخل ضمن التركيبية السياسية للدولة, إلى جانب انعدام أو ضعف الخدمات العامة, من صحة وتعليم وماء وكهرباء وضمانات اجتماعية مختلفة,وعدم تفعيل دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي في إعادة بناء البنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية, وانعدام فرص العمل للمواطنين, يقابل ذلك في الطرف الآخر ثراء فاحشا وغير نزيه لشرائح اجتماعية وسياسية وقيادات في الدولة والأحزاب الحاكمة, الأمر الذي يترك انطباعا غير قابل للطعن بأن الدولة وقياداتها وأحزابها هي مصدر الظلم الاجتماعي ومسببه الرئيسي, وهي مصدر اهانة أفراد المجتمع وإذلالهم وتميزهم وتأليبهم على بعضهم سياسيا ومذهبيا وطائفيا واثنيا.
وتولد هذه السياسات بمجملها حالات من الكبت والقمع والحرمان المتواصل, وكلما زادت فترة الكبت للمشاعر المصاحبة فهي تشكل أرضا خصبة لغضبا جمعيا ثائرا محملا بشحنة الانفعال الثوري وهو محمود ومطلوب حيث الحاجة إليه لإثبات ذات الفرد والمجتمع ووجودهما, واخذ الحقوق ممن ظلموه وسلبوا إرادته في الحرية الحقيقية والعيش الكريم, فالغضب الجمعي الثائر أو الانفعال الثوري هنا هو حالة صحية وسوية للتعبير عن كبت المشاعر التي خنقت داخل الذات المجتمعية بفعل عوامل القمع والحرمان وانعدام الحريات والعدالة الاجتماعية, وهكذا جاءت انتفاضة الشعب العراقي ترجمة حية لطول كبت مشاعر الحرمان والفقر والفاقة التي تركها النظام المحاصصاتي البغيض, وهكذا جاءت الاحتجاجات المطلبية تعبيرا حيا وصادقا عن عمق أزمة الفساد السياسي والإداري والمالي الذي لا نلتمس فيه أفقا للحل, وهو نذير بمزيد من الاحتقانات والإعمال الاحتجاجية الناتجة عنه.
أما غضب السلطة الحاكمة وأجهزتها وأعوانها والذي أطلقت عليه بالغضب الجمعي " الجائر " فهو غضب الثورة المضادة, والتي تحاول بكل ما أتت به من بقايا القوة لعرقلة وتأخير اختمار الغضب الجمعي " الثائر ", وغضب السلطة الجمعي الجائر هو من نوع غضب " القطيع " نسبة إلى قطيع الأغنام الذي تتحرك جموعه بإشارة من الراعي الكبير ومن مرجعية سياسية ما او من زعيم أوحد, فهذه الجموع لا تتحرك على خلفية عوامل موضوعية مفهومة في الفكر والسياسة والممارسة, وإنما تتحرك على خلفية العداء لمطالب الجماهير المشروعة, يحركها خطاب قائد الضرورة السياسي أو الديني ذو المسحة الانفعالية الضارة بمصالح الناس, فسلوكها هو سلوك هستيري تجسده حالة الخوف من كل جديد, فهي لا تميز بين الصديق والعدو الحقيقي, ولا بين النافع والضار, ولا بين الخطر الحقيقي وما يشبهه, فسلوكها يخلو دوما من التميز, فهي تندفع تحت وطأة التعصب لإرضاء غريزة القطيع " الحيواني ", دون وعي وتنتشر في صفوف المجتمع كالنار في الهشيم لتخرب كل شيء دون حسبان لتصرفاتها وعواقبه, يحرك سلوكها " فوبيا " هستيرية, فهي لا تمتلك قدرة على التخطيط والحكمة في اللحظات الحرجة, وإنما يحرك سلوكها منطق القطيع الذي يتجمع على شكل حظائر بانتظار إشارة من " القائد" أو " الراعي " أو " المرشد الديني " أو " المفتي ". أن الغضب الجمعي الجائر مجردا من كل الصفات الإنسانية فهو يتحرك فقط على خلفية حاسة الشم القوية التي يمتلكها " القطيع " ويندفع حيثما توجه له الإشارة من فوق, وهذا ما يتعارض مع خصوصية الإنسان وعقله المتفرد, فالإنسان يتميز بالعقل الذي يجعل منه كائنا بيولوجيا اجتماعيا, فردا منتميا للمجتمع أو الجماعة البشرية, يطورها وتطوره, يقدرها وتقدره, يسمعها وتسمعه, يتفق معها ويختلف, ويبقى القضاء والحكم العادل هو الفيصل.
وعلى خلفية ذلك اندفعت الأجهزة المخابراتية والأمنية والميليشياوية وأعوان النظام من خلال الإذعان الأعمى لمشيئة القائد السياسي أو الزعيم الديني أو اي مرجعية سياسية أخرى مرتكبة أبشع جرائم القتل والتصفيات بحق الجماهير الثائرة, حتى بلغ عدد الشهداء اكثر من 350 شهيد وعدد الجرحى تجاوز 12 ألف جريح, مع العلم ان الاحتجاجات كانت بمسحتها العامة سلمية, سواء بتقديرات المنظمات الدولية والانسانية بل وحتى بتقديرات الحكومة العراقية.
البعد الأكثر عمقا في منطق الأحتجاجات العراقية انها ليست سياسية بامتياز بل تخضع لقوانين علم الاجتماع النفسي أي انه سيكولوجي سوسيولوجي يتمظهر أساسا في حالة العنف الجماعي وتكوين سريع لذكاء انفعالي جمعي يكون المحرك الأساسي فيه الازدحام والتحرك الجماعي مما يقلص من حسابات الذكاء الذهني الفردي الذي يدفع صاحبه الى الحيطة وعدم المغامرة وخاصة النفعية. فمن لم ينخرط في الذكاء الانفعالي الجمعي بالمشاركة الحقيقة وليس الشكلية فانه يبقى خارج اطار الحالة الأنفعالية الثورية, وبالتالي ما يجري هو حراك حيوي يعيشه النسيج الاجتماعي من اجل المطالبة بتحسين الاوضاع الانسانية العامة ومنها الاقتصادية بشكل خاص, وبحكم ضعف اصغاء السلطة وعدم أذعانها للمطالب المشروعة خلال عقد ونصف من الزمن فأن سقف المطالب لدى المحتجين ارتفع الى المطالبة بأسقاط المسببات الرئيسية للأزمات الدورية في البلاد والمتمثلة بنظام المحاصصة السياسية والمطالبة بأعادة النظر بكامل بنيته الدستورية والمؤسساتية.
لازال الحراك الاجتماعي العراقي محصورا في منطقة الانفعال الثوري الشديد ولم ينتقل الى مصافي الثورة الشاملة, بحكم عوامل موضوعية ارتبطت اصلا بغياب او ضعف القوى السياسية والمجتمعية التي تستطيع احتواء الانفعالات الثورية للجماهير وتحويلها الى فعل منظم يستطيع التمهيد لأخذ زمام المبادرة وطرح بديل لأزمة الحكم القائمة منذ عقد ونصف من الزمن. وفي ظل هذا الغياب إن اصبح مزمنا, فأن الأحتجاجات ستكون امام احتمالات التمديد والمراوغة من قبل السلطات والمراهنة على الزمن وتعب المحتجين, أو يتم ركوب موجتها من قبل قوى خارجية او داخلية لاعلاقة لها بمصلحة الشعب العراقي, أواحتمال قيام اجنحة عسكرية بفرض حالة الطوارئ في البلاد والتهيئة الى مرحلة انتقالية" رغم ان الأخير صعب في الحالة العراقية ولكنه غير مستبعد". يحتاج العراقيون الى المزيد من دعم المجتمع الدولي لشرح الأزمة البنيوية للنظام القائم, فالنظام لازال يتمتع بشرعية دولية, ولازال المجتمع الدولي ينظر للأحداث في العراق بأنها أزمة حكومية وممكن اصلاحها بتغير حكومي, وليست أزمة نظام سياسي ويجب اعادة النظر في بنيته الأساسية.