لقد إنتشرت ظاهرة الإغتيال السياسي في العالم منذ القِدم ، إنتشرت في أمريكا بإغتيال مارتن لوثر كنج وجون كندي وفي الهند إغتيال غاندي وظهرت أيضاً في الصين وروسيا بإغتيال آلاف المعارضين . أما في آمتنا العربية فقد إنتشر الإغتيال حتى أصبح ظاهرة إجتماعية ، فأي معارض مُعرض للإغتيال وأي ناشط مدني حتى لو كان من الكفاءات العلمية أو الأدبية ، فنحن من إغتال المفكر اللبناني حسين مروة والمفكر المصري فرج فودة الذي طالب بفصل الدين عن الدولة ومن إغتال الروائي الفلسطيني غسان كنفاني والمفكر اللبناني مهدي عامل والصحفي المصري المشهور يوسف السباعي والصحفي اللبناني سمير قصير والروائي المصري المعروف الحائز على جائزة نوبل للأداب نجيب محفوظ .
إنتشرت ظاهرة الإغتيال السياسي في العراق منذ الأربعينات وإزداد بإزدياد موجة الإرهاب السياسي في الحكومات المتعاقبة وحتى وقتنا الحالي ، إذ لم يسلم أي معارض للفكر السياسي أو داعية بفصل الدين عن الدولة أو بسبب تهميش بعض الرموز الدينية لطائفة ما وتغليب الفكر الإسلامي على الأديان الأخرى والعرق العربي على الأعراق الأخرى . لكن هذا لم يمنع أن يظل العراق جميلاً بأعين أبنائه ، غنى له الشعراء وأخرج العلماء عصارة علومهم لرفع إسمه عالياً وظل العراقي يوفر ثمن الكتاب من ثمن لقمته ، وإنتشر مكتبات المنازل في بيوت العراقيين والتي تحوي على أمهات الثقافة العربية والعالمية ، وكلما زاد لوي يد المثقف العراقي زاد عشق الشعراء للوطن وغنى فيه الجواهري والسياب وسعدي يوسف . وحينما إشتد الخناق على مثقفي العراق هاجر منهم من هاجر ومات منهم من مات في سجون الإرهاب السياسي .
ولو تساءلنا من وراء إغتيال عشرات المثقفين في العراق من أمثال كامل شياع وهادي المهدي وجلال الشحماني والدكتور علاء المشذوب والدكتورة سعاد العلي رئيسة منظمة ( ود ) المعنية بحقوق الإنسان وعشرات النشطاء المدنيين . والمطالبين بحق العمل وحرية التعبير وحرية الأديان والمساواة في الدين والجنس والعنصر ، لوجدنا أن الجواب سهل ممتنع ، هو أننا لا نحسنُ سماع الآخر ولا نحتمل رأي الآخر ومن خالفنا هو ليس منا ولنا أن نستحل دمه وماله وعرضه ، وعلى هذا الطريق مشينا لسنوات طويلة . لقد جئنا من الصحراء لكنها كانت تفصل ما بين قبيلة وأخرى بمسافات شاسعة من الفراغ والرمضاء ، وحينما تجوع قبيلة تستحل دم القبيلة الأخرى ويُسجل لها هذا تاريخاً وفخراً ويتغنى به شعراؤها وقد يبقى ذكر هذا لعشرات أو مئات السنين ويبقى الثأر شريعة لها وهدف للحياة . ونحن هنا لم نتحضر كثيراً ولا زلنا لا نحتمل الآخر .
لقد أوقد الربيع العربي شعلة الغضب الشعبي وكانت الأهداف سامية لكنها سُيرت بإتجاهات متعددة وغير سوية ، فمنهم من أغتيل على أيدي الميليشيات المتطاحنة ومنهم من أُختطف وقُتل على أيدي الحكومات ، ولم ينفع لتصحيح الإتجاهات الثورية آلاف الضحايا ومنهم الصحفي التونسي ( محمد البوعزيزي ) الذي أحرق نفسه رفضاً للواقع المرير .
أما في عراقنا فقد أصبح إغتيال العلماء والأطباء والصيادلة وأساتذة الجامعات والأدباء والفنانين عادة سياسية وإجتماعية يمارسها رجال الأمن السري أو العلني المرتبطون بأجندات سياسية مختلفة ولهؤلاء عيون تراقب الضحايا ويد متأهبة دوماً للضغط على المسدسات الكاتمة .
المشكلة هنا أنهم أدخلوا الدين والإنتماءات الطائفية بذكاء محدود في هذه اللعبة حيث أنهم قد أوجدوا السبب لكل الإغتيالات ، لكن الحقيقة هي الرموز السلطوية وليست الدينية والدين لديهم كالعباءة يستترون بها عند الحاجة وتُرفع حسب الحاجة .
لا أدري متى أصبح العراقيون كارهون للجمال وهم الذين تغنوا بالجمال دائماً ، سواء كان جمال الطبيعة أو المرأة أو جمال المشاعر ، لكن فاقد الشيئ لا يعطيه ، فقد إختفى الجمال من داخل البعض من أبناء العراق ولم يحدث هذا بين يوم وليلة إذ أن قلوب البعض منا قد تصخرت بفعل الترسب الدائم بها ولهذا ظروف موضوعية وذاتية ، ولا يمكننا أن نحاسب الفرد على ظروفه الموضوعية لكننا نحن من نصنع ذواتنا فنجعل الصخور التي في داخلنا ذات نتوءات جارحة قد تخدش الآخر وقد تقتله .
لا يمكننا أن نعتبر من يكرسون الجمال هم فجرة ، وكل إمرأة جميلة عاهرة فالسمة الأساسية لهذا الكون ولهذه الأرض هي الجمال ولولا جمالها لما إستطاع الإنسان أن يستوطنها .
جمال الأرض وما عليها وجمال المرأة أيضاً يُزعج البعض منا ، ومن المتوقع هنا أن من يفقد جماله الروحي والداخلي يحب أن يرى قُبح الأشياء وليس جمالها لأنها تساوي ما في داخله ولا يحب الإنسان عادة نقائضه .
لقد أصبحنا هنا نكره نقاط الضوء والجمال ، فقد يتصرف البعض منا بدرجة عالية من النبل والشهامة لحماية وطنه أو موارده لكن هذا لن يرضينا ، فقد قرأت ذات مرة أن أحد ضباط الكمارك في البصرة قد كشف للإعلام عن سطو الميليشيات على نفط البصرة وسرقتها لثروات البلد وفُصل بعدها هذا الضابط ثم قُتل بحادث سيارة مفتعل . ثم قرأت أيضاً عن محاكمة شاب كندي في كندا يبلغ من العمر ٢٩ سنة أتُهم بقتل ستة مصلين مسلمين في مسجد مدينة كويبك الكندية فحكم القاضي المسيحي بالسجن المؤبد لمدة أربعين عاما على الشاب وطالب محامي الإتهام بـ ١٥٠ سنة سجن حتى يكون عبرة لغيره . وهنا أتساءل لِمَ لم يتعصب القاضي المسيحي لإبن دينه ووطنه وإنتصر للحق ونزع الكراهية . أقول أنها الحضارة ، فالتحضر هنا يجعل الإنسان سوياً بحكمه حراً بإرادته ولا توجهه إرادات أخرى ، ولا أظن أن هناك دين قد وضع القتل وسيلة للتخاطب .
كان هناك في كل شارع عراقي مزيج جميل من السنة والشيعة والمسلمين والمسيحيين والصابئة وحتى اليهود ، إختلطوا مع بعضهم بحب العراق حتى أصبحوا كعُصارة لثمار مختلفة الألوان والطعم ورائحتها زكية وجمالها كشمس الصباح الدافئة . وبعد أن تقسم العراق إلى ولاءات مختلفة أصبح الوطن أوطاناً ، وأصبح لكل منهم وطن وزعيم يُقاتلون ويُقتلون من أجله وينصرونه ظالماً أو مظلوماً ، وحتى أصبح للعراق جيوشاً كل منها يحمي وطناً رسمه له قادته ، ولو بحثنا عن العراق لوجدناه غائباً عن خارطتهم .