تركزت كل شعارات الحراك الشعبي في العراق ولبنان على تصفية مظاهر الطائفية السياسية ومحاصصاتها المدمرة وانتشار السلاح خارج مؤسسات الدولة وانتقالها إلى الميليشيات الطائفية وغير الطائفية، إضافة إلى مطاليب تتعلق بالعدالة في التوزيع والنهب المنفلت والفساد العارم وغيرها من المطاليب الاصلاحية في الانتخابات وقوانينها. ولكن فات على هذا الحراك إلقاء الضوء على الظاهرة الجديدة التي تسللت إلى المشهد السياسي في البلدين وحتى في بلدان أخرى، ألا وهي ظاهرة "الدولة العميقة" التي لا تخضع ولا تدار من قبل القوانين السارية في البلدين، وهي التي "تشرع" الفساد والنهب وتشيع القمع والارهاب بعيداً عن أية رقابة أو مسائلة. هذه الدولة العميقة تدار من جهات اقليمية وخارجية ، وما على بيادقها في العراق ولبنان ودول أخرى إلاّ تحقيق مآرب أجندة هذه الجهات في بلداننا. ولعل أصدق تعبير وأكثر دليل على ظاهرة  الدولة العميقة هو ما صرح به علي خامنئي "مدير الدولة العميقة في ايران"، أخيراً في خطاب له أعطى الضوء الأخضر لـ "بيادقه" في العراق وايران بالتحرك لسفك دماء الشبيبة المطالبة بالاصلاح وانهاء حراكهم.

في خطابه ، اصدر خامنئي توجيهاته قائلاً : "أوصي الحريصين على العراق ولبنان أن يعالجوا أعمال الشغب وانعدام الأمن الذي تسببه في بلادهم أمريكا والكيان الصهيوني وبعض الدول الغربية بأموال بعض الدول الرجعية"!!!. ولا ندري ما هي صلاحيات المسؤول الأول في السلطة الايرانية عن إصدار مثل هذه التوجيهات لمواطني دول أخرى؟؟؟ وما أن صدرت هذه التعليمات حتى شن بلطجية أدوات الدولة العميقة في بيروت والعراق للقيام "بغزواتهم" ضد شبيبة الحراك الشعبي في البلدين وأحرقت خيمهم وقتلت قناصيهم العشرات من العراقيين المنتفضين. إن ممارسة هذه الدولة العميقة سبق وأن مارستها طغمة الدولة العميقة في ايران منذ الأيام الأولى التي اعقبت سقوط النظام الشاهنشاهي في ايران عام 1979. وقتها قامت أدوات الدولة العميقة من البلطجية باشهار اسلحتهم المتنوعة وهراواتهم وبدراجاتهم البخارية وتحت حراسة قوى الأمن الايرانية بالهجوم على مقرات جميع الأحزاب السياسية الايرانية التي شاركت في الثورة ، ناهيك عن الهجوم على المظاهرات التي كانت تنظمها هذه الأحزاب لطرح مطاليبها. ولكن منذ ذلك التاريخ وحتى الآن لم يهدأ الشارع الايراني من الحراك المشروع ولم تترد الدولة العميقة غير الخاضعة لأية مجوزات قانونية في استباحة هذا الحراك المشروع الذي يكفله الدستور الايراني وقمع أية مسعى شعبي، وحتى لقوى من داخل المؤسسة الحاكمة" للاصلاح وارساء دعائم دولة القانون.

ومن أجل تحقيق هذا الهدف، قامت أدوات الدولة العميقة تدريجياً وضمن خطة مبرمجة بتأسيس وأرساء دعائم قواتها المسلحة الضاربة والقمعية وراحت في الأيام الأولى للثورة بالسطو على مخازن الأسلحة وبعض المرافق الاقتصادية، لتتجه لاحقاً صوب تشكيل فصائل مسلحة بأسم حزب الله، مستغلة الدين والمذهب، لتتحول إلى وحدات مسلحة تارة باسم "الحرس الثوري" وتارة باسم "التعبئة"(البسيج) مستغلين ظروف الحرب التي أعلنها صدام حسين ضد الشعب الايراني. وما أن انتهت الحرب حتى خرجت عن مهمة صد العدوان الخارجي وتحولت هذه المؤسسات إلى قوى قمعية ومالية ضخمة بيد الدولة العميقة تتحكم برقاب الناس وشؤونهم ووزعت أدواتها على كل مرافق الدولة المدنية والعسكرية، وخاصة في اقتصاد البلاد عامة من الصناعة النفطية والى الطرق وغيرها من المؤسسات والصناعات الستراتيجية في ايران، مستفيدة من الاقتصاد الريعي الذي شق طريقه بقوة في المجتمع بعد الثورة الايرانية. وقامت الدولة العميقة بتهميش الجيش الرسمي والشرطة الايرانية لتتحول جميع مقدرات البلاد الأمنية وحتى القضائية والمحاكم بيد "الحرس الثوري والبسيج". ولم يعد للمؤسسة المنتخبة من قبل الشعب، كرئيس الجمهورية حسن روحاني ولا مجلس الشورى الايراني أية قيمة وتأثير في إدارة الدولة.

وقد استهوت هذه الممارسة الايرانية التيارات الدينية المتطرفة التي أخذت تتسلم الدعم والعون من أقرانهم في أيران. وعلى هذا المنوال تشكل حزب الله في لبنان وفي دول أخرى. وقد استغل حزب الله الاعتداءات الاسرائيلية المتكررة ضد الشعب اللبناني ليعلن نفسه المدافع "الوحيد" عن هذا الشعب، وراح في البداية يشن الحرب ضد كل تيار لبناني يعلن مقاومته للاعتداءات الاسرائيلية ( الحزب الشيوعي اللبناني وحركة أمل وبعض الفصائل الفلسطينية) كي يستحوذ هو ويحتكر هو ولا غيره "شرف" المساهمة في التصدي للعدوان الاسرائيلي بهدف تحقيق نفس الممارسة الايرانية وتشكيل الدولة العميقة التي سرعان ما رفعت صور الخميني وخامنئي في أنحاء لبنان وراحت تسيطر على منشئآت اقتصادية وخدمية وتحول حزب الله إلى جانب قوته العسكرية، إلى قوة اقتصادية في لبنان ، بل ولديه منشئات اقتصادية خارج لبنان.  

ولا يختلف الأمر كثيراً عندنا في العراق. فمنذ اللحظات الأولى لإنهيار الطاغية صدام حسين، طلت على العراقيين بدعة " الحواسم"، هذه الفئات الدينية المتعصبة التي لم تبق على مؤسسة عسكرية أو اقتصادية ونهبها لتتحول بعد ذلك إلى ميليشيات مسلحة بشتى أنواع الأسلحة التي خاضت منذ الأيام الأولى لإنهيار النظام المواجهة المسلحة تارة بدعوى مواجهة الاحتلال الأمريكي أو الصراع على الغنائم مع أقرانها من الميليشيات أو الصدام مع القوات الأمنية العراقية التي شرع بتشكيلها بعد انهيار النظام السابق. وبين ليلة وضحاها توفرت لهذه الميليشيات قدرات عسكرية ومالية جراء النهب والسطو على أملاك المواطنين والعون القادم من خارج الحدود ودول الاقليم ( ايران والسعودية وقطر وتركيا وحتى سوريا). وقد توفرت لبعض هذه الميليشيات امكانيات كبيرة عندما استقرت في ايران، حيث توفر العون المالي إضافة إلى البشرية من خلال تشكيل فصائل مسلحة باشراف ايراني من "التوابين"؛ أي الأسرى البعثيين وغيرالبعثيين العراقيين الذين وقعوا في الأسر الذين أعلنوا "توبتهم"وانخرطوا في تشكيلات متنوعة مثل "فيلق بدر" وغيرها. فإذا كانت ذريعة تشكيل هذه الميليشيات هي مواجهة الاحتلال الأمريكي، إلا ّ أن نشاطها استمر وبدعم ايراني مكشوف حتى خروج القوات الأمريكية إثر التوقيع على الاتفاقية الأمنية العراقية الأمريكية في حكومة المالكي. واستمرت هذه الميليشيات بنشاطها المتنوع  بعد الاتفاقية غي الاغتيالات السياسية والسطو لتنتهز الفرصة بعد هجوم داعش على العراق لتتحول إلى ما سمي "بالحشد الشعبي الرسمي" الذي أقر مجلس النواب قانونه وكان ذلك أحد أخطاء مجلس النواب الكثيرة. ومن أجل إضفاء صفة "العصمة" على هذا التشكيل، شرع بإضفاء القدسية عليه ليصبح الحشد الشعبي "المقدس" الذي لا يمكن عندئذ توجيه أي نقد أومسائلة له من قبل الشعب. وبالرغم من تحريم النشاط السياسي للقوات المسلحة على اختلاف صنوفها ومن ضمنهم الحشد الشعبي الذي اعتبر جزءاً من القوات المسلحة العراقية حسب القانون الذي شرعه مجلس النواب، إلاّ أن قادة الحشد شاركوا بنشاط في انتخابات مجلس النواب باسمائهم متجاهلين الدستور العراقي الذي ينص على منع العسكريين من النشاط السياسي. واستغل قادة الحشد هذا الموقع لينتقل بعضهم إلى مواقع حساسة في الجيش والقوة الجوية والشرطة الاتحادية ومكافحة الارهاب لتعزيز مواقعه وتأثيره في القوات المسلحة العراقية، ولا يخلو ذلك من مطلب ايراني وضغوط بعض الكتل السياسية الطائفية والنخب المسيطرة على الحشد. وفي الحقيقة والواقع فإن الحشد تشكيل مستقل غير خاضع بتسليحه وكل نشاطه للقائد العام للقوات المسلحة والحكومة ياستثناء الرواتب التي تدفعها وزارة المالية لمنتسبي هذا التشكيل. فالتشكيل حر في علاقاته مع الدول الخارجية واستلام المعدات والذخيرة منها وليس من وزارة الدفاع العراقية. وفي انتفاضة اكتوبر الشعبية أفصح الحشد عن حقيقته عندما فتح النار على المتظاهرين السلميين العزل وأودى بحياة المئات منهم  دون أي قرار من قبل القيادة العامة للقوات المسلحة. وهكذا تشكلت لدينا أيضاً "الدولة العميقة" بكامل قوامها لا من أجل خلق الاستقرار وإدارة عجلة التنمية وبناء الدولة الديمقراطية الحديثة، بل من أجل إرساء دعائم دولة الاستبداد الديني. فهل يعي العراقيون الذين ذاقوا الأمريم من الاستبداد البعثي وغيره من أنواع الاستبداد المقبت، هذا الخطر الداهم؟

عرض مقالات: