لقد عاشت معظم الدول العربية المنتجة للنفط على تجارة النفط وهي تجني منها مليارات الدولارات سنوياً مقابل آلاف الأطنان من النفط الخام الذي يعتبر المحرك الأساسي للعجلة الإقتصادية الأوربية والأمريكية ، ففي بلد مثل العراق بلغت إيرادات النفط للسبعة أشهر الأولى من سنة ٢٠١٨ حوالي ٤٧،٥ مليار دولار ، ولم تستخدم هذه الأموال لتنشيط الحركة الإقتصادية في العراق ونتج عن ذلك جيش من العاطلين الذين هاجر منهم من هاجر وبقي منهم من بقي ينجرف يميناً أو يساراً ، بعكس بعض دول الخليج التي إستفادت من أموال النفط لبناء البنى التحتية والفوقية للبلاد .
إن ظاهرة البطالة في دول عربية مثل العراق وسوريا وليبيا والسودان وأرتيريا والصومال بسبب النزاعات المحلية والطائفية قد أدى إلى هروب الكثير من الشباب العربي إلى مرافيء الدول الأوربية وخاصة إيطاليا وأسبانيا وألمانيا ، وكانت ليبيا هي أحد المعابر إلى السواحل الأوربية ، وإزدهرت تجارة البشر في هذا البلد عبر البحر المتوسط . وبإطلاعي على الكثير من الإحصائيات والفيديوات ، ظهر لي التحول الحاد في السلوك الإجتماعي للكثير من أبناء الشعب الليبي . عشت زمناً في هذا البلد العربي حين دَرَسْت في إحدى جامعاته . كان شعباً طيباً لين الخلق لم أجد فيه شراسة أو لؤماً أو أنانية ، بل كان شعباً راضياً مرضياً . وبعد الأحداث الدامية والصراعات المحلية ضمن ما سمي بالربيع العربي أصبح فجأة القتل والتعذيب مهنة حتمية لمن أراد البقاء على قيد الحياة ، وقد هاجر البعض منهم وبقي البعض الذي إلتزمته المنظمات الإرهابية ، وأصبحت تجارة البشر هي مهنة من لا عمل له ، وأصبح وكلاء البيع منتشرون في بعض المزارع أو ( الحوازات ) يتداولون المئات من المهاجرين الأفارقة من جاد والنيجر وآرتيريا والصومال وأثيوبيا والسودان ، وقد يباع هؤلاء من وكيل إلى آخر كما يباع العبيد . ويعاني هؤلاء المهاجرون من أنواع العبودية وخاصة العبودية الجنسية بالنسبة للأطفال والنساء والقهر والإذلال والتجويع بشكل عام . وقد أصبحت هذه التجارة والتي لا تحتاج إلى مادة خام أو مصاريف إنتاج هي التجارة الرائجة في كل الدول التي نشطت فيها الصراعات المحلية والطائفية .
لقد قامت مفوضية الأمم المتحدة للاجئين بنشر الكثير من الحقائق عن هذه التجارة ، وقامت المنظمة الدولية للهجرة بنشر إحصائيات عن عدد المهاجرين الأفارقة منذ خمسة سنوات وإلى الآن ، وكان العدد ٤٣٢ ألف مهاجر أفريقي في ليبيا . وقد أُعلنت في أوربا حالة الطواريء حيث قد دخل إلى أوربا منذ بداية ٢٠١٨ حوالي ٥٥ ألف مهاجر ولاجيء مقابل ١١١ ألف مهاجر في ٢٠١٧ ، أما في سنة ٢٠١٦ فقد كان عدد المهاجرين ربع مليون مهاجر . وتذكر التقارير على أن هناك حوالي ١٠٠ ألف مهاجر يدخلون إلى ليبيا سنوياً . ونلاحظ هنا أن ليبيا أصبحت معبراً ومرتعاً لتجار البشر لقربها من البحر المتوسط والذين يحصلون على آلاف الدولارات لغرض نقل هؤلاء إلى السواحل الأوربية براً وبحراً .
إن التقارير الدولية تؤكد على تعرض هؤلاء للإستغلال الجسدي والجنسي وأحياناً القتل والتعذيب ، وقد يطول إنتظار البعض منهم إلى سنوات فيقوم تجار البشر في هذه الحالة ببيع بعضهم إلى البعض الآخر من التجار .
إن أحلام المهاجرين بالمستقبل الأفضل هو ما يدفعهم للمخاطرة وعادة ما يكون المستقبل الأفضل هو في حقيقته لا أكثر من عمال نظافة أو عمال مطاعم أو فنادق مع كون بعضهم هم من حملة الشهادات الجامعية . وقد ينجح البعض منهم في إيجاد عمل أو مهنة أو مسكن لكن الغالبية قد تبقى في الملاجيء أو في البيوت المهجورة أو ربما على الرصيف . لقد خرج الكثير من الشباب العراقي والسوري والليبي والسوداني والمصري حاملين شهاداتهم وآمالهم وكثيراً ما ينتهي الأمر بهم في قاع المحيط ، وإن نجا فعليه أن يتحدى المنافسة القوية في سوق العمل الأوربية . وقد يُعزى رخص الأيدي العاملة وقلة فرص العمل إلى وجود المهاجرين .
إن الخيار محدود أمام الشاب العربي فهو أما أن يصبر على البطالة أو يعيش متسكعاً أو يلجأ إلى بؤر الإرهاب والمخدرات ، أو أن يبحر مهاجراً . يشير مكتب المخدرات في الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة إلى أن عصابات التهريب تحقق أرباحاً ما بين ٦٧٠ مليون دولار سنوياً إلى ١١٠٠ مليون دولار ، وتتراوح رسوم التهريب ما بين ٢٠٠٠ و٤٠٠٠ آلاف دولار عن طريق البر ، أما عن طريق البحر فهي ما بين ٥٠٠ إلى ٢٥٠٠ دولار . وتعتبر سنة ٢٠١٨ هي السنة الأكثر دموية إذ غرق في البحر المتوسط أكثر من ١٥٠٠ مهاجر وأكثرهم من الأفارقة الهاربين إلى السواحل الأوربية . وهم مشتركون بالمصير مع مئات المهاجرين السوريين والعراقيين الهاربين من لهيب الحروب المحلية ، وقد يهيم بعضهم في الغابات ويتسلق الجبال طمعاً في الوصول إلى بر الأمان .
ولو تساءلنا لماذا يهرب الكثيرون مهرولين نحو السواحل الأوربية وبأقدامهم العارية أحياناً ، وبأمتعة وبلا أمتعة ، وقد تركوا من خلفهم
أحبة لهم لا يملكون إلا الدعاء ، لوجدنا بأننا أصبحنا وقوداً لنيران نحن من أشعلها ، تارة بإسم الربيع العربي ، وتارة بإسم عراك الطوائف والأديان ، فأصبحنا لا نسمع ولا نرى إلا أنفسنا ، وتارة أخرى نهب لأنفسنا الأمان ولغيرنا الطوفان ، فيعطش ويجوع الملايين في سوريا والعراق ، ثم يعيش الكثير من أبناء بلاد الخيرات على أكوام المزابل ، فتذبل وجنات أطفال الفقراء وتتورد وجنات سمان الحروب الطائفية .
قد يسأل أحدهم قبل أن يغرق لِمَ أنا هنا ، وما الذي أخرجني من داري !؟ ، ولن يحصل على الجواب غير أن رغوة البحر قد تذهب به إلى البعيد وقد يصل إلى مبتغاه بلا روح أو ربما بلا جسد قرباناً لتجار البشر ولمن أشعل النيران في كل مكان لكي يضيء داخله المظلم ولكن عبثاً .