في زيارته الى باريس  ،   أواخر سبعينات القرن الماضي  (اكتوبر عام 1977 ) ،  ترسخت  بعيني الرئيس العراقي صدام حسين  عظمة تلك المدينة، المكافحة من اجل نشر النور و الثقافة و أفكار الحداثة  والمودة  ، في أنحاء العالم ، كافة . كما ترسخت صورتها بذهنية شخصية (القائد)  المرتقي  ، خطوة بعد أخرى،  إلى  اعلى الدولة الانقلابية  المتحولة من السجايا   العسكرية  الخالصة   إلى الجهود المتصفة بسجايا الرأسمالية المنتجة ، تحت الحماية و الرعاية البوليسية الخالصة   .  بسرعة أيام الزيارة   ترسخ عند القيادي العراقي الزائر (صدام حسين)  مبرراً حداثوياً لبناءِ قوسٍ لنصرٍ عراقي ما، في قادم الأيام و السنوات ، كما هو  الحال في الدولة الرأسمالية الفرنسية المتقدمة ثقافتها إلى أعلى من (برج أيفل) ،  متجسدة في (قوس النصر الفرنسي ) المنصوب بشارع الشانزيليزيه و هو الأشهر بالعالم ، كله ، بالرغم من ان القوة الجوية الفرٍنسية قدمت ، أمام انظار القيادي العراقي الصاعد، استعراضاً خاصاً للطائرات  الفرنسية ، العسكرية،  المقاتلة ،  بصورة ادائية مبهرة . لكن  نصب (قوس النصر) توظّف عميقاً في عقل نائب الرئيس العراقي صدام حسين و هو الشخص الصاعد ، بتلك الأيام ، على وفق الاعتمادات الحاسمة في حكومات الانقلابات العسكرية .

كان القوس الفرنسي  المنتصر قد استحضر ، بعيني صدام حسين   ، قلق الحروب العالمية  الكبرى  و لمعة الانتصار فيها وشعلة  انجذابها الأسطوري ، نحو وضعها بشكل فني متحضر ، في لطائف نحتية ، حضارية ، معينة،  تغزل بعيون المشاهدين خيوط  عقول و حياة  الناس و الاوطان و التاريخ ،  كما هو حال  ما يجريه الفرنسيون من احتفالات ، رسمية و جماهيرية ، كبرى ، كل عام،  في المناسبات الوطنية الكبرى  بساحة الاحتفالات .

 بعد عشر سنوات من تلك الزيارة، كان  الرئيس صدام حسين  حاذقاً في  تأهيل  بعض الساحات البغدادية،  مغتبطاً،  بموهبة تقليد شمائل فنون الشعب الفرنسي  في كيفية تحويل الرومانتيكية الفرنسية ، المحدثة، من صعوبات الحياة البورجوازية، و من واقع النضال و الرواية والشعر الى نُصبٍ فنيةٍ منحوتةٍ  بصورة عظمى. كان نصب قوس النصر قد ابهره .

 أراد ، صدام حسين ،  أن تكون موهبة التقليد  الفني ، هذه ، محتلةً مواقعها بأمكنةٍ مرموقةٍ  في ساحات بغداد و شوارعها ، مثلما كانت الأساطير النضالية في تاريخ الشعب الفرنسي قد وجدت نفسها ،سيدة المنظر و القدر و المصير ،بعيون الشعب الفرنسي وتاريخه من خلال أنصاب الفنانين العظماء بالساحات و الشوارع الفرنسية ومن خلال نماذج  قصر فرساي والقصور الملكية الأخرى،  حيث تجللها الانوار فوق الاخضرار.

تذكر صدام حسين ، ايضاً ، حالة داخلية ، إيجابية ، معينة. فقد انتهت، ذات زمان ثوري في العراق  ،  مواضع الفقر المدقع وأكواخ الفقراء والكادحين العراقيين على يد الزعيم عبد الكريم قاسم في ثورة ١٤ تموز عام ١٩٥٨ ببناء ملطفات سكنية و سكانية أسمها  (مدينة الثورة)   بشرق بغداد و مثيلاتها بالمدن العراقية، كافة.  تناقلَ و تصارع َشعورٌ عنيفٌ في صدره  بضرورة ان يظهر نفسه و عصر حكمه و سيطرته  على كل مقاليد الحكم و السلطة ، من خلال تحريك الرومانتيكية الفنية العراقية لتشييد ( نصب الشهيد) بساحة كبرى في شرق بغداد عام 1983، تخليداً  لضحايا  الجنود و الضباط العراقيين في الحرب العراقية – الإيرانية و تشييد ( نصب الجندي المجهول) بغرب بغداد عام 1982 تخليداً لنفس ضحايا الحرب من الجنود العراقيين  . كان فنان النصب الشرقي (اسماعيل فتاح الترك) و فنان النصب الغربي (خالد الرحال) . كانا يحلمان بالمزيد من  مكاسب و امتيازات الفن وقواعده المترسخة في عقل و نفوذ وقيم الحاكم الأوحد في البلاد،  بتلك المرحلة الصعبة من حياة الشعب العراقي،  الفقير و المغلوب  على أمره بفعل السجون و الكلاشنكوف و شهوات الغدر والقتل بأسلوب الحروب الداخلية والخارجية  والمزيد من أشكال ( المقابر الجماعية) .

و.. بعد عشر سنوات من تلك الزيارة ، صار  صدام حسين  ( فناناً ) حقاً و فعلاً ، بنظر نفسه و المحيطين به،  في كيفية تحويل الرومانتيكية الفرنسية المحدثة من صعوبات الحياة البورجوازية  ، المنعكسة  من واقع النضال و الرواية والشعر الى (نصب فنية منحوتة ) بصورة عظمى،  تحتل مثيلاتها العراقيات ، مكاناً مرموقاً في ساحات بغداد و شوارعها ، مثلما كانت الأساطير النضالية في تاريخ الشعب الفرنسي قد وجدت نفسها سيدة المنظر و القدر و المصير بعيون الشعب الفرنسي وتاريخه من خلال أنصاب الفنانين العظماء بالساحات و الشوارع الفرنسية .

كان ذهن صدام حسين منصرفاً نحو الاستمتاع بتحويل (الأغلال) الى (فنون) وتحويل نتائج  الحرب الى أنصاب . أراد ان يقود آلهة الفن العراقي الحديث مثل اسماعيل فتاح و خالد الرحال، و استخدامها  كــأدوات فنية  بيد الدكتاتورية ، لتحويل (الخوف) القابع بأعماق الجماهير الشعبية الى (رجاء) مقيد يستطيع نشدان الأفضل في خيرات المستقبل العراقي. 

في كثير من الأحيان و الحالات يظن الفنان غير الواعي،   انه اصبح مارداً  حين يغدو فرداً متربعاً على كرسيٍ قريبٍ من موقع إله الحزب ، الحاكم ، الأوحد ،  العملاق في الأوامر والحكم و الحروب . كنت ارى هذا المظهر الفني على محيا خالد الرحال ذي الهمة العالية،  المنسوب اليه مهمة غاية بالخطورة ، هي مهمة تحويل ( الفعل السافل)  أي تحويل الحرب الى (مرأى مستقيم) يحمل عاطفة السلم بالفن   ، عن طريقِ إقامةِ فعلٍ فنيٍ مسؤولٍ عن إشعال الحرب العراقية - الإيرانية لثمانٍ من السنين العجاف  و تحويله الى نصبٍ حاقدٍ ، عاجزٍ، اسمه (قوس النصر العراقي) ليصبح مسخاً توأماً لــ( مستقيم) أعرج ضرب مليوناً من الضحايا بالقتل والجرح و الإعاقة خلال حرب السنوات الثمان. 

 

الانتهازيون داخل سلطة البعث و خارجها وجدوا انفسهم داخل الحرب العراقية – الإيرانية ( كتّاب اقتراحات) يقدمون ، كل يوم ،  أوراق اقتراحاتهم المنشورة وغير المنشورة ، من أجل  إيجاد النموذج ، غير الشريف غير الشرعي ، للتغني  باسم صدام حسين باعتباره نموذج القائد المنتصر في التاريخ العسكري الإسلامي بتسمية حرب عام 1980 بــ ( القادسية الثانية) ، كما  اخترعوا اسما جديدا هو (قادسية صدام ).  اقتربت نظرياتهم العسكرية البيّنة ، أيضاً،  بتصوير القائد صدام حسين كالقائد الإسلامي سعد بن ابي وقاص وان سيف صدام حسين في القادسية الثانية هو نفسه سيف سعد بن ابي وقاص.

اختلفت نظرية صدام حسين عن نظرياتهم في مناقشة شكل السيفين المقترحين  في اعلى النصب،  إذ كان الرئيس يفكر في ان يجمع بهذا النصب سيف سعد بن ابي وقاص و سيف علي بن ابي طالب،  في محاولة منه لجعل المعركة في القادسيتين،  الأولى قادسية سعد و الثانية قادسية صدام،  هي معارك  (ما فوق الطائفية) متصوراً ان ذلك شكلاً من اشكال المصطلحات المعاصرة عن الحداثة  في الادب والفن و السياسة . غير ان المناقشات بين الرئيس و بعض وزرائه و مستشاريه، الناتجة عن الفهم السطحي لحقائق الحروب والصراعات،  التي يختلقها بين الحين والأخر مع القوى الداخلية ومع الدول الأجنبية ،  أدت الى ضرورة احتواء السيفين المتعانقين  و جعلهما من صنف واحد ، من صنف سيف سعد بن ابي وقاص فحسب.  هكذا استندت  أفكار الرئيس صدام الى مشروعية (ما فوق السياسة ) و (ما تحت الطائفية)  تاركاً الإقرار بصراع نخبتين من صفوة رفاقه الحزبيين. صفوة أولى تريد لهذا النصب ان يكون مضمونه من مستوى ( الحداثة)  وصفوة أخرى تريد ان يكون النصب من تاريخية فنون (ما قبل الحداثة ).

أراد صدام حسين صناعة كتلة برونزية - حجرية - فنية ، يكون اسمها ( قوس النصر العراقي) موازياً لقوس النصر الفرنسي وأعظم منه علواً  و فخامةً  ومنظراً . اختار بنفسه ، مباشرة ، بقعة خضراء ، ممتازة، بين  (شعبية) منتزه الزوراء  و (طبقية)  منطقة سكنية ، بورجوازية ، فخمة ، اسمها ( الحارثية)      لكي  ينفخ المكانين  و ينقش جناحيهما  بــ(يدين) مرتفعتين الى اعلى بحدود أربعين متراً ممسكتين بسيف ديماغوجي  في عصر الفضاء الكوني والسفن الفضائية الكوكبية . في اعلى النصب وضع  علم العراق يتضمن ملخصا ً لعقدٍ ديماغوجي  مع زمان الديانة الإسلامية حاملاً بخط يده شهادة ( الله أكبر) ،  طائراً نحو سماء المستقبل،  ظاناً انه مستقبل أبدي في عصر مخيف،  ليس فيه غير خيول حزب الرئيس ( القائد الضرورة) تجوب الشمال واليسار والشرق والغرب،  بالقهر و العدوان ،  ماشياً الى مستقبلٍ بعيدٍ بجموحٍ ديكتاتوريٍ  مدفوع بدوافع حب الذات وتوصيلها الى قواعد حزب البعث من طبقة الفقراء والعمال والمعلمين الذين كانوا في اسفل الخطوط الحزبية العمودية كظاهرة من ظواهر عبادة الفرد المفلوقة من صلب شخصية صدام حسين و المحيطين به من اخوته ومن ملحمة عشيرته ينظر لهم جميعا قوى قومية – بعثية – من سوريا و لبنان لتشويه الوطن العراقي و التلاعب بثرواته وبسياسته وتأريخيته جمعاء . صار صدام حسين بعد حرب الخليج الثانية بموقف محاصر دوليا لا تجديه نفعا جميع خطواته وخطوات أصحابه في ميادين جميع العلوم العصرية في السياسة و علم الاجتماع والديموغرافيا و السوسيولوجيا وعلم الاثار والجغرافيا و لا أي علم من العلوم العسكرية، البيولوجية و التدميرية .  كان يظن انه وصل الى مرحلة عليا من القوة البدنية – ظهوره في حالة عبور نهر دجلة كسباح ماهر يتحدى امواجا داخلية وخارجية . انغمر الشعب العراقي، كله، بعد القضاء على انتفاضة عام 1991 بالموجة الدينية ، المصفق أفرادها جميعاً ، لرمز الديانة والدين القوي بالله العلي العظيم.  كان هذا هو الخيار الوحيد في نظام صدام حسين المستمد قوته من  نصب الشهيد و نصب  المسيرة وقوس النصر ومن سيوف  القادسية المغموسة  بسموم كيمياوية مركزة  . كان التصور الدولي العام  المتطابق  مع  تصور بعض فصائل المعارضة العراقية أن هذا الخيار لا يمكن ان يوقفه اي خيار اخر  بما في ذلك  شعار ( لا للحرب .. لا للدكتاتورية) المرفوع من قوى وطنية داخلية وقوى تقدمية خارجية ، لكنه ، واقعياً ، لم يكن خياراً بديلاً لتدخل قوات حلف الأطلسي لمساندة الخيار الامريكي القطعي باحتلال العراق عام ٢٠٠٣ وفرض قيم الماضي  الاحتلالية بكل عنفها و مناظراتها الاستغلالية في  احتكار  ثروات الشعب العراقي والغاء تاريخه ، كله. 

أصبح الشعب العراقي ، كله ، بعد القضاء على انتفاضة عام 1991  متديناً،  مصفقاً،  لرمز الديانة والدين ، القوي بالله العلي العظيم صدام حسين . كان هذا هو الخيار الوحيد في النظام   المستمد قوته من  (نصب الشهيد) و (نصب المسيرة) و( نصب قوس النصر). كذلك  من سيوف  القادسية المغموسة  بسموم كيمياوية مركزة  . كان التصور الدولي العام  ، المستعد لإعلان حرب الخليج الثالثة ،  كما كان التصور الخاص المناوئ للحرب والقائم على  شعار ( لا للحرب .. لا للدكتاتورية) ،  أن الخيار الذاتي المشحون بعناد صدام حسين وكبريائه، لا يمكن ان يوقفه اي خيار اخر  بما في ذلك خيار شعار ( لا للحرب .. لا للدكتاتورية) المرفوع من قوى وطنية داخلية وقوى تقدمية خارجية ، لكنه ، واقعياً ، لم يكن خياراً بديلاً لتدخل قوات حلف الأطلسي لمساندة القرار الامريكي القطعي باحتلال العراق عام ٢٠٠٣ وفرض قيم الماضي  الاحتلالي ، الاستعماري ،  بكل عنفها و مناظراتها الاستغلالية في  احتكار  ثروات الشعب العراقي والغاء تاريخه ، كله. 

ثمة حرب خليجية ثالثة استمر أوارها لمدة ثلاثة أسابيع،  لكن رجال السياسة العامة العراقية  في ظل السياسة الامريكية،  المليئة بألاف الأخطاء المرتكبة من وزارة الخارجية والكونجرس والبيت الأبيض . جميع الخطب الرسمية الامريكية ، السياسية والاقتصادية، لم تؤدي الى حماية (نصب المسيرة ) إذ جرى تهديمه في الحال . كما جرى تبييض اللون الديني، الفكري،  في قبة (نصب الشهيد).  بينما اهمل الحكام الجدد  (ساحة الاحتفالات) وتركوها بلا تدبير و لا تعمير  بين 2003 – 2011 ، أي ثماني سنوات من اقتناع أحزاب الإسلام السياسي بوجهة نظر السفارة الامريكية في بغداد بعدم  تهديم (قوس النصر العراقي) لأنه استنزف   مبالغ نقدية كبيرة في الكلفة المالية لهذا النصب.  

غير أن الجميع نسوا ، أو تناسوا،  وجود 5000 آلاف خوذة بشرية – عسكرية – إيرانية ، مهانة بهذا الموقع ، كما تشير الى بقاء (يد صدام حسين) عالية جداً ،  ببغداد ، مما يعني بشكلٍ او بآخر ، ان هاتين اليدين تعبران ، من  خلال النصب التذكاري الحربي،  عن قوة جسد و شخصية هاتين اليدين دون غيرها.   فكرة اليدين والسيفين هي ملخص (فكرة الهيمنة).  لا شك أن الجميع يعرفون أن (الهيمنة) هي ، بكل الحالات،  مبنية على ثقافة سيطرة (الأقوى) على (الأضعف).  

جميع الأفكار الناقدة لتصميم نصب (قوس النصر) بعد افتتاحه،  لم يسمعها المصمم خالد الرحال.  كما لم يسمع أي ممارسة من ممارسات الجشع المالي لكثير من حكام الحقبة العراقية الجديدة،  بعد عام 2003 ، لأن جسد الرجل صار تحت التراب ، عام 1987 ،  أي  قبل اكتمال نصب قوس النصر العراقي و افتتاحه.

 المعنى ، هنا ، ان الفنان خالد الرحال لم يتنعم بنظريته عن فانتازيا قوس النصر،  الذي كان يفتخر به بطقوس واشكال فارغة،  سوى منطقه بان ( نصب القوس)  كان موضع العقل والجسد من شخصية الرئيس صدام حسين، أي الشخصية ذات السمات التي اعرب الرحال ،  عن الاعجاب الأقصى بها و منطقها بتكديس الأدوات الفعلية في (السيطرة الفردية) على (نظام الحزب الواحد)  وعدم ادراك الفنان خالد الرحال من ان حقيقة  شخصية (صدام حسين)  تتجسد بالدرجة الأولى بقدرته على فرض سياسة وظاهرة  (عبادة الفرد ) على أعضاء حزب البعث ، على المجتمع وعلى موظفي الدولة ،  لجعل جميع أدوات الحكم واجهزته القمعية و الثقافية و الفنية في يد (القائد الضرورة).

حين رحل الفنان خالد الرحال الى الابدية قبل ان يتمركز في نقطة نهاية المشروع،  الذي خضع بصورة مطلقة و كاملة الى الذات الرئاسية المتمثلة  بشخصية صدام حسين،   لم تجد السلطة الحاكمة بداً من تكليف الفنان  النحات (محمد غني حكمت)  باستكمال الجزء اليسير الباقي من النصب . كان القرار اختراعاً من وزير الثقافة  مدعوماً بفكرة القيادة الصدامية ، التي قيل انها ( فكرة حكيمة) لأن الفنان الاول هو (نسيب) الفنان الثاني ، وأنهما كانا قد  نهلا  من ذات التجربة النحتية الغربية ، الإيطالية. وافق النحات محمد غني على طلب الدولة بإكمال المشروع ، لكن على مضض،  إذ لم يكن بإمكانه الإفصاح عن موقفه الحقيقي من هذا الطلب  ، خشية ان يصيبه ضرر بحالة الاعراب عن الرفض .  لقد نأى بنفسه  عن الضرر  من باطنية  الذات  الرئاسية العراقية.

في حفل كبير ، متوتر ، غير  شفاف، يوم ٩-٨-١٩٨٩ تمت محاولة إزالة الضباب الكامل عن  العقل العسكري العراقي . كانت جميع  المؤسسات العسكرية العراقية ، البرية و الجوية والبحرية ، قد شاركت في ذلك الحفل الهائل ، المتميز،  يتقدمهم الرئيس العراقي صدام حسين  ليس بصفته  الرئاسية – الإعلامية   ،  القائمة على افتراض التمسك بــ (العقل و العلم و الفكر الحزبي) ، بل  على أساس متوافق مع يوتوبيا الفروسية القومية البائسة  ، إذ تخلى ،الرئيس صدام حسين ، عن سجيته الإعلامية   المعتادة، مسرعاً بظهورٍ قوميٍ جديد النوع ،  حين  تقدم بمظهرٍ ، علني و باطني،   مُبالغاً  بجنسه  العروبي على ظهر جواد عربي اصيل ، ابيض اللون.   استطاع الرئيس  ،  بهذا المنظر،  ان  يحقق قضيته الشخصية الكبرى  بجعل الدولة العراقية وحزبها الحاكم   وقواتهما المسلحة  معترفةً  بعبادة ( الإله الجديد ) ، صدام حسين، الذي بدأ ، من ذلك اليوم،   بالحديث  بمنطق إسلامي ،  نفث في انفاسه إعلان يقول : انه وكيل الله على الارض العراقية ، الذي فرض ، لاحقاً، ثقافة عنف جديد اسمها ( الحملة الايمانية) حيث بداية الاندماج مع الواقع العام في الدول العربية ، جميعها، متحولاً  من ادّعاء مزيف ٍ بالنظام العلماني  الى نظام الاسلام السياسي المزيف فعلاً. 

استعرت ذاكرتي بهذا الموضوع  الفني - الإعلامي،  ليس بدافع الدعوة الى مجابهة هذا النصب أو تهديمه  . ليس هذا الامر من شأني  ، خاصة وأن الفنانين الرحال و حكمت هما من أصدقائي المقربين  .  لكن تبقى المجابهة الحضارية سياقاً ثقافياً و تاريخياً كجزء من التوظيف الصريح للمشاعر الانسانية في العراق ، جيلاً بعد جيل . كذلك تبقى النماذج الفنية العراقية الكبرى شكلاً ، متبايناً ، متناقضاً ، في الهوية العراقية السياسية ،  التي لا يمكن بأي حالٍ من الأحوال ،  ان تكون محاولات حكومة البعث العراقي  بأنصابها  الجديدة ، لمنافسة  نصب الفنان الخالد جواد سليم في ساحة التحرير . كل محاولة من هذا النوع كانت و ستكون فاشلة لأنها مظلمة في هدفها وضيقة في رؤياها وحتى خطيرة بمسعاها. يظل نصب الحرية هو النصب الأساسي ممثلاً  لسمة موضوعية لمصداقية علاقة الشعب العراقي بالفنون الأصيلة.  

بصرة لاهاي في ٢٨ /١٠/ ٢٠١٨  

عرض مقالات: