لقد احتملت الأم العراقية تبعات الفساد السياسي والإجتماعي والإقتصادي لعقود طويلة وكانت دائماً ما بين المطرقة والسندان، ما بين السلطة الأبوية والسلطة السياسية.
رغم أن التمييز في الأعراف كان مسلطاً على المرأة العراقية في كل شيء، في المكانة الإجتماعية وحرية الرأي والإختيار، لحرية العمل وحرية العلاقات الإجتماعية، لكنها تساوت مع الرجل في العقوبة والأحكام ضمن النضال السياسي فامتلأت السجون بهن واستهدفت الناشطات منهن بالقمع السياسي والتجريم والاغتيال وتشويه السمعة الإجتماعية كسلاح حاد للحد من حركتهن. إلا أن الأم العراقية بقيت مقاتلة في بيتها ومجتمعها وفي وطنها، فأرضعت أولادها محبة الوطن غير مبالية بالجوع والفقر والملاحقات السياسية.
في أول يوم دراسي تعلم أطفالنا (نشيد موطني) وقيل لهم هذا ما يمكن أن يُنسى في المستقبل، وحين عادوا إلى أمهاتهم قلن لهم هذا ما لا يمكن أن تنسوه أبداً، قد تنسون بعض ما تتعلمونه لكن هذا النشيد سيبقى محفوراً في أذهانكم، ويبقى له المذاق الطيب كمذاق اللبن الذي رضعتموه مني. ومر زمن لم أسمع من يردده حتى ظننت إنه قد نُسي إلى أن سمعت طلاب بغداد والبصرة يرددونه بصوت ملائكي، لكنه كان قوياً مُرعباً للظالمين. إنه الجيل الذي تعلم من الشارع العراقي الفرق بين الحق والباطل والجيل الذي تعلم من الصحافة الحرة وسمع الحقائق التي لم يسمعها من الصحافة المدفوع ثمنها، إنه جيل الإنترنيت والعولمة الذي أحب أن يكون وطنه جزءاً من التاريخ لا سائراً خلفه. لم يطالب هؤلاء الشباب برفاهية شباب العالم بل بالكفاية الإجتماعية وإحترام كينونة المواطن وإحترام جسده وعقله وقلبه وإرادته.
لقد ولدت الأم العراقية جيلاً لم يعد يهاب الموت لأنه وُلد معه وتربى معه، رآه في كل شارع وفي كل حي، وفي كل مزبلة أو قطرة ماء أو لقمة طعام أو دواء فاسد، لكل وعد يُقال ولا ينفذ. قال لي ذات يوم شاب عراقي يافع.. يا خالة تعودنا على رائحة الموت والدماء، حين أذهب إلى المدرسة صباحاً تعودت أن أرى بين الحين والآخر في مزبلة الحي بقايا أعضاء بشرية وأحياناً رأس رجل أو امرأة أو طفل، وكنا نرى أحياناً بعض الكلاب السائبة تلوك بعضاً من هذه الرفاه فنخاف أن تتعود هذه الكلاب على طعم اللحم البشري، تعودنا على رائحة الموتى الذين لم يُدفنوا، وتعودنا أن نُدير وجوهنا ونقول ليرحمهم الله، ثم نسير قُدماً محاولين أن ننسى. لكن شبابنا لم ينس وذكرتهم بذلك كل عين منكسرة ويد ممدودة للتسول وكل فم تيبس من شدة العطش ومنظر كل أم عراقية افترشت الشارع لكي تبيع المحارم الورقية أو علب السكائر لكي تطعم أطفالها.
إن خزين الثورة والألم قد جعل الشباب يولدون من رحم الأم العراقية من جديد، فتركوا مقاعد المقاهي ورموا (بشيش الأركيلة) ثم وقفوا تحت نصب الحرية لكي يزيحوا التراب والركام من فوقه، فعاد وكأنه نُحت من جديد ولبس حُلة العرس الدامي، وكان عرس هؤلاء الشباب الذين لم تجد أمهاتهم ما تشتري به بدلات أعراسهم فاشتروا أكفانهم وقدموها قرباناً مع أبنائهم تحت نصب الحرية.