انتهى يوم امس ، مهرجان المربد،  ليس بتحويل الكلمة الشعرية الى لؤلؤة على صفحات القصائد  البيضاء ولا الى سيف للدفاع عن  شرف الحرية ، كما وعدت هيئاته ،  المنظمة و المشرفة،   لإنقاذ الشعر العربي من البحيرات المالحة و من السدود الصخرية المعيقة لتطوره ، بل تحوّل جهد مَنْ يقف وراء  المهرجان إلى خنق الكلمة العربية الحرة و سلبها أقراطها الذهبية بارتكاب آخر جريمة بشعة بشنق القصيدة الشعرية وفلق هامتها بـنظرية عقيمة عن (فصل الشعر عن السياسة) في المربد الثالث و الثلاثين ، مكافأة للدولة العراقية، الظاهرة و العميقة،  على زناها و فسوقها وعلى فسادها المالي و الإداري. من حق الشاعر أن يعبّر عن ذاته،  لكن ليس من حقه استرضاء اعداء الثقافة والحرية و الشعر ، أيضاً،  بادّعاء تعاطفه مع حقوق الشعب باسم الرشد الشعري .

تجمّع جمع الشعراء في الأسبوع الماضي حول موظفي الدولة العراقية و الشركة الاحتكارية ، الراعية لمهرجان مربدها وهي غاضبة بصمت على مدينة البصرة . مدينة كبيرة ، غنية بثرواتها و أناسها،  محرومة حتى من حقوق النمل في حرية الحركة وتناول الماء و التمتع بضياء الشمس و الكهرباء.  

ثم تفرّق الجمع ، بعد أربعة أيام ،مندهشين من كرم الضيافة الحكومية و الشعبية ، حيث ظلوا ، صامتين ،  عما جرى و يجري في مدينة محتضرة.  لم نسمع من الشعراء المشاركين صوتاً محتجاً على حشرجة موتها و عن زعيق ضحاياها وعن قتل نسائها و اختطاف اطفالها وعن سموم مياهها  وعن جبانة حكامها المحليين و المركزيين و ما فعلوه بها منذ عام 2003 ، حتى الساعة.  لم يحتج الشعراء في قصيدة او في بيان افتتاحي او  ختامي عما فعلته بالمدينة الغنية جرذان وعقارب و حيّات  ذات ارستقراطية دينية حاملة بنادق العسكرة العلنية و كواتم الصوت الميليشياوية السرية ، المرتجفة من أصوات الحرية الحقيقية ومن مظاهرات الاحرار  الأسبوعية المكثفة على نهر العشار الجريح منذ زمان القمامة البعيد .

ما مرّ الشعراء الطيبون على جريمةٍ كبرى جعلتْ مدينة البصرة اسوأ مدينة للعيش بالعالم ..  ما ادرك بعض الشعراء ان الدولة العراقية طشّت سحابة غبار على عيون المربديين،  كي لا تمكّنهم من رؤية ان أهالي البصرة هم أهلهم وان الاخوة هم اخوتهم وان الاخوات البصراويات هنّ شرفهم الفاخر ، كل هؤلاء يعيشون بظلم لا مثيل له داخل شبكة من القتل و الغدر و البطالة و القهر و المرض  و الاختطاف وهجوم كبسولات المخدرات.    

مارس الشعراء شعرهم بمهرجان اصطناعي اريد لهم ان يسمنوا و يترفهوا على حساب جوع فقراء اهل مدينة البصرة . شاهد الشعراء و شهدوا شمساً  تركض في سمائها ولا ترتعد في قاعات و فنادق الدرجة الأولى الممتازة ، الخالية من (ديكٍ ساديٍّ سفّاح ، ينتف ، كما في كل الحارات ريش الدجاجات كل صباح) كما شاهدها نزار قباني من قبل .  لذلك ما شاهد المربديون ، مع الأسف،  رقاب الناس الفقراء من الأطفال اليتامى و النساء الثكالى وهي تهتز ملقاة  على ارض القمامة في الزبير و العشار و البصرة القديمة والتنومة وبكل مكان ،  بعيداً او قريباً من (مكان) مهرجانهم.  

لا شك ان جميع المشاركين بالمهرجان هم من الناس الواعين بمفاهيم الدولة و المواطنة و تراث العقلانية و الحداثة التنويرية . كنا بانتظار ان تكون قصائدهم بمستوى وعيهم ، حرةً،  قد تساهم في عملية كتابة التاريخ ، مؤثرة فيها بما يملكونه من مراس شعري قادر على التفكير الحر،  لكنهم صدّقوا، جميعهم ، ادّعاءً ليس صادقاً فحواه   ان مدينة البصرة ، مدينة المربد،  هي أم الشعر ، حقاً و فعلاً،  وهي ليست ام القمامة و الفقر ، حقاً و فعلاً . صدّقوا أنها  مدينة  خالية من ديكٍ نقّار  أو من وجود شمشون جبار . اغمضوا عيونهم عن رؤية الديك الفاشستي ، النقّار الجبّار، وهو ينقر كل  ليل و صباح جميع الدجاجات المسكينات ليكتب شواهد تاريخية فاجعة بمدينة البصرة و في العراق كله خلال الزمان المعاصر .

كانت جميع القصائد مضطربة ، تاريخياً،  غائبة عنها الشفافية الثورية و العقلانية التراثية و الحداثة التنويرية لأن ساسة الدولة من ديوك الإسلام السياسي كانوا محصنين بإجراءات سيطرت على عيون الشعراء مثلما هي مسيطرة على حياة المواطنين الفقراء. لذلك لم ينتبه احد ان الديكة الفاشست بمختلف اشكال ميليشياتها يمكن ان تضيف الى قوتها قوة جديدة  من خلال مهرجان شعري  لم تخرج  مساحته من أبواب  قاعات المهرجان ،  لم يقل كلاماً شعرياً  حراً  قادراً على نشر ظلاله امام المتظاهرين و المحتجين في شوارع البصرة ،  الذين كانوا بانتظار كلام يرفع مستوى حالة حشودهم الاحتجاجية العاجلة  .  لم ينتقد أحد ،  فاشية الإسلام السياسي ولم يدعو احد بقصيدته ولا المهرجان ببيان  ختامه الى تهديم جذوع سادات وحملة السلاح خارج فصائل الدولة.   لم يكن بين شعراء الدورة الثالثة و الثلاثين من صبغ قصيدته بألوان النجوم الثورية المزهرة بما يشبه عناقيد غضب  لوركا و كاظم الحجاج و اراغون و مظفر النواب  و ناظم حكمت و علي العضب وشيركو بي كسه وموفق محمد  و غاندي و نلسن مانديلا ونزار قباني واحمد مطر  و محمد مهدي الجواهري  بالرغم من ان اغلب الشعراء المربديين ، كانوا و ما زالوا ، يحدّقون نحو بلوغ المدارج الشاهقة لذلك الجيل الثوري من  الأسماء اللامعة بعالم الكلام المناضل . ظلت جميع ارياش (الدجاج المنتوف)  تتجول في صالات وممرات بهية كأنها (فراشات) مكسورة اضلاعها داخل اقفاص من الرخام لم ترتفع اكثر من سلّم منصة المهرجان.

لم يقل البيان الختامي أي كلام حامل لوعي الحداثة ولم يثر سؤالاً مهماً عن بؤس حال (مكان) المهرجان و(زمان) انعقاده.  لم يثر سؤالاً  مهماً عن بؤس شط العرب والأراضي الشاسعة المحيطة بها وأسباب جفاف النخيل و الكروم والتين و الزيتون..  لم يقل البيان كلمة عزاء واحدة لأرملة من ضحايا التمييز  الطبقي و الطائفي لأن مصالح السياسيين الرأسماليين الجدد،  كانت مسيطرة على المهرجان من خارجه ،  مترعرعة في داخل قاعاته.  

انتهى مهرجان المربد بانفصال تام بين الشعر و الواقع ، بين الشعر و الحرية،  بين الشعر و التبادلية المحسوسة في حياة الناس الفقراء و شوارعهم . نعم انتهى المهرجان من دون أي نسبة من التأثير على اية قضية وطنية كأنما هدف المجتمعين هو ان يظل الحاضر و المستقبل جزءا غير متطور او متغير عن الماضي.  

مات المهرجان الثالث ، تاريخياً،  وشيعت اسطورته أمام أهالي البصرة الحزانى المنكوبين .    

عرض مقالات: