ربّ سائل يسأل ، لماذا يكون أبناء المسؤولين اليوم عندنا أشد نزقاً وتهوراً وإستهتـاراً عـن غيرهـم من أبناء الآخرين في الحكومات السابقة من العهد الملكي مروراً بعبـدالكريم قاسم الى أحمـد حسن البكر ؟

نعم ، لو تطرقنا الى سلوكيات كبار المسؤولين الشاذة في ظل حكومة فاسدة ، سنصاب بالغثيان ، والأمر يحتاج إلى مجلدات لا تعد ولا تحص من أجل إحتواء فسادهم وعهرهم ولصوصيتهم، وقد يعتقد البعض اننا مبالغين إن قلنا أنهم مرتشون وفاسدون اخلاقيا وماليا بلا إستثنـاء. ولكـن تـلك هـي الحقيقـة التـي لا يختلف فيها إثنان من أبناء الشعب العراقي الجائـع المغلـوب علـى أمـره ، والكـل يعـرف مـدى تورطهم في سرقة لقمة الناس . ولحسن الحظ لن تجد من يقول فيهم كلمة طيبة سوى أولئك اللوگية الذين يبحثون عن مصالح لهم ومنافع .

 وإذا أتينا الى أبناء هؤلاء المسؤولين وتورطهم في قضايا الفساد والمخدرات وإستهتارهم الوقح بين أبناء جلدتهم  " وقبل أن نتعرف على حقيقة أي كـان منهـم ، يجـب عليـنا أن نعـود الى رب الأسرى ، لأن من لا يستطيع أن يصنع اسرة ذات خلق ووعي عاليين ، وتتمتع بقـدر كبيـر من النزاهـة ، فكيف نريـد منـه أن يراعي شعب " (1) ويعيد له هيبته وشرفه وتوازنه .

وبما أن الفساد الأخلاقي والإداري لدى كبار المسؤولين بالدولة وصل إلى مديات وأبعاد خطيرة وكارثية الى الحد الذي بدأ يهدد كيان المجتمع العراقي برمته ، لا بـد وإن ينعكـس هـذا علـى سلوكيات أبنائهـم ليصبحـوا عالة وعبء ثقيلين على المجتمع العراقي الذي أجبره هؤلاء على أن يترحم على ماضيه ويأخذه الحنين اليه .

وتاريخ العراق الحديث مليء بالحكايات ذات العبر التي نستفيد منها إذا ما قارناها بوضعنا المزري اليوم ، وقد كتب المؤرخ العراقي فيصل فهمي عن حادثة جسر الملك علي ( الأحرار ) الشهيـرة التي كـان بطلهـا الطيار صباح أبن نوري سعيـد رئيس وزراء العراق في العهد الملكي أربعينيات القرن المالضـي ، وكيـف كانت ردود فعل الأب تجاه أبنه الذي قام بمغامرة جوية بطائرته الحربية ، والحكاية تقول :  

كان الطيـار صباح دائمـاً مـا يسمـع مـن أحـد الطياريـن الأمريكـان المتواجديــن فـي معمـل الطائـرات، يسخـر ويستخـف بكفـاءة وقابليـات الطياريـن العراقييـن وقدرتهم على الانقضاض والمرور في المسالك الصعبة فـي جلساتـه الحواريـة مع زملائـه،  فتـحـدّاه صـباح نـوري ، واتفـق علـى عقــد (رهـان) معـه لكـي يثبــت لـه كفـاءة الطيـار العراقـي. ولمـا صـادف عبـوره بسيارته فوق جسر الملك علي (الأحرار) خطـر بباله أن يحلق بطائرته ويمربها مـن تحـت الجسـر، غيـر أنـه تردد وتصور فـي بـادئ الأمـر أنها مغامـرة جنونيـة ! وظـل يفـكر حتـى عـزم ، وقـرر المـرور بـزورق بـخـاري ليسجـل قيـاسـات ارتفـاع الركائـز ( الـدنـك ) وطولهــا ومسافـة العـرض بيـن ركيـزة وأخـرى، حتى عثـر علـى المكـان المناسـب الـذي يمكنـه مـن النفـاذ بطائرته فـي وسـط المسافـة بيـن الركيـزتيـن، بعــد عمليـة الهـبوط والأنقضـاض وتعيـين نقطـة الأنطـلاق والأرتفـاع . عندها أتفـق صبـاح مـع مصـور عراقـي مشهـور يدعـى (أرشاك) وطلب منه أن يحضر في موعـد هبـوط طـائرته، وينـزل علـى سطـح زورق بخـاري فـي دجلـة ويلتقـط لـه عـدة صـور لتـوثيـق مناورته ومغامرته الخطيرة في الوقت ذاته .

وفعلاً قام بهذه المغامرة ونجح فيها ممـا أدهش النـاس المـارة على الجسر والقريبيـن منـه حيـث أصابهم الذعر والهلع عندما شاهدوا الطائرة وهي تمر من تحـت الجسـر وتخرج مـن الجانـب الآخـر بسـلام .

بـعد نجـاح المغامـرة أخـذ المصور أرشاك الصور وذهـب بها فرحاً الـى نـوري سعيـد باشـا والد صباح ودخـل مكتبـه ليريـه الصـور ويبشـره بما حققـه أبنـه مـن عمـل جباـر لا يتكرر . لكنه تفاجأ كما تفاجـأ الضباط الموجودين في المكتب ومن ضمنهم وصفي طاهر عندما رأوا الباشا وهو يستشيط غضباً ويهجـم على المصـور أرشاك بالضرب المبرح صارخاً بوجهه " أنت شريك معه ،هذه إساءة لي وهـدر لأمـوال الدولـة " وعلـى إثـرها كتـب أمـراً بمعاقبة إبنه وحرمانه من الطياران نهائياً .

نعم ، لم نسمع أن هناك تجاوز أو فساد أو تهور قام به أولاد الملوك أو رؤساء الجمهورية أو الوزراء أو المحافظين السابقين بالشكل الذي نعيشه اليوم . فالفساد الكبيروالفاضح ظهر وطفح من أول أيام سيطـرة صـدام حسيـن على مقاليـد السلطـة، الذي بشـرّنا بأولاده وهم يلبسون ثوب الوقاحـة والإستهتار بمقاسات أبيهم ، وأمتـدت هـذه الظاهـرة ليومنا هـذا بـل أشـد فتكـاً وإنتهاكـاً للقيم الإجتماعية والأخلاقية ، لأن أباء هؤلاء الأبناء من وزراء ونواب ومجالس محافظات نراهم في غاية الهمجية والعقلية الرعوية ويتمتعون بالسطوة والكبرياء والتعالي المغلف بالتخلف والجهل .

فإذا تعمقنا في هذا الموضـوع لوجدنا المر يتعلق بسايكولوجيـة هؤلاء وسلوكهم المكتسـب مـن آبائهـم ، لأنهم قد تخرجوا مـن نفس مدرســة العائلـة الفاشلة المشوهة التي تعطينا نماذح من إنتاجهم الرديء الذي نراه ونسمع به يومياً وعلى مدار الساعة ، ولا خجـل ينتابهـم مـن ذلـك لأن الأمـر يتعلـق بمـدى وعيهـم وثقافتهم ونزاهتهم . فـإذا كـان الأب الوزيـر أو النائب فاسداً وسيء الأخـلاق ، ونـراه يشجع أولاده على التجاوز الوقح على المواطـن العـادي ، فكيـف لا يشـذ هـذا الأبـن عـن السلوك العـام والأخـلاق الحسنة . ولهـذه الأسبـاب يصبـح هـذا الإبـن نزقـاً شــاذاً مستهتـراً متهــوراً بكـل مـا تعنيـه هــذه الكلمـات ، وكـل الـعراقييـن يدركـون هـذا الواقـع المـزري بـأن هـؤلاء الأبنـاء يستهتـرون " بصايـة أبائهـم " كما يفهمها ابناء هذا البلد .

الهوامش :

1 – محاضرة للمفكر المغربي الدكتور أحمد عصيد

عرض مقالات: