بحلول شهر محرم الذي تبدأ معه سنة هجرية جديدة ، يحل ايضاً موسم استذكار الحدث التاريخي الهام الذي يسجل مجريات معركة الطف في كربلاء التي جاءت على نهايتها في العاشر من محرم عام 61 للهجرة والذي يصادف في الثاني عشر من شهر تشرين الأول عام 680 م .
منذ انبثاق احزاب الإسلام السياسي واستيلاzها على مقدرات الشعب العراقي بعد سقوط دكتاتورية البعثفاشية المقيتة ، برزت معها ظواهر لم يكن يألفها الشعب العراقي من خلال ممارسة إحياء الشعائر الحسينية التي الفها الناس قبلاً حينما اعتبرها البعض بانها تمثل الشعائر الحسينية ، في حين لم يرها البعض الآخر كذلك ، خاصة من بعض فقهاء المسلمين الشيعة . لقد جرى استغلال مراسيم العزاء الحسيني لممارسة بعض الخرافات التي لم تكن مألوفة او معروفة إلا من خلال الفقهاء الجدد للأسلام السياسي الذين جعلوا من دينهم وعقيدتهم مرتعاً لممارسات التطيين والتكليب والتزحيف والمشي على النار وغير ذلك من الممارسات البدائية التي يصورونها وكأنها طقوسآ ومراسيم يراد تسويقها وكأنها طقوسآ ومراسيم دينية تعبر عن ألإنتماء المذهبي الشيعي وتشكل إحدى مقوماته في نظرهم . فأسست إلى تراث لا حضاري عكست من خلاله بدائية أفكارها وسطحية تعاملها مع حدث ثوري له مكانته النضالية في التاريخ الإسلامي . فتحت أي الذرائع إذن تتصرف مثل هذه المجاميع التي تريد أن توهم الناس أن ما تقوم به من مظاهر العنف ضد الذات ومن وسائل ألإيذاء المتعمد هو الدين بذاته وهو ألإخلاص الذي ما بعده إخلاص الذي يبرر شق الجيوب ولطم الصدور وفج الرؤوس وجلد الظهور؟ إن هذه ألأعمال لا يمكن أن تكون جزءً من دين يوصف بأن قوامه الحكمة والموعظة الحسنة والقدوة الرائدة ، هذه المبادئ والقيم التي يراها علماء الدين ومراجعه الكبار ومفكروه المتنورون كجزء من التعاليم الدينية ألملزِمة لكل من يدعي إنتماءه إلى ألإسلام وتمسكه بتعاليمه وتوجيهات فقهائه المتنورين. وما يتعلق بهذه المناسبة التاريخية بالذات ، مناسبة ثورة الحسين في كربلاء ، والتي يراد لها أن تكون محفزاً لشحذ الهمم وتعبئة الجماهير لمحاسبة مغتصبيها لا بجلد ذاتها وهدر دمها بنفسها ، نجد أن جهلة ألأمة يختلقون الطرق ويتفننون في إيجاد السبل التي تسير بعكس هذا الإتجاه الذي ينبغي له أن يرافق هذه الذكرى. لقد صرح كثير من رجال الدين المرموقين والذين يتمتعون بمركز ديني قيادي في المجتمعات ألإسلامية الشيعية بالتنديد بمثل هذه ألأعمال الهمجية التي تسيئ إلى ثورة الحسين ومبادئها ألأصيلة . فلنقرأ ما يقوله بعض هؤلاء العلماء في هذا الشأن .
يقول السيد محمد حسين فضل ألله : ....كضرب ألرأس بالسيف أو جرح الجسد أو حرقه حزناً على ألإمام الحسين (عليه السلام) فإنه يُحرَم إيقاع النفس في أمثال ذلك الضرر حتى لو صار مألوفآ أو مغلفآ ببعض التقاليد الدينية التي لم يأمر بها الشرع ولم يرغب بها .(أحكام الشريعة ص 247) . ويقول السيد محمد باقر الصدر: إن ما تراه من ضرب ألأجسام وإسالة الدماء هو من فعل أعوام الناس وجهالهم ولا يفعل ذلك أي واحد من العلماء ، بل هم دائبون على منعه وتحريمه . من " كل الحلول عند آل الرسول " للتيجاني ص 150 ، الطبعة ألأولى . يقول السيد محسن ألأمين: كما أن ما يفعله جملة من الناس من جرح انفسهم بالسيوف أو أللطم المؤدي إلى إيذاء البدن إنما هو من تسويلات الشيطان وتزيينه سوء ألأعمال (كتاب المجالس ألسنية ، الطبعة الثالثة ، ص 7 ) يقول السيد أبو القاسم الخوئي في رد على سؤال حول إدماء الرأس وما شاكل : لم يرد نص بشرعيته فلا طريق إلى الحكم باستحبابه .( المسائل الشرعية ج2 ص337 دار الزهراء ، بيروت) يقول السيد أبو الحسن الأصفهاني : إن إستعمال السيوف والسلاسل والطبول والأبواق وما يجري اليوم ومن أمثالها في مواكب العزاء بيوم عاشوراء بإسم الحزن على الحسين (عليه السلام) اما هو محرم وغير شرعي .من كتاب (هكذا عرفتهم ، الجزء ألأول ، لجعفر الخليلي) يقول العلامة محمد جواد مغنية : ما يفعله بعض عوام الشيعة في لبنان والعراق وإيران كلبس ألأكفان وضرب الرؤوس والجباه بالسيوف في العاشر من محرم . إن هذه العادات المشينة بدعة في الدين والمذهب وقد أحدثها لأنفسهم أهل الجهالة دون أن يأذن بها إمام أو عالم كبير كما هو الشأن في كل دين ومذهب حيث توجد فيه عادات لا تقرها العقيدة التي ينتسبون إليها ويسكت عنها من يسكت خوف ألإهانة والضرر.(كتاب : تجارب محمد جواد مغنية ) . هذه ألأقوال مستلة من مقالة يزن النائب في موقع ناصرية نت بتاريخ 01.02.2007 والمعنونة لماذا لا زالت شعائر إيذاء النفس قائمة في محرم بعد كل هذا التحريم وعدم الشرعية . وقد ردد كل هذه الفتاوى وغيرها في هذه الأيام الشيخ الجليل ياسر عودة في خطبه المنبرية الأخيرة في لبنان ، داعياً الشيعة الى اليقظة والحذر من استفحال هذه الممارسات والخرافات.
كل هذه الأقوال التي يمكن إعتبارها فتاوى لأنها لم تصدر من رجال دين بسطاء ، بل من رجال دين إكتسبوا درجة متقدمة في الفقه الشيعي وضعتهم في مرتبة التقليد وأضفت عليهم ألقابآ دينية لا يحظى بها أي رجل دين عادي . فأين صدى هذه النداءات الصريحة الواضحة التي تقف ضد هذه ألأعمال التي يمارسها البعض من الشيعة ويصورونها على أنها طقوس وشعائر لا يقوم الدين إلا بممارستها ولا يستقيم المذهب إلا بالتأكيد عليها ، بجنون أكثر كل عام .
ولنقرأ ايضاً ما يقوله أحد مشايخ الشيعة المتنورين ، والذي تميزت الكثير من طروحاته بالحكمة والتعقل. في خطبة ألقاها الشيخ أحمد الوائلي وتطرق فيها إلى هذه الممارسات التي يسميها البعض شعائر حسينية قال :(مقتطفات من الخطبة ) " أنا أعيش هذه المأساة بنفسي ، بمشاعري ، لقد قدم لي البعض في لندن كتابآ طلبوا مني أن أعطي رأيي فيه . ألكتاب يقول أن شريعة رسول ألله لا تقوم إلا باستعمال القامة ، التطبير والعبور على النار، واحتفالات الشبيه ، هذه ألأعمال يتوقف عليها إحياء الدين ، وقد حمل هذا الكتاب إسم السيد فلان والشيخ فلان . والأدهى من ذلك أن هؤلاء يخططون لشراء بعير ويضعون عليه شبيهآ للعليل ويطوفون به في حدائق الهايد بارك في لندن . هؤلاء يريدون أن يحولوا الحسين إلى مسخرة ومهزلة . هل أنتم نعاج..؟ بأي عصر...بأي تاريخ انتم...؟ أنتم ترقصون على جراحنا . من يقف ورائكم..؟ ألأجدر بكم أن تتأدبوا بآداب الحسين ، إحملوا فكر الحسين ، إحملوا عزيمة الحسين ، إحملوا آداب الحسين بدل ذلك . تحاولون أن نصل إلى مستوى نتحول فيه إلى مخرفين بأنظار الناس . حَلِلْ شخصية الحسين ، الحسين فكرة ، خُلُق . تأتي لي بعمل غوغائي ، مهرج يحولني بنظر الناس إلى تافه . قم بعمل علمي ، ليس هذا هو الحسين . ألحسين لم يأت ليتحول إلى وسيلة للإبتزاز والسخف والخرافات ، أو حتى نعيش بالخرافات . ومن يقول هذا إحياء شعائر قل له ......خلي علمك إبطنك.....هذا ليس إحياء شعائر. الشعائر تُحيى بالوسائل العلمية ، بالقيم . هذه محاولات من وراءها أيادي مشبوهة . نحتفل بمأتم الحسين بتحليل شخصية الحسين ، تحليل نهضة الحسين ، فكر الحسين ، عطاء الحسين . تشوفه لابس عمامة ومربي لحية وتقول هذا هدفه مشروع ، لا....هذا هدفه غير مشروع ، تديره أيادي لا نعرفها . لكن ثورة الحسين أقوى من هذه التوافه . الحسين لم يأت ليملأ قرائح خمسة من المخرفين المرتزقة التافهين ، الحسين أكبر من هذا . ستبقى كربلاء الطف وستبقى تربة الطف مشعلآ وصوتآ هادرآ في وجوه الظالمين ."
هذه مقاطع من هذه الخطبة التي فند فيها الشيخ الوائلي، الذي يشتمونه اليوم على منابرهم ، إدعاءات من يخفون أهدافهم وراء الإدعاء بممارسة الشعائر الحسينية .ولا بأس من سماع نص الخطبة المنشورة في بعض المواقع او في بعض التسجيلات الصوتية تحت عنوان " التطبير ما بين العاطفة والخرافة والعقل " ، لسماع بعض القصص الغريبة ألأخرى التي يشوه فيها بعض من ينتمون إلى المذهب الشيعي المناسبة الحسينية من خلال أعمالهم او كتاباتهم .
فماذا نستنتج من كل ذلك إذن.....؟ آراء العلماء والشيوخ المتنورين واضحة لا لبس فيها ، تقف موقفآ صريحآ معاديآ لمثل هذه الممارسات التي يدعي ممارسوها والقائمون على إدارتها والدعاية لها بأنها جزءً من الدين وممارسة لشعائر مذهبية شيعية لا تقوم للمذهب قائمة بدونها . إن الذي يجري الآن على أرض الواقع ، وخاصة الواقع العراقي ، هو الفكر الذي يتبناه ما وصفهم الفقهاء المتنورون بالجهلة والمخرفين ، بحيث أن هذه الممارسات تزداد دموية وعنفآ وسادية عام بعد عام ، وظل هذا الفكر الظلامي يلصق كل ذلك بثورة الحسين وبفكر الحسين وإقامة شعائر الحسين ، والحريصون على هذه الثورة وهذا الفكر حقآ يتفرجون ، لا بل يخافون ، كما قال االشيخ محمد جواد مغنية ، من التصدي لمثل هذه الممارسات المشوهة التي تسيئ لهم أولآ وآخرآ ، قبل أن تسيئ إلى المذهب ككل ، إذ أن هؤلاء الفقهاء الساكتون على تغييب أفكارهم عن الساحة الدينية سواءً كان ذلك في العراق أو غيره ، يعطون ألإنطباع المباشر وغير المباشر على أن أفكارهم المتنورة قد هزمتها ألأفكار الظلامية التي تستطيع تحشيد ألألوف من الناس وراءها . فهل يستسلم فقهاء الشيعة ومشايخها المتنورون إلى سيطرة هذا الفكر الذي يتفاقم سنة بعد أخرى ويرضون بهزيمتهم أمام جهلة مذهبهم....؟
كما ان المتنورين من بنات وابناء وطننا الذين يعيشون هذه المآسي في مختلف المناسبات الدينية ، وخاصة في شهر محرم الذي نحن فيه الآن، متدينين وغير متدينين ، لا ينبغي لهم السكوت عن هذه التوجهات التي تقود إلى التجهيل واستغباء الناس إن استمرت على هذه الوتيرة التي تزداد بدائية وهمجية وتخلفاً كل عام ، فإن لم يكن الوقوف ضدها واجباً دينياً فإنه واجب وطني بكل تأكيد.