يشهد بلدنا تغيرات وتطورات واحداثا وضعته امام تحديات جسيمة، في حين تبقى  الأزمات المتتالية المصاحبة لحكم منظومة المحاصصة والفساد  تطحن شعبنا، ومعها ترتفع معدلات الفقر والبطالة والجوع والمرض والتخلف ونقص الخدمات وتغوّل السلاح المنفلت، ويتواصل عجز المتنفذين عن إيجاد المعالجات والحلول.

وليس متوقعا اليوم، بعد تجربة الحكم المحاصصاتي المكوناتي المستمرة منذ 19 عاما، أن يتحقق ما هو جدي ونافع للصالح العام. ذلك أن هَمّ المتنفذين الأول والأخير هو مصالحهم ونفوذهم وسلطتهم، التي يتشبثون من اجلها بنهج المحاصصة الفاشل والمدمر. 

وإذا كانت حالة الاستعصاء السياسي المتعلقة بتشكيل الحكومة وفق النهج  المحاصصاتي ذاته، وهو أس الأزمات، قد انتهت الآن، فإن  ذلك لا يعني انتهاء الأزمة البنوية الشاملة، المرشحة - على العكس - للتفاقم على صعد مختلفة.

لذا بات ملحا وضروريا تدشين صفحة جديدة تحت راية التغيير الشامل، تفتح آفاقا واعدة لغد الديمقراطية الحقة ودولة المؤسسات والقانون والمواطنة والعدالة الاجتماعية.

 الأوضاع الاقتصادية – الاجتماعية

 تستمر أوضاع البلد الاقتصادية - الاجتماعية والمعيشية في التدهور مع غياب السياسات الاقتصادية التنموية السليمة، وتغوّل منظومة الفساد، التي لم تعد تخشى إظهار فضائحها إلى العلن!

وكان لاستمرار حالة الاستعصاء السياسي عاما كاملا، وما رافقها من غياب للموازنة المالية العامة، الأثر البالغ في توقف المشاريع الاستثمارية وتصاعد معدلات البطالة ونقص الخدمات الأساسية واتساع رقعة الفقر المدقع.

كما أن عدم الاستجابة السريعة للتحديات الاقتصادية التي فرضتها تداعيات الصراع العالمي، ونشوب الحرب الروسية – الأوكرانية، انعكس سلبا في تدهور الأوضاع المعيشية، وارتفاع الأسعار. ويشير تقرير الأرقام القياسية لاسعار المستهلك الصادر مؤخرا عن الجهاز المركزي للإحصاء، الى ارتفاع بنسبة ٥٫٣ في المائة بالمقارنة مع شهر أيلول ٢٠٢١،  كذلك ارتفاع مؤشر التضخم الأساسي بنسبة ٥٫٤ في المائة في الفترة ذاتها . 

لقد فشلت الحكومات المتعاقبة، ومعها ذوو الأجندات الخاصة المدججون بالسلاح والمتماهون مع مشاريع خارجية، في توفير بيئة سياسية وأمنية وتشريعية مناسبة لانطلاق عملية استثمار حقيقي وجاد، سواء للرأسمال الوطني ام للخارجي، في مشاريع إنتاجية صناعية وزراعية وخدمية. مشاريع يمكن ان تشكل ركائز للنهوض ولبناء اقتصاد متنوع ومتعدد المداخيل ولإيجاد فرص عمل. وحسب تقرير المصروفات الفعلية الصادر عن وزارة المالية حتى شهر أيلول ٢٠٢٢، لم ينفق على الموازنة الاستثمارية الاّ بحدود ٧٫٥٤ في المائة ( ما يقرب من ٦ تريليونات ) من مجموع مصاريف الدولة الإجمالي الذي بلغ حوالي ٧٨ ترليونا و٧٥٢ مليون دينار عراقي. وذلك رغم الحاجة الكبيرة والملحة الى الاستثمار في قطاعات أساسية، منها الصناعة التي انفق عليها ١٢٫٣ في المائة لا اكثر، والتربية والتعليم التي انفق عليها 6,5 في المائة، في حين بالكاد وصلت النسبة الى ١٫٥ في المائة من الموازنة الاستثمارية للقطاع الزراعي . ورغم انفاق 30,4 في المائة على قطاع النقل والمواصلات، حسب التقرير، فانه لا يزال في حال يرثى لها. وتكشف هذه الأرقام مجددا الضعف الفاضح في الاستثمار والتنمية ومدى الهدر الناجم عن الفساد وسوء الادارة.  

وجراء ذلك، دخلت البلاد في دوامة من الأزمات الاقتصادية والمالية، مسببة استنزاف ثروات البلد وتدهورا مريعا في قدراته الإنتاجية وتفاقم معاناة الناس، وتزايد عجز الموازنات العامة في السنوات الماضية ونهب المال العام بأشكال وطرق مختلفة، فيما راح يتعزز دور الفئات البيروقراطية والطفيلية والكومبرادورية، التي شكلت تحالفات وتفاهمات مع العديد من المتنفذين من صناع القرار السياسي والاقتصادي.

 الفقر والبطالة والأوضاع المعيشية

 تشير المعطيات والأرقام المعلنة الى تفاقم  حالة التفاوت الاجتماعي والفرز الطبقي في البلاد، نتيجة للنهج الفاشل الذي اتبعته قوى المحاصصة والفساد في إدارة البلد وموارده وثرواته.

ففي العام الحالي (2022) ارتفعت معدلات الفقر بحسب احصائيات رسمية، إلى 27 في المائة - ما يعني أكثر من 11 مليون مواطن تحت خط الفقر، وهي النسبة الأعلى منذ نحو 20 عاماً، باستثناء فترة تفشي فيروس كورونا. بينما تؤكد منظمات دولية أن نسبة الفقر الفعلية أعلى  من التقديرات الرسمية المعلنة.

ورغم وجود استراتيجية للتخفيف من الفقر في البلاد الاّ ان الاستثمار في هذا الجانب ضعيف، اذ تم انفاق ٥١ مليار دينار فقط على برامج استراتيجية التخفيف من الفقر، وهي مبالغ لا ترتقي الى حجم الظاهرة والحاجة الفعلية. 

علما أن خط الفقر هو أدنى مستوى من الدخل الشهري لتوفير متطلبات العيش الضرورية، وهو يبلغ في العراق حاليا 115 ألف دينار.

وأعلنت وزارة التخطيط أخيراً أن نسبة البطالة بلغت 16.5 في المائة من مجموع السكان النشطين اقتصادياً، الذين هم بعمر 15 الى 64 عاماً، بينما ترتفع النسبة لدى النساء الى أكثر من 25 في المائة. لكن قراءات أخرى غير رسمية، تؤكد أن البطالة الفعلية ترتفع إلى حوالي ٢٠  في المائة  بين  العراقيين القادرين على العمل فعلياً. ويؤكد خبراء اقتصاديون ان أرقام  وزارة التخطيط غير دقيقة، نظراً إلى عدم توفر تعداد سكاني. فالعينات العشوائية قد لا تنطبق  على المجتمع ككل، وفي بعض المحافظات تصل نسبة البطالة إلى 50 في المئة مثل السماوة والديوانية والموصل.

وليست المشكلة في البطالة فحسب، بل ايضاً في سوق العمل غير المنظم او «العشوائي» الذي يلجأ إليه ملايين الشباب، الذين يعملون في ظروف صعبة وقاسية، من دون حقوق او ضمانات اجتماعية. وهؤلاء يكونون أقرب الى العاطلين عن العمل، إذ لا يختلفون عنهم الا بحصولهم على الأجرة الزهيدة.

لقد اكتفت الحكومات السابقة باتخاذ بعض القرارات الاقتصادية او الاجتماعية، من دون حسابات للجدوى ولمجرد امتصاص غضب الشارع او لخدمة أهداف سياسية انتخابية، مثل التوجه نحو التوسع في التوظيف الحكومي، في الوقت الذي يعتبر فيه العراق اليوم، الدولة الأعلى نسبةً في عدد الموظفين الحكوميين الى مجمل القوى العاملة، بحسب دراسة أعدتها منظمة العمل الدولية .

فمن غير المنطقي الاعتماد كليا على سياسة التوظيف في القطاع العام، حيث يدخل سنويا إلى سوق العمل حوالي 500 ألف فرد! ويبقى البديل إيجاد اقتصاد قوي متنوع يوفر فرص عمل في القطاعات الإنتاجية كافة، وتأمين الضمان الاجتماعي الشامل.  

وساهم ما سبقت الاشارة اليه من مظاهر الصراع الدولي، وتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، وكون العراق يعتمد أساسا على الاستيراد، في ارتفاع  أسعار السلع والمواد الأساسية، لتشكل ضغطاً إضافيا على العائلة العراقية.

وكانت تداعيات ذلك كله وخيمة على الواقع الاجتماعي، الذي تنامت فيه ظواهر خطيرة تنذر بتشوهات اجتماعية جسيمة، حاضرا ومستقبلا.

فقد ارتفعت معدلات الجريمة هذا العام مسجلة أرقاما تاريخية تجاوزت 5300 جريمة قتل جنائية، وبنسبة تفوق 11,5 سنويا لكل مائة الف نسمة، وهي اعلى نسبة لجرائم القتل تاريخياً في المنطقة العربية وايران وتركيا.

وارتفعت حالات الطلاق لتصل الى ٧ آلاف حالة في شهر تشرين الأول ٢٠٢٢، وهو رقم غير مسبوق. فيما تفشت آفة المخدرات، حيث يعلن يوميا عن اعتقال العشرات من المتهمين بين تاجر ومتعاطٍ.

كذلك تصاعدت معدلات الانتحار بشكل ملحوظ خلال النصف الأول من العام الحالي ٢٠٢٢، قياسا الى نفس الفترة من العام الماضي ٢٠٢١، الذي سجل ٧٢٢ حالة انتحار.

هذه الأرقام المخيفة عن ظواهر سلبية اوردناها كأمثلة صارخة، هي انعكاسات وثيقة الصلة بتفشي الفقر والبطالة والمرض وسوء الأحوال المعيشية، وبحالة الانفلات وعدم الاستقرار وضعف هيبة الدولة ومؤسساتها وعدم القدرة على إنفاذ القانون.

 مؤشرات اقتصادية 

 يسير الوضع الاقتصادي في بلادنا على رأسه لا على قدميه! فبالتزامن مع ارتفاع أسعار النفط العالمية، وما حققه العراق من إيرادات استثنائية شكلت له وفرة مالية كبيرة، ظلت مؤشرات غلاء المعيشة والفقر والبطالة ونقص الخدمات تتصاعد.

وأعلن تقرير صندوق النقد الدولي عن ان معدل النمو الاقتصادي في العراق بلغ 9.3 في المائة  في عام ٢٠٢٢. وهذا النمو جاء نتيجة ارتفاع الطلب العالمي على النفط الخام والغاز الطبيعي.

وبطبيعة الحال، لا يمكن قياس النمو الاقتصادي الحقيقي وفقاً لارتفاع أسعار النفط عالمياً بسبب أزمة الطاقة العالمية، ذلك ان أسعار النفط شديدة التذبذب ولا يمكن الاعتماد عليها في تقييم الوضع الاقتصادي للبلد.

بل ان النمو الذي يعلنه الصندوق يُعد نموا للقطاع النفطي وليس للاقتصاد العراقي الحقيقي، حيث ان قطاع النفط يُعد مصدرا أساسيا  للقيمة المضافة اقتصاديا، في حين تتراجع القطاعات الاقتصادية الإنتاجية غير النفطية.

وقد أدى غياب الموازنة العامة لسنة ٢٠٢٢ إلى حالة من الركود الاقتصادي في الأسواق، مع ارتفاع كبير في أسعار الأغذية والسلع الأساسية، فضلاً عن النقص الحاد في الخدمات.

ولم يلمس المواطنون، لاسيما محدودو الدخل، أي انعكاس إيجابي للوفرة المالية على أوضاعهم المعيشية، بالرغم من تشريع قانون الدعم الطارئ للأمن الغذائي والتنمية، الذي خصص ٢٥ ترليون دينار لتأمين التخصيصات المالية لقطاعات عدة، والذي تثار تساؤلات عن أمواله وأين صرفت!

وكان وزير المالية السابق علي علاوي قد توقع ارتفاع الاحتياطات النقدية للبلاد إلى أكثر من 90 مليار دولار بحلول نهاية 2022، مشيرا إلى أن هذا المستوى يُعد قياسيا بالنسبة للعراق.

وفي هذه الظروف يتوجب الضغط لاستثمار الوفرة المالية، المتحققة أساسا بفضل ارتفاع اسعار النفط، على نحو سليم لتنويع مصادر الدخل الوطني وايرادات الدولة خاصةً المتأتية من القطاعات الإنتاجية، لاسيما الزراعة والصناعة، والتوجه الى إيجاد ركائز تنمية متوازنة ومستدامة، تُحسّن مستوى المعيشة وتوفر الخدمات للمواطنين وتؤمّن فرص عمل لهم. وهذا ما يتوجب اعتماده وليس اللجوء الى التوظيف المسيس والزبائني. ويستدعي هذا بدوره مراجعة شاملة للتعليم في مختلف مراحله، وإعادة بنائه على وفق الحاجة الفعلية، كذلك تنمية الكفاءات والقدرات المهنية الوطنية. وبات مهما ايضا تشريع القوانين ذات العلاقة بتحسين اوضاع المتقاعدين وزيادة رواتبهم، وتلك التي لها علاقة بالضمان الاجتماعي الشامل، خاصة في حالات البطالة والشيخوخة.  

 سعر صرف الدينار العراقي

 كان الهدف المعلن من خفض قيمة صرف الدينار العراقي، بحسب الحكومة السابقة - حكومة السيد الكاظمي - توفير سيولة نقدية، تمكن الحكومة من دفع الرواتب بعدما عجزت الميزانية عن ذلك بسبب انهيار أسعار النفط، بجانب مبررات اخرى سيقت آنذاك. لكن ذلك الاجراء غير المدروس ألحق الضرر بالمواطنين ذوي الدخل المتوسط والمحدود، بمن فيهم الموظفون الحكوميون!

ومُرّر القرار الذي مهدت له في حينه ما سميت «الورقة البيضاء «، وقيل، بين ما قيل، ان  خفض قيمة الدينار ستصاحبه زيادة في الموارد المالية للدولة، يمكن  استثمارها في تحسين الخدمات العامة وتطوير قطاعات إنتاجية. لكن أيا من ذلك لم يتحقق، بل ارتفعت الأسعار وتفاقم غلاء المعيشة.

غير ان إعادة النظر في معدل الصرف في الظرف الراهن، قد تتسبب في حالة من عدم الاستقرار في الاسواق، بما يؤدي الى المزيد من الركود الاقتصادي.

وإن أي تعديل في قيمة صرف العملة الوطنية، يجب أن يستند إلى سياسة مالية ونقدية واقتصادية ذات جدوى حقيقية، مرتبط بمجموعة من الإجراءات بما فيها حُزم الدعم للطبقات والفئات الفقيرة والمهمشة ومحدودة الدخل، وتقديم الدعم الكافي للنهوض بالقطاعات الإنتاجية.

 ملامح فرز اجتماعي وطبقي

 ان ما ذكر أعلاه  وغيره من التداعيات المباشرة وغير المباشرة للازمة البنيوية، زاد من حدّة التوترات الاجتماعية والفرز الطبقي، وفاقم الهوة بين أقلية تراكم الثروة عبر أنشطة مرتبطة بالريع وليس بالإنتاج، وايرادات غير مشروعة مرتبطة بالفساد المالي والإداري والسياسي، وبين أغلبية مسحوقة ومحرومة.

وقد أثّرت الظروف المعيشية الصعبة وتدني قيمة الدخل على مختلف الفئات والشرائح الكادحة ومحدودة الدخل، بما فيها الفئات الوسطى . كما ان مشاريع غسيل الأموال قضمت من مساحات البرجوازية الصغيرة وحتى الوسطى، ونالت سيطرة المليشيات ومافيات الفساد كثيرا من قدرة البرجوازية التجارية غير المرتبطة بقوى سياسية متنفذة، على المنافسة في السوق. في حين يلاحظ حراك للسكان من الريف والاهوار بسبب شح المياه والجفاف، والهجرة الى أماكن يمكن ان توفر لهم لقمة العيش.

إن إحدى تجليات الفرز الحاصل هو تعمق عزلة قوى منظومة المحاصصة والفساد، الذي تجلى في عزوف الغالبية العظمى من أبناء الشعب عن المشاركة في انتخابات ٢٠٢١، بعدما عمد المتنفذون الى تصميم العملية الانتخابية وفقاً لمقاساتهم السياسية ومصالحهم وبما يديم نفوذهم.

وبسبب ذلك كله، يشهد المجتمع العراقي حراكا اجتماعيا مستمرا، يتمظهر بشكل احتجاجات سياسية ومطلبية وتذمر واسع، ونقد ساخط على مواقع التواصل الاجتماعي.

ومع استمرار السياسات ذاتها ارتباطاً بالتمسك بنهج المحاصصة وما يسببه من تداعيات وأزمات، لا يبدو مستبعدا أن نشهد تفجراً اجتماعيا كبيراً، تتصدره الشرائح الاجتماعية الأشد فقرا والفئات المتضررة من منظومة الحكم.

 من جديد .. مفهومنا للمحاصصة

 هناك خَلط، بعضه متعمد، بين نهج المحاصصة الطائفية والاثنية الذي نعتبره أسّ فشل وفساد المنظومة الحاكمة والأزمات المتتالية، والذي يُختزل بتعبير «المحاصصة»، وبين توزيع الحقائب الوزارية في الحكومات الائتلافية وفق برنامج معلن و»حصص»، على الأحزاب والقوى والشخصيات المشاركة فيها، يُحدد أحجامها وفقا لنسبة أو وزن التمثيل النيابي لكل طرف ضمن الائتلاف الحكومي.

فهذا الا خير يختلف تماما عمّا يجري اتباعه في بلادنا، بموجب «أعراف» نهج المحاصصة المعتمد في جميع الدورات البرلمانية والحكومات المنبثقة عنها.

إن حال المحاصصة في العراق يفترض أن الوزارة المعينة هي حصة هذا الحزب او ذاك من الحكومة، وأن سياسة هذه الوزارة تخضع لسياسة ذلك الحزب، فيتعذر على رئيس الوزراء التدخل في شؤونها، وهو ما يحصل دائما – مع بعض الاستنثاءات. ومن جانب آخر، يُنظر الى هذه الحصة على انها غنيمة للحزب المقصود ولوزيره بكل ما تضمه من موارد مالية وبشرية.

لذلك يدور تنافس حاد، غالبا ما يتحول إلى صراع، على الوزارات حسب حجم موازناتها ونفوذها، حيث تصرّ كل كتلة على الاستحواذ على وزارة سيادية ووزارة خدمية ذات موازنة كبيرة، ثم تقوم الجهة السياسية المعنية بامتصاص نسبة كبيرة من تلك الموازنة التشغيلية، عن طريق تعيين أنصارها ومريديها وأقارب مسؤوليها في المناصب والدرجات العليا، وهم الذين تستخدمهم لفرض سلطتها وفي الانتخابات.

وهكذا نجد هذا التقاسم، المنافي لمبادىء وأسس المواطنة والمساواة أمام القانون، ناهيك عن معايير الكفاءة والنزاهة. وقد أوجد احتكار الأحزاب حق التصرف بـ»حصتها» من الوزارات، سوقا «لبيع» مناصب عليا وتوزيعها على المرشحين من مختلف القوى والكتل، فيما أصبحت  وزارات معينة حكرا لهذا المكون الاجتماعي او ذاك.  

 من جانب آخر أدت المحاصصة الى عملية التفاف على الدستور ومواده، وإحلال توافقات القوى السياسية المتنفذة محلها، وقادت الى ضياع هيبة الدولة وإضعاف مؤسساتها، وتكوين الدولة العميقة. 

كما كان من نتائج هذا التحاصص المشوّه، أن تحول العديد من الوزارات إلى اقطاعيات تابعة لهذا الحزب أو ذاك، استشرى فيها الفساد السياسي والمالي والإداري والمحسوبية وسوء الإدارة، وغابت معايير الكفاءة والمهنية والنزاهة، فعجزت عن النهوض بمهامها، فيما توالت الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية واستفحلت.

ان هذه الطريقة في التعامل مع المؤسسات الحكومية لا يمكن ان ترسم مسارا سليما  لبناء الدولة، وهي تبقي على الوضع عبر إعادة انتاج الحصص وتقاسم الثروات.. كما جرى ويجري حتى الآن.

 الحكومة الجديدة والنهج المقيت

 تشكلت حكومة السيد محمد شياع السوداني بعد انقضاء أكثر من عام على إجراء انتخابات تشرين ٢٠٢١، نتيجة حالة الاستعصاء التي سببها  تمسك قوى المحاصصة بالنهج المقيت.

وكان الصراع على تشكيل الحكومة هذه المرة الأشد والأعنف منذ العام ٢٠٠٣، حتى حُسم بعزوف التيار الصدري عن المشاركة في الكابينة الوزارية، بعدما انسحب من البرلمان قبل ذلك بأشهر.

ولعبت الارادات الخارجية دوراً مؤثراً في مسار تشكيل الحكومة، وفقاً لحسابات المصالح الدولية والإقليمية للفاعلين الخارجيين ودورهم في الشأن العراقي.

وجاءت الحكومة الجديدة وفق آليات التحاصص المعهودة، بل ذهبت إرادة قوى المحاصصة إلى أبعد من تسمية الوزراء، وانتقلت إلى صراع مكشوف حول الدرجات الخاصة، بانت ملامحه بعد أيام من تصويت البرلمان على التشكيلة الوزارية.

وكشفت التعيينات الأخيرة هيمنة الإطار التنسيقي على الدرجات الخاصة، في تحرك يعبر عن رغبة في إعادة التموضع في مؤسسات الدولة .. وهي تعيينات يمكن النظر اليها على  انها تدخل مؤثر في  قرارات رئيس الوزراء، بعكس ما يعلن عن إعطائه حرية ومرونة في التحرك واتخاذ القرارات. ومن المؤكد أن الحكومة الحالية هي عموما حكومة الإطار التنسيقي، مع أن هذا لا يعفي شركاءهم في « تحالف إدارة الدولة « من المسؤولية. 

على ان الجديد في معادلة الحكومة الحالية بعد انسحاب  التيار الصدري، هو أن طرفا سياسياً محددا بات يتحمل مسؤولية نجاح او فشل الحكومة. وهذا الطرف هو الإطار التنسيقي بكل قواه، الأمر الذي لم يتحقق في الحكومات السابقة، بهذا التأكيد المعلن.

إننا نجدد موقفنا الثابت في رفضه لنهج المحاصصة، ولاعتماده كمبدأ في عملية تشكيل الحكومات السابقة، والحكومة الحالية أيضا ، التي نراقب خطواتها واجراءاتها وقراراتها، وندعو لتعزيز الرقابة وتصعيد الضغط الشعبي عليها من أجل ان تمضي في تنفيذ تعهداتها التي تنسجم مع المطالب الشعبية، ونتخذ المواقف منها وفقا لمصالح شعبنا.

على ان اليقين راسخ بأن هذه الحكومة تقوم على منهج جُرّب وفشل، وهي تتحرك ضمن حدود ما هو مرسوم لها من القوى والكتل السياسية المشاركة فيها والداعمة لها. وهذا ما يؤكد مجددا وبإلحاح  حاجة شعبنا الى بديل سياسي آخر، يرفض منظومة المحاصصة والفساد، ويؤسس لخطوات واعدة على طريق التغيير الشامل. 

 قراءة أولية في المنهاج الوزاري

 أكد رئيس مجلس الوزراء في أول مؤتمر صحفي عقده بعد مباشرته مهامه في اول تشرين الثاني ٢٠٢٢، أن «أولوياتنا معروفة: الفقر والبطالة ومكافحة الفساد والإصلاحات الاقتصادية وتقديم الخدمات».

وفيما بدا ان المنهاج الوزاري ينصب على تقديم الاهتمام بالواقع الخدمي على قطاعات حيوية أخرى، فانه تضمن ايضا قضايا سياسية عقدية فرضتها الكتل المتحاصصة، من قبيل (الملفات العالقة بين بغداد واربيل) و(مناصب حكومة تصريف الاعمال) و(تطبيق اتفاق سنجار) و(ملف جرف الصخر).. وغيرها.

وعند الاطلاع  على منهاج  الحكومة الجديدة، يمكن القول إن المنهاج لم يأت ملموساً بالنسبة للأزمات والتحديات التي تواجهها البلاد، ولا شاملاً. حيث تضمن عبارات عمومية في العديد من فقراته، ولم تحظ فيه قطاعات رئيسية بالاهتمام الكافي، ولم يعكس على نحو واضح رؤية الحكومة للمعالجات، كما هو حاصل في فقرة القطاع النفطي.

كذلك لم يُعط المنهاج الاهتمام اللازم لموضوعات لها أهميتها في الواقع العراقي، مثل الثقافة والرياضة. 

وعلى سبيل المثال ايضا  لم يحظ قطاع التعليم باهتمام يوازي الاهتمتم بالقطاع الامني، في حين سجل التعليم على اختلاف انواعه مستويات حرجة من التدهور.

ومن ناحية أخرى فأن بعض ما تضمنه المنهاج من قضايا تمس حياة المواطنين،  لم يأت بمعزل  عن الضغط الشعبي المتواصل وانتفاضة تشرين، بل وجاء استجابة لذلك.

ولابد من القول انه لا يكفي النظر إلى ما هو مكتوب في المنهاج، بل أن المعيار لما تضمنه هو المنجز والمتحقق منه فعلا، ومدى انعكاس ذلك إيجابا على حياة العراقيين ومعيشتهم والخدمات المقدمة اليهم.

وذلك ما اكدته تجربة شعبنا المريرة مع حكومات المحاصصة المتعاقبة، والوعود التي اعلنتها في برامجها، والتناقض الصارخ بين الأقوال والافعال.

 التحديات وإمكانيات التنفيذ

  هناك تحديات امام  رئيس الوزراء ومدى قدرته على المضي حتى النهاية في تنفيذ ما جاء به المنهاج الحكومي وما تفرضه الحاجات الملحة، وفي تخطي حدود ما هو مرسوم من جانب القوى والكتل السياسية المشاركة والداعم للحكومة، فيما تبقى قائمة إمكانيةُ الصدام، عاجلا أو عاجلا، مع الإرادة  السياسية لمنظومة الحكم، المستندة إلى شبكة المحاصصة ومافيات الفساد.. وما تمثله الدولة العميقة.

فالمنظومة المحاصصاتية لن تجيز  بسهولة  المساس برؤوس الفساد، وهي التي وفرت الحماية لهم  ودعمت تشكيل الحكومات السابقة والحالية.. فما الذي سيتغير؟

ان حزبنا يؤكد مجددا رفضه بقوة لنهج المحاصصة في تشكيل الحكومة، لأن حكومة المحاصصة  ستكون رهينة توافقات المصالح الضيقة ذاتها، التي تقف بالضد من مصالح شعبنا، ولن تمكنها من تأدية مهامها المنتظرة بتقديم معالجات جذرية للأزمات التي يواجهها البلد.

وإن اُتخذت بعض الإجراءات هنا وهناك، تحت ضغط المطالب الجماهيرية او في محاولة لاستعادة أجواء الثقة وتنفيس حالة الاحتقان السياسي والاجتماعي، فان هذه الاجراءات  لا تشكل في مضمونها سوى محاولات في حدود ما تسمح به المنظومة الحاكمة.

وهكذا جاءت الحكومات السابقة بوعود معسولة، سرعان ما تراجعت عنها وانكفأت في أول مواجهة مع منظومة المحاصصة والفساد.

 مجلس النواب والانتخابات المبكرة

 أظهر مجلس النواب أداءً ضعيفا لا يرقى الى مستوى التحديات الكبيرة ومتطلبات التعامل مع حالة الاستعصاء السياسي التي دامت أكثر من عام، وكان المتضرر الوحيد منها هم أبناء الشعب.

إن اختلال موازين القوى داخل مجلس النواب، الناجم عن نتائج انتخابات تشرين ٢٠٢١، أدى إلى صراع محموم يصعب تصور انتهائه بتشكيل الحكومة.

فابتداء من تشكيل ما سمي «الثلث المعطل»، مروراً بتوافقات  أساسها المصالح الضيقة، وانتهاء بتغيّر تركيبة المجلس بعد انسحاب الكتلة الصدرية..  بات واضحاً ان مجلس النواب الحالي لا يمثل سلطة الشعب، بل أنه ممثل لسلطة الأقلية الحاكمة.

وبحساب الأرقام الرسمية المعلنة، فان هذا المجلس، لاسيما بعد  انسحاب الكتلة الصدرية، لا يمتلك  شرعية شعبية وسياسية، وإن كانت شرعيته القانونية قائمة شكليا.

فهو لم يحقق طيلة عام من انعقاده،  سوى تمرير قانون الأمن الغذائي وقانون تجريم التطبيع، وعجز عن تسمية حتى رؤساء لجانه الدائمة، بل ولم يتخذ موقفا يذكر من الاحداث الحامية التي شهدتها البلاد! وبقي متفرجاً على صراع  يدور خارج اروقته، منتظراً لحظة الحسم من قادة الكتل المتصارعة.

وفي الوقت الذي استبشر فيه المواطنون بوصول عشرات ممن تقدموا الى الانتخابات كمستقلين، إلاّ ان مواقف ودور عدد ممن يحسبون عليهم، والذين إما بانت انتماءاتهم وولاءاتهم الحقيقية لاحقاً أو وقفوا أزاء الازمة متفرجين، كان بمثابة صدمة للناخبين الذين منحوهم اصواتهم. فقد كان المؤمل من النواب المستقلين، الذين وصلوا الى البرلمان بأصوات التشرينيين والمدنيين والمتطلعين الى التغيير، مواجهة سياسات ومواقف القوى المتنفذة في البرلمان، والتمسك بما طرحته انتفاضة تشرين من شعارات ومطالب.

ان مجمل ظروف البلد ومنهج تشكيل الحكومة والمعطيات الواقعية الراهنة، تجعل من  موضوعة الانتخابات البرلمانية المبكرة ضرورة لا جدال فيها.

وقد تضمن المنهاج الحكومي فقرة تنص على اجراء الانتخابات المبكرة خلال عام من تشكيل الحكومة، وتعديل قانون الانتخابات البرلمانية في الأشهر الثلاثة الأولى. لكن هذا الالتزام الذي أصبح قانوناً، يجري التراجع عنه من قبل رئيس الوزراء والقوى والكتل المشكلة لحكومته والداعمة لها. حيث بدأوا التحضير لاجراء انتخابات مجالس المحافظات في أواخر العام المقبل ٢٠٢٣، متجاهلين انتخابات مجلس النواب.

ان هذا التنصل عن اجراء الانتخابات المبكرة لا يمكن السكوت عنه او تجاهله، بل يجب مواصلة الضغط السياسي والشعبي من أجل فرض اجراء هذه الانتخابات كما جاء في المنهاج الوزاري.

ولكن أية انتخابات نريد؟

 تمثل الانتخابات إحدى أدوات مشروع التغيير الديمقراطي، ومن أجل ان تأتي معبّرة عن إرادة العراقيين، ومحفزة لهم على الوثوق بالعملية السياسية، لابد ان تتوفر فيها عناصر العدالة والنزاهة والشفافية.

لهذا نشدد على الآتي:

  • تشريع قانون انتخابات عادل ومنصف، يوسع المشاركة ولا يتسبب في هدر الأصوات، ويحقق إرادة المواطنين في انتخاب ممثليهم. قانون لا تحتكر الكتل البرلمانية المهيمنة صياغته، بل تشارك فيها القوى السياسية الأخرى والشخصيات من خارج البرلمان، إضافة إلى النقابات والاتحادات ومنظمات المجتمع المدني والاكاديميين ومراكز الأبحاث.
  • إبعاد مفوضية الانتخابات وكوادرها، في المركز والمحافظات، عن المحاصصة والكتل السياسية المتنفذة.
  • اشراك حقيقي للمجتمع المدني والنخب والكفاءات المستقلة في عملية مراقبة الانتخابات.
  • منع القوى والأحزاب التي لها أذرع مسلحة من المشاركة في الانتخابات، عبر تطبيق تام لقانون الأحزاب السياسية.
  • منع استخدام المال السياسي وكبح جماح أية محاولة لشراء الذمم والاصوات والتزوير، ولتدخل الجهات التنفيذية، وضمان التكافؤ في فرص الدعاية الانتخابية عبر وسائل الاعلام شبه الرسمية.
  • الاقتصاص العادل من قتلة المتظاهرين وداعميهم، والكشف عن المغيبين من الناشطين والمتظاهرين، ومنع من لهم صلة بالقتل والاختطاف من المشاركة في أية انتخابات.
  • ضمان الاشراف الدولي الفاعل على الانتخابات.

إن من شأن تهيئة كل الوسائل الضرورية والتدابير اللوجستية والامنية لإنجاز الانتخابات المبكرة، أن تحقق مشاركة واسعة للمواطنين في اختيار من يرونه مناسباً لتمثيلهم، من دون ضغط او إكراه او مصادرة لحرية الاختيار.

ان الانتخابات المبكرة ترتبط ارتباطا وثيقا بمشروع البديل السياسي. لذا فإن الإعداد لها وفق المتطلبات المذكورة، يفسح المجال للقوى التي تعمل من اجل التغيير الشامل، للسير خطوات الى امام نحو تشكيل البديل السياسي للمنظومة الحاكمة.

إن موضوعة الانتخابات هي جزء من صراع كبير بين قوى المحاصصة والقوى السياسية والجماهيرية المتطلعة الى التغيير.. وهي معركة تتطلب أوسع اصطفاف قادر على تغيير موازين القوى، وحسم الصراع لصالح أبناء شعبنا ولمشروع البديل السياسي الديمقراطي.

 الوعد بمكافحة الفساد

 أطلقت حكومة السيد السوداني وعوداً بمواجهة الفساد، وأقدمت في أيامها الأولى على إجراءات  ضد عدد من المتهمين بالفساد، لا سيما ما يتعلق بتهريب النفط ومشتقاته. لكنها لم تستكمل التحقيق في ملف سرقة أموال الضرائب، تلك الفضيحة المدوية التي هزت العراقيين، والتي تشترك فيها مافيات وقوى سياسية متنفذة وتتوجب معالجتها بعيدا عن الصفقات، وبما يضمن  استرداد المال العام المنهوب، ومعاقبة من تسبب في ذلك وفقا للقانون.

ومن الملاحظ ان الإجراءات التي أقدم عليها رئيس الوزراء حتى الآن، استهدفت شخصيات جاءت بها الحكومة السابقة. فهل يبقى الأمر مقتصرا على استخدام الفساد المستشري ذريعة لإعادة التموضع السياسي في مؤسسات الدولة، بدلا من شن حملة شاملة ضد الفاسدين.. بالأخص الرؤوس الكبيرة منهم؟

من حيث الجوهر ترتبط العناصر المنتجة والمكوّنة والمؤسسة للفساد وسوء الإدارة، بنهج المحاصصة بهذا الشكل او ذاك. فاذا لم يتم التخلي عن هذا النهج المقيت، لن تكون هناك معالجات جذرية.

وان من المؤكد في الوضع الراهن ان معركة التصدي للفاسدين والمفسدين بما يملكون من إمكانات وتداخلات مع اصحاب القرار والمتنفذين والمافيات المليشياوية، لن تكون سهلة، وان الانتصار فيها يتطلب حشد قدرات كل العناصر والطاقات الوطنية، الرسمية والشعبية، وإطلاق «الحملة الوطنية لمكافحة الفساد» قولا وفعلا، وان تتضمن اهدافا محددة معلنة واجراءات وخطوات ملموسة. وهذا يتطلب أيضا ضمان سيادة حكم القانون، وإقامة دولة المؤسسات واحتكارها للسلاح. 

ان محاربة الفساد وفضح ومحاسبة رؤوسه كانت ولا تزال مطلبا أساسيا ملحا من مطالب الحراك الجماهيري، وعنصرا رئيسا في تحقيق الإصلاح والتغيير المطلوبين.

 السلاح بيد الدولة

ترتبط عملية محاربة الفساد ارتباطا وثيقا بملف السلاح السياسي والمنفلت. فالفساد يشكل دعما للسلاح خارج مؤسسات الدولة الدستورية، والأخير يمثل حاميا للأول. لذلك لا يمكن تفكيك منظومة الفساد من دون مواجهة حازمة للسلاح خارج سيطرة الدولة.

في المنهاج الحكومي، جاءت موضوعة السلاح المنفلت في آخر فقرات المحور الأمني، ما يعكس كونها خارج أولويات الحكومة التي يجب ان تتحمل المسؤولية الأساسية عن معالجتها. بينما يمثل هذا الملف أولوية بالنسبة للقوى السياسية الساعية للتغيير، ولغالبية أبناء الشعب، لما يمثله من تهديد حقيقي لأمن واستقرار العراق.

وينقسم ملف السلاح خارج سيطرة الدولة إلى قسمين، الأول هو المرتبط بالجماعات المسلحة، وهو سلاح سياسي يشكل تهديدا حقيقا لوجود الدولة ولعمل مؤسساتها الدستورية والسلم الأهلي في البلد. وتتطلب معالجته العمل وفق مسارين أحدهما سياسي والآخر أمني وفقا للدستور. اما القسم الآخر فيتعلق بالسلاح المنفلت بيد العشائر وجماعات الجريمة المنظمة.  وهذا الملف الحساس يجب أن يجري التعامل معه باعتباره مظهرا لتهديد أمن المواطنين وسلامتهم. ومن دون معالجته ستبقى اوضاع العراق والعراقيين مرتهنة لمغامرات السلاح المنفلت، ولعبث مالكيه واستخدامه لفرض إرادة ومواقف سياسية. وتتحمل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية مسؤولية استمرار ذلك.

انتهاكات فظة لسيادة العراق

 تتواصل التدخلات الخارجية في الشأن العراقي، فيما تستمر تركيا وايران باعتداءاتهما على حرمة اراضي العراق وسيادته. وقد تمادى الطرفان كثيرا في ذلك، في انتهاك فظ للقانون  والأعراف الدولية وعلاقات حسن الجوار. وهذا التمادي ليس بمعزل عن ضعف الدولة وغياب الارادة السياسية المستقلة وارتهان قوى متنفذة لإرادات خارجية.

ويذهب ضحية هذه الاعتداءات المدانة والمستنكرة مواطنون أبرياء في الإقليم، وتتسبب في ترويع الناس، كما تلحق خسائر مادية بالمؤسسات والمنشآت ومساكن المواطنين، وتعطل الحياة اليومية، وتشكل عدوانا على سيادة العراق وتدخلا سافرا في شؤونه الداخلية.

ويواصل الطرفان المعتديان ذلك بذرائع وحجج واهية، ويحاولان باعتداءاتهما  تحويل الأنظار عما يجري داخل  بلديهما وعن مطالبة شعبيهما المتواصلة بالحريات والحقوق المدنية والانفتاح والديمقراطية، وتلبية التطلعات المشروعة لسائر الفئات والقوميات  فيهما.

ان الحزب الشيوعي الذي يرفض من حيث المبدا أي اعتداء او انتهاك لسيادة العراق واستقلاله والتهديد باحتلال اراضيه، وتحت اية ذريعة كانت ومن أي طرف جاءت، يجدد مطالبة الأطراف كافة باحترام ذلك، وبوقف الاعتداءات العسكرية التركية والإيرانية، وإزالة ما موجود في بلادنا من قواعد . وهو في الوقت ذاته  يتضامن مع الشعوب وحقها الطبيعي في النضال والعمل من اجل تحقيق طموحاتها وأهدافها، ويشدد على أهمية الاحترام المتبادل لسيادة البلدان وحرمة أراضيها.

ان الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم مطالبتان بالعمل على وقف هذه الاعتداءات، بمختلف الطرق الدبلوماسية والاقتصادية والتجارية، والدفاع عن البلد وصيانة حدوده واستقلاله، وتوفير الأمن والاستقرار للمواطنين.

 الزراعة وشُح المياه وتصحر العراق

 بات شح المياه اليوم واقعا في بلادنا وأصاب الجفاف مناطق زراعية واسعة، فيما التقارير تقول أن نسبة التصحر تقترب من ٤٠ في المائة من الأراضي الصالحة الزراعة.

ان مشكلة المياه ليست وليدة اليوم وقد جرى تجاهل لدراسات وطنية ودولية، حذرت من الوصول الى هذه الحالة الآخذة بالتفاقم رغم  هطول امطار هنا وهناك، اشارت تقارير الى ان الاستفادة منها حاليا لا تتجاوز نسبة ٢٥ في المائة، خاصة في محافظات العراق الوسطى والجنوبية.

وجراء النقص الحاد في المياه جرى تقليص المساحات المسموح بزراعتها. فهي في هذا الموسم لا تتجاوز مليونا ونصف المليون دونم ( اُضيف اليها مؤخرا مليون آخر بعد هطول الامطار) اعتمادا على الري السطحي. واُضيفت اليها أربعة ملايين دونم أخرى على ان تروى بالمياه الجوفية المحدودة التجدد أصلا. ولم يُسمح بزراعة الشلب الاّ في مساحات محدودة، للحفاظ على البذور عالية الجودة وبذور العنبر الذي يكاد ان يختفي. وكان سبق لوزارة الزراعة ان أعلنت ان مساحة الأراضي الصالحة للزراعة تبلغ ٢٦ مليون دونم.

وسبّب النقص الحاد في المياه جفاف وتصحر مساحات واسعة، واضرّ بالأهوار وادى الى نفوق آلاف الحيوانات، وأثّر ذلك  بشكل كبير على الأمن الغذائي للبلد. 

ولعل الأمر الآخر المقلق هو فقدان آلاف المزارعين والفلاحين مصدر رزقهم، ما اضطر الكثير منهم الى الهجرة الى مناطق أخرى للبقاء على قيد الحياة وتأمين مصدر عيش بديل. وسيترك هذا من دون شك آثاره العميقة على واقع الريف والقطاع الزراعي، وسيثير نزاعات بشأن المياه والحصول عليها.

من جانب آخر، أخذت تبرز تدريجيا مشكلة عدم وصول المياه في نهري دجلة والفرات الى محطات تصفية الماء الصالح للشرب. كما ان شح المياه سيترك أثره على إمكانية استخدام المياه في توفير الطاقة الكهربائية، على محدوديتها أصلا.

ويقول واقع الحال ان العراق تصعب تسميته الآن بلاد الرافدين. ولذلك أسباب عدة يأتي في مقدمتها عدم حصوله على حصة عادلة من تركيا، المستمرة في تجاهل مصالح العراق وفي عدم الاستجابة لمطالبه المنسجمة مع الأعراف والقوانين الدولية وعلاقات حسن الجوار. فيما الحقت إجراءات ايران ضررا كبيرا بالعراق بتحويلها مجاري عشرات الأنهر والروافد الى داخل أراضيها.

صحيح ان المنطقة عموما تتعرض الى متغيرات مناخية أثّرت عليها بهذا الشكل او ذاك، الاّ انه ليس من العدل والانصاف ان يتحمل العراق وحده عبء ذلك. ومن هنا تتحمل تركيا وايران مسؤولية كبرى عما يحصل اليوم من شح للمياه في بلادنا.

على ان حكومات العراق المتعاقبة تأخرت كثيرا في اتخاذ خطوات احترازية وتحسبية لما يحصل اليوم، والذي حذرت منه جهات عدة، والقادم اصعب. لذا بات ملحا ان تتحرك  الحكومة ومؤسساتها ذات العلاقة في اتجاهات عدة لتأمين حصة عادلة للعراق، وان تتعامل اقتصاديا وتجاريا وسياسيا مع تركيا وايران في ضوء مواقفهما من قضية المياه. وهذا  يتطلب المزيد من الضغط بعيدا عن الحسابات الضيقة، لانتزاع حصة مقبولة للعراق في مياه نهري دجلة والفرات، وان تعيد تركيا  وايران النظر في إجراءاتهما الأحادية الضارة والمؤذية.

ويتطلب ملف المياه ايضا تقديم شكوى دولية وطرح حقوق العراق المائية ومطالبه العادلة من دون تردد. فيما يتوجب داخليا اتخاذ الخطوات اللازمة لتأمين حُسن استخدام المياه وتوزيعها العادل بين المحافظات، ومنع تسلط المتنفذين عليها، والاستثمار الفاعل لما موجود منها، وتنمية المياه الجوفية، وضمان الاستفادة القصوى من مياه الامطار واستخدامها الواسع في الزراعة، واستخدام تقانات الري الحديثة، وتفعيل الارشاد والتوعية بما يحصل، وان يتحمل المواطن أيضا مسؤوليته في ترشيد الاستخدام والاستهلاك.

وفي هذه الظروف الحرجة يتوجب على الحكومة تقديم كل اشكال الدعم والاسناد للمزارعين والفلاحين، ومنهم أيضا من اضطر الى ترك ارضه والهجرة منها  تحت ضغط الجفاف.

 واقع بيئي  ينذر بمخاطر جمة 

 رغم ان العراق انضم الى اتفاقية باريس للمناخ عام ٢٠٢٠ ، وتم تشريع ذلك بالقانون رقم ٣١ لسنة ٢٠٢٠، وتأسيس وزارة البيئة، الاّ ان إجراءات الحكومات المتعاقبة لم ترتق الى مستوى التحديات البيئية  الكبيرة التي يواجهها العراق، الذي عُدّ من بين اكثر الدول تضررا من تغير المناخ.   واضافة الى المشاكل والكوارث البيئية المزمنة والمتراكمة المعروفة، فان ظواهر جديدة قد فاقمت الوضع البيئي المتدهور أصلا، وبات ذلك يشكل تهديدا جديا للعراق حاضرا ومستقبلا. ومما استجد تفاقم ظاهرة شح المياه وحالة الجفاف والتصحر واختفاء الاهوار وتقلص المساحات الخضراء، كذلك البناء العشوائي على حساب المناطق الخضراء والأراضي الزراعية التي يجري تغيير جنسها لصالح البناء السكني، كذلك المستويات  العالية لتلوث الهواء.

ان مضار هذا التدهور، الذي لا نشهد اية محاولات جادة للحد منه على الأقل، عديدة ومتنوعة وخطرة على الانسان وصحته، وعلى نقاوة الهواء والانهار والمياه الجوفية، وما يتسبب فيه من خسائر اقتصادية.

لذا بات ضروريا تبني استراتيجية وطنية شاملة لمواجهة التداعيات البيئية الحاصلة، وتخصيص الأموال والكوادر المؤهلة لذلك، والإقدام على خطوات جريئة لتطبيق القوانين والتعليمات ذات العلاقة. 

آفاق الحراك الاحتجاجي ومساره

 شهد مسار الحراك الاحتجاجي خلال الأشهر الماضية صعودا وهبوطاً، وارتبط هذا لحد كبير بتطورات الاحداث السياسية.

واستثمرت القوى المناهضة للحراك حالة عدم  التوافق  بين مجاميع الاحتجاج وحراكاته،  وسعت الى تفكيك قواه مستخدمة أساليب رخيصة وخبيثة لإضعافه ووأده.

فقد انتشرت الحملات الدعائية المعادية للمتظاهرين، وعملت على ابراز خلافاتهم وتشويه سمعة بعضهم وشراء ذمم غيرهم، وإطلاق الشائعات الواحدة تلو الأخرى.

كما استخدمت أساليب الترهيب الدنيئة لتخويف المحتجين من تداعيات مواصلة نشاطهم، التي قد تصل إلى الصدام المسلح! فضلاً عن قطع الطرق وفرض إجراءات امنية مشددة لعرقلة الحراك.

وانعكس الانقسام لاحقاً بشكل واضح على حالة الحراك، وظهر هذا جليا في وقفات استذكار انتفاضة الأول من تشرين، حيث تعددت الساحات وتنوعت الشعارات، ما دفع بقوى شعبية واسعة الى العزوف عن المشاركة فيها.

لكن ذلك لا يعني، بأية حال، انتهاء  الحركة الاحتجاجية. فهي ليست حالة ارادوية ورغبوية، بل هي نتيجة حتمية لتدهور الأوضاع العامة في البلد، لا سيما الاقتصادية والمعيشية.

ومثال ذلك عودة تنسيقيات موظفي العقود وغيرها من الفئات والشرائح الاجتماعية المتضررة والمهمشة، الى الاحتجاج بعد تشكيل الحكومة مباشرة.

لذا فإن الرهان على وأد الحركة الاحتجاجية ومنع تطورها، هو في الأساس رهانٌ خاسر. وان حالة الفتور التي تمر بها القوى الشعبية للاحتجاج ليست إلاّ حالة ترقب لسياسات الحكومة الجديدة، وبالأخص مراهنة البعض على قدرة رئيس مجلس الوزراء على الإفلات من طوق المحاصصة، وتجاوز الحدود المرسومة من قبل قوى الاطار التنسيقي وتحالف ادارة الدولة ككل، والشروع في تحقيق إصلاحات جوهرية.

ان الحراك الاحتجاجي في العراق ليس حراكا مطلبيا وحسب، بل هو في جوهره أحد أوجه الصراع الاجتماعي والطبقي . حيث أن قوى الاحتجاج الشعبية، ادركت أن جوهر القصور في مسار تقدم البلد، هو منظومة الحكم المستندة إلى المحاصصة، والمنتجة للفساد، والمتخادمة مع السلاح السياسي المنفلت، وما تمثله تلك المنظومة من مصالح اجتماعية وطبقية، تعتاش على نهب ثروات البلد وإفقار غالبية أبناء شعبه.

وفي هذا الشأن، يمكن استخلاص عدة دروس نوجزها في الآتي:

  • التشديد على سلمية الحراك الاحتجاجي، وعدم الانجرار وراء دعوات التصعيد والتعرض للمؤسسات والممتلكات العامة والخاصة.
  • توحيد الأهداف والشعارات بين جميع قوى الاحتجاج، والتأكيد على المطالب الرئيسية التي رفعتها انتفاضة تشرين.
  • ادراك العديد من تنسيقيات الحراك الاحتجاجي أهمية التعاون والتنسيق مع بعضها، ومع القوى الاخرى المعارضة لمنظومة المحاصصة والفساد. لذا بات ضروريا توسيع دائرة اللقاءات والتشاور والتنسيق وصولا إلى توحيد الجهود والعمل المشترك.
  • حث كل العاملين والداعين لمشروع التغيير الديمقراطي الشامل، على السعي لتجذير وسائل واهداف الحراك الشعبي، وتنظيمه، وإعاقة محاولات التراجع عنه.
  • عدم الاعتماد على التظاهرات والوقفات الاحتجاجية فقط، بل وابتكار اشكال أخرى من الاحتجاج السلمي.
  • مواصلة الضغط الشعبي لانتزاع الحقوق وفرض الإجراءات الحقيقية السليمة، وتحقيق ما تصبو اليه غالبية المواطنين.

مشروع التغيير .. وآفاقه

 في ظل الظروف الراهنة المعقدة التي يمر بها بلدنا، ومع إعادة انتاج  قوى المحاصصة لنفسها بطرق بعيدة عن الديمقراطية الحقة، يصبح مشروع التغيير حاجة ماسة، وضرورة وطنية مستعجلة.

ومن أجل ذلك سعى الحزب ومعه القوى المدنية والديمقراطية والأحزاب الناشئة إلى تنسيق المواقف والفعل السياسي، تحت مظلة سياسية تحمل اسم: قوى التغيير الديمقراطية.

وان أمام هذا المشروع السياسي الفتي، الذي يركز على توجه متكامل  للخلاص من منظومة المحاصصة والفساد، فرصة كبيرة لخلق بديل سياسي ديمقراطي، يجمع أوسع استقطاب شعبي وجماهيري.

وازاء التحديات الراهنة المتمثلة بوجود حكومة محاصصة، وبرلمان غير فاعل ويفتقر الى الشرعية الشعبية، وأزمات سياسية واقتصادية واجتماعية وأمنية، وتفشٍ للفساد وللسلاح المنفلت، وتغليب لأعراف وتقاليد ابتدعتها قوى سياسية متنفذة على حساب روح الدستور ومواده ومبدأ المواطنة، يتوجب ان يدرك أصحاب مشروع التغيير الشامل، أن توحيد صفوفهم ليس ترفاً، او عاملا ثانويا، وانما هو حاجة ملحة لتغيير موازين القوى الراهنة.

وهنا يتوجب العمل على تنظيم الصفوف بالنسبة للقوى السياسية والحركات الاحتجاجية والمجتمعية، وبناء تصور متكامل حول آليات التغيير ومساراته، والشروع  في التنفيذ.

ان الوضع في العراق ليس مغلقاً او محكوماً بمعادلة المحاصصة، بل ينطوي على أفق للتغيير، حيث ان الغالبية الساحقة من أبناء شعبنا متضررة من منظومة الحكم الحالية، وتريد الخلاص منها وبناء الوطن على أسس الدولة المدنية الديمقراطية والمواطنة والعدالة الاجتماعية.

 تطورات الوضع الدولي

 يشهد العالم وضعا مضطربا وتوترات حادة جراء الحرب بين روسيا واكرانيا التي مضى على اندلاعها ثمانية أشهر، ولا يوجد مؤشر لانتهائها في القريب. وذلك ما أدى الى اكبر تهديد للسلم العالمي والبشرية، والى تحديات جسيمة هي الأخطر منذ الحرب العالمية الثانية ونهاية الحرب الباردة. وتجلى ذلك على نحو صارخ في التلويح باستخدام الأسلحة النووية. 

ولم يعد الصراع محصورا بروسيا واوكرانيا، فقد اتسع ليتحول الى حرب بالوكالة تخوضها الولايات المتحدة وحلفاؤها في حلف الاطلسي مستخدمة اوكرانيا ضد روسيا، لاستنزافها عسكريا واقتصاديا ومحاصرتها عبر فرض العقوبات المشددة، وتقديم الدعم العسكري والمالي الضخم لنظام كييف لإدامة القتال وعرقلة أي مساع للتفاوض والتوصل الى تسوية سلمية، تضع حدا للخسائر البشرية والمادية التي يتحمل شعبا البلدين عبئها الأساسي. وكما جرى التحذير سابقا فان هذه الحرب مكّنت واشنطن من فرض هيمنتها سياسيا واقتصاديا على اوربا، وتوسيع نطاق حلف الاطلسي والتمهيد لانضمام السويد وفنلندا اليه، وزيادة الميزانيات العسكرية لأعضائه، وتغيير عقيدة السياسة الخارجية لألمانيا، المعتمدة منذ الحرب العالمية الثانية والتي تحظر تسليمها السلاح الى مناطق النزاعات، والتوجه الفعلي لإنهاء اعتماد اوروبا على الغاز والنفط الروسيين. 

في هذا السياق، سلطت استراتيجية الأمن القومى الأمريكي الجديدة، التي اعلنتها ادارة بايدن الشهر الماضي، الضوء على جوانب مهمة من الاهداف التي تسعى لتحقيقها على الصعيد العالمي، والتي تتجاوز الاهداف قصيرة المدى ذات الصلة بالحرب في اوكرانيا والمواجهة مع روسيا.

فقد اكدت هذه الاستراتيجية ان الهدف الرئيسي للولايات المتحدة يتمثل فى «التفوق على الصين وكبح جماح روسيا»، كاشفة عن كونها تسعى للإبقاء على هيمنتها على النظام الدولى. كما دعت إلى إقامة شراكات عسكرية واقتصادية مع الحلفاء، لمواجهة الخصوم، وتحديدا روسيا والصين، ومراجعة «العولمة» لضمان عدم استمرار تحقيق الصين منافع اقتصادية أكبر على حساب الولايات المتحدة.

وتؤكد وثيقة الاستراتيجية هذه انها ستعطي الأولوية لمواجهة تفوق الصين واحتواء صعودها، معتبرة اياها التحدي الجيوسياسي الأكثر اهمية لامريكا والمنافس الوحيد على المستوى العالمي، الذى ينوي إعادة رسم النظام الدولي كليا، ولديه القدرات الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية للقيام بذلك. كما تعكس إصرار واشنطن على مدّ مناطق نفوذها إلى كل ارجاء العالم، بما فيها مناطق الجوار المباشر للصين وتحديدا في المحيط الهادىء. وحددت الوثيقة بعض السياسات التي ستتبعها، ومن ضمنها العمل على منع توحيد الصين وتايوان، والتهديد، كما جرى مؤخرا، بالتدخل للدفاع عن تايوان عسكريا.

وفي الجزء الخاص بالشرق الأوسط، دعت الإستراتيجية إلى «شرق أوسط أكثر اندماجا» من شأنه أن يقلل على المدى البعيد من «مطالب الموارد» من الولايات المتحدة التي وفرت حماية للدول المنتجة للنفط على مدار عقود.

كما أكدت، ضمن «مبادىء» تحكم سياسة واشنطن في المنطقة، انها لن تتسامح مع الجهود التي تبذلها أية دولة للسيطرة على دولة أخرى - أو المنطقة - من خلال الحشود العسكرية أو التوغلات أو التهديدات.

وساهم الصراع الروسي - الاوكراني بتأجيج هستيريا الحرب ودعم الحركات اليمينية المتطرفة والشعبوية والنزعات العنصرية والفاشية. وهو ما تجلى في التقدم الذي حققته تلك القوى في بعض البلدان الاوربية، جراء الأزمات الاقتصادية التي تعصف بها ومأزق أنظمتها الديمقراطية وتخلف أحزابها السياسية.

ففي ايطاليا فاز تحالف الفاشيين الجدد واليمين المتطرف في الانتخابات العامة، التي جرت في ايلول الماضي. ولأول مرة، منذ عام 1945، تولى هذا التحالف الحكم في دولة كبيرة في الاتحاد الأوروبي.

وفي السويد فازت كتلة اليمين واليمين الشعبوي المتطرف في الانتخابات التشريعية في ايلول الماضي. وتمكن حزب «ديمقراطيو السويد»، المتطرف ذو الجذور النازية، من  زيادة عدد ناخبيه الى 20.5  في المائة.

وساهمت الحرب وتداعياتها في تعميق الأزمة الاقتصادية والمالية للنظام الرأسمالي، وتزايد مؤشرات دخول الاقتصاد العالمي، الذي لم يتعاف بعد من تداعيات أزمة جائحة كورونا، فترة ركود وانكماش اقتصادي يتوقع ان تكون الأسوأ منذ 50 عاما، وان تفوق في آثارها الأزمة المالية في 2007- 2008. وتجاوز معدل التضخم 6 في المائة  في أكثر من 80  في المائة  من بلدان العالم. ومن المتوقع أن يفوق في العام المقبل معدلات العام الحالي.

وحسب برنامج الأمم المتحدة الانمائي ألقى ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة 71 مليون شخص في أنحاء العالم في أتون الفقر خلال الأشهر الثلاثة الأولى من الحرب. وكانت دول منطقة البلقان ودول جنوب الصحراء في أفريقيا الأشد تضررا. وتوقعت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (فاو) معاناة نحو 181 مليون شخص في 41 دولة من أزمة الجوع هذا العام.

وبعد فترة اتسمت بالتردد والانقسامات في مواقف اليسار الاوربي، تصاعدت الحركات المناهضة للحرب والمدافعة عن السلام العالمي، مطالبة بوقف الحرب الروسية – الاوكرانية فورا والتوصل الى تسوية سلمية.

وشهد الاتحاد الاوربي اتساع الحركات الجماهيرية ضد الهجمة الرأسمالية الشرسة على حقوق الشغيلة، واحتجاجا على تدهور الاوضاع المعيشية وإفقار قطاعات واسعة من السكان، مع ارتفاع اسعار الطاقة والغذاء وتراجع الخدمات الأساسية وخفض الانفاق العام، فيما يرتفع الانفاق العسكري على نحو غير مسبوق وتُخصص مئات المليارات من الدولارات لإدامة الحرب الدائرة في اوكرانيا. وتلعب النقابات والحركات الاجتماعية وقوى اليسار، ومن ضمنها الاحزاب الشيوعية، دورا حيويا في هذه الحركات الاحتجاجية المتنامية. وتطالب بتحميل الشركات الكبرى والفئات الأكثر ثراء تكاليف أزمة الطاقة والخدمات الاجتماعية.

في هذه الاجواء عُقدت الشهر الماضي في اثينا الدورة السادسة لـ»المنتدى الأوربي للقوى التقدمية»، الذي يلعب حزب اليسار الأوربي دورا رئيسيا في تنظيمه، ويمثل فضاء لحوار جدي يجمع قوى اليسار الراديكالي بالعديد من القوى التقدمية وبعض أحزاب الخضر والنقابات العمالية والمنظمات غير الحكومية والمبادرات والمعاهد. وهي تتميز بامتلاك رؤية نقدية للتطورات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في أوروبا. وأكد المشاركون ضرورة الإنهاء السريع للحرب في أوكرانيا وإنشاء بنية أمنية أوروبية جديدة، كذلك مناقشة كيفية تجاوز عواقب الحرب وجائحة كورونا. ونصّت خطة العمل التي تبناها المنتدى على دعم الحملات من أجل حقوق المرأة، ومكافحة تغير المناخ والتصدي لمحاولات تحميل السكان اعباء الأزمة، وقيام مراكز البحوث والعمل الفكري بمعالجة مسألة عودة ظهور الفاشية في أوروبا.

وفي امريكا اللاتينية، حققت قوى اليسار انتصارات مهمة في الاشهر القليلة الماضية. وكان من ابرزها انتخاب أول رئيس يساري في كولومبيا (غوستافو بيترو)، رغم ان تحالفه اليساري لا يتمتع بأغلبية في الكونغرس وستواجه سياساته مقاومة كبيرة من الأوليغارشية والقوات المسلحة والشركات متعددة الجنسيات. ويعني تشكيل الحكومة الجديدة أن واشنطن خسرت أهم حلفائها في هذه المنطقة. 

وفي البرازيل اُنتخب لولا دا سيلفا، الشخصية الأبرز في اليسار، رئيسا للمرة الثالثة بعد معركة انتخابية صعبة، وفي جولة الانتخابات الثانية التي جرت في نهاية الشهر الماضي. واظهرت النتائج تعمق الانقسام السياسي في البلاد، ما يشكل تحديات كبيرة أمام لولا وفريقه الحكومي.

في تشيلي، رفضت اغلبية (62 في المائة) من الناخبين في ايلول الماضي مسودة دستور جديد تقدمية، بعدما كانت أغلبية ساحقة صوتت في استفتاء عام في 2020 لصالح إقرار دستور يكون بديلا لدستور الدكتاتور بينوشيه. واعتبر اغلبية انصار الدستور الجديد ان الرفض جاء للنص المقترح وليس للمطالبة بإقرار دستور بديل. واكدت احزاب تحالف اليسار، ومن ضمنها الحزب الشيوعي، المضي تحت قيادة رئيس الجمهورية غابرييل بوريك، لوضع دستور جديد للبلاد. ودعت الى بذل جهد كبير من اجل الحوار الديمقراطي مع جميع الأطراف السياسية والاجتماعية لتحقيق هذا الهدف، وأكدت التزامها بذلك.

- وشهدت هافانا في الفترة من 27 الى 29 تشرين الاول 2022 انعقاد الاجتماع العالمي الـ22 للأحزاب الشيوعية والعمالية، وقد شارك فيه 145 مندوبا يمثلون 78 حزبا شيوعيا وعماليا من 60 بلدا، من ضمنهم الحزب الشيوعي العراقي. وحذر البيان الختامي للاجتماع من الوضع الخطير الذي تجد البشرية نفسها فيه، معتبرا ان الهيمنة الحالية للإمبريالية تشكل نظاما دوليا غير عادل وغير مستدام، وتشدد الاستغلال وتزيد من سوء اوضاع الطبقة العاملة والشعوب، وتؤدي إلى تزايد الصراعات والعداوات والحروب، وتعيق حل المشاكل العالمية. ودعا البيان الى تعزيز وحدة القوى المناهضة للامبريالية، والعمل الى جانب الحركات الاجتماعية والشعبية،في مواجهة الرأسمالية وسياساتها وخطر الفاشية والحرب، دفاعا عن السلام والبيئة وحقوق العمال، ومن اجل التضامن والاشتراكية. كما أكد التضامن والدعم للشعب الكوبي ولنضاله من أجل الرفع الفوري للحصار الاقتصادي الامريكي الجائر والإجرامي المفروض عليه منذ أكثر من 60 عاما.

 التغيّر المناخي

 في مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي 2022 (كوب27)، الذي عقد مطلع الشهر الحالي في شرم الشيخ بمصر، طالبت الدول النامية بتنفيذ الالتزامات التي تعهدت بها الاقتصادات المتقدمة في مؤتمرات سابقة، بمساعدة المجتمعات الأكثر احتياجا وفقرا والتي تواجه اكبر الآثار البيئية والاجتماعية والاقتصادية لتغير المناخ، وبتوفير التمويل للمشاريع التي تساهم في التصدي له. ورغم الاتفاق على انشاء صندوق لهذا التمويل، فشل المؤتمر في وضع خطة تخفض بشكل جذري الانبعاثات المسؤولة عن الاحترار المناخي.

تطورات المنطقة والبلدان العربية

 هددت الحرب الروسية - الاوكرانية بحدوث أزمة إمدادات غذائية في بلدان الشرق الاوسط، ومنها البلدان العربية، بسبب الاضطرابات الشديدة في سلاسل التوريد والارتفاع الكبير في أسعار الطاقة والغذاء، خصوصا القمح. وكان اعلاها في لبنان (75-100 في المائة)، تليها إيران واليمن (50-75 في المائة). فيما ارتفعت الأسعار في بلدان اخرى بنسبة 25-50 في المائة.

لكن هذه التطورات المتعلقة بانعدام الأمن الغذائي تؤشر أيضا مشاكل هيكلية في المنطقة. فقد تخلى العديد من بلدان المنطقة، منذ الثمانينات، عن سياسة الاكتفاء الذاتي في المنتجات الزراعية والدعم الحكومي للقطاع الزراعي، لصالح الاعتماد المتزايد على السوق العالمية. وأدت سياسة الليبرالية الجديدة، التي تُنفذ تحت غطاء الانفتاح، إلى تدهور كبير في الظروف المعيشية لسكان الريف. ولم تتمكن أعداد كبيرة من الفلاحين وصغار المزارعين من منافسة البضائع المستوردة واضطروا للتخلي عن أراضيهم والهجرة الجماعية الى المدن الكبرى. 

وتتصاعد الجرائم البشعة التي ترتكبها قوات الاحتلال الاسرائيلي وعصابات المستوطنين الصهاينة بحق الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية والقدس، في ظل تواطؤ مفضوح من الولايات المتحدة الامريكية وحلفائها، ومعها الدول العربية التي انخرطت في التطبيع المشين والمذل مع اسرائيل. ولقي العدوان الغاشم على قطاع غزة  في آب الماضي ادانة عالمية واسعة. وفيما أكد حزبنا الشيوعي ادانته لهذا العدوان وتضامنه مع النضال البطولي للشعب الفلسطيني لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي وانتزاع حقوقه المشروعة في العودة واقامة دولته الوطنية المستقلة على أرض وطنه وعاصمتها القدس، دعا الى تعزيز وحدة الفصائل الوطنية الفلسطينية باعتبارها عاملاً أساسيًا في تصعيد المقاومة الشعبية ضد الاحتلال ودحره.

وفي لبنان، وبعد اعلان الحكومة  الشهر الماضي التوصل الى اتفاق مع اسرائيل بوساطة امريكية لترسيم الحدود البحرية، أكد الحزب الشيوعي اللبناني ان ثروة البلاد النفطية والغازية ملك للشعب، وليست ملكاً للمنظومة السلطوية الفاسدة العاملة على نهبها مع رعاتها الدوليين، مثلما نهبت المال العام. ودعا الى اعلان الاتفاقية أمام الشعب اللبناني من أجل الاطلاع عليها ومناقشتها في المؤسسات الدستورية ومع الرأي العام.

وفي السودان، تواصل السلطة العسكرية الانقلابية مناوراتها ومحاولاتها للتشبث بالسلطة، فيما تمارس العنف المفرط لقمع الحركة الاحتجاجية وتواصل حملة الاعتقالات وتعذيب الناشطين. ويدعو الحزب الشيوعي السوداني الى مواجهة هذه السياسات بتصعيد العمل والنضال الجماهيري، وتأكيد الاهداف الرئيسية للثورة في الحرية والسلام والعدالة، من اجل انتزاع سلطة الشعب وبناء الحكم المدني الديمقراطي.

في تونس وجهت قوى المعارضة انتقادات شديدة الى الرئيس قيس سعيد بسبب الدستور الجديد الذي أقر في استفتاء في تموز الماضي، وغيّر فيه النظام السياسي للبلاد من شبه برلماني إلى رئاسي، وتفرد بالكثير من الصلاحيات، التي وصفتها تلك القوى بـ»الدكتاتورية الجديدة».

وحذّر الاتحاد العام التونسي للشغل الحكومة مؤخرا من الاستمرار بسياساتها التي تنذر بانفجارات اجتماعية كبرى، مشيرا الى غياب الإرادة لحل الأزمة السياسية، والى التفرد بالقرار. ودعا السلطات إلى احترام الحقوق والحريات ووقف اللجوء إلى الحلول الأمنية. فيما حذرت قوى سياسية اخرى من أن تؤدي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية إلى العزوف عن الانتخابات، التي تقرر اجراؤها في 17 كانون الأول الجاري.

وفي ايران، تفجرت في ايلول الماضي موجة احتجاجات واسعة في ارجاء البلاد إثر وفاة الشابة الكردية الإيرانية مهسا أميني أثناء احتجازها من قبل الشرطة  بتهمة ارتداء الحجاب «بصورة غير لائقة». وقتل العشرات من المتظاهرين بعد ان فتحت قوات الأمن النار، واُعتقل المئات. واعتبرت هذه الاحتجاجات اكبر تحد للنظام منذ قيام الجمهورية الاسلامية في 1979.

من جهة أخرى، لا توجد مؤشرات حتى الآن الى احتمال استئناف المفاوضات لاحياء الاتفاق النووي للعام 2015 قريبا، بعد وصولها الى طريق مسدود في مطلع ايلول الماضي. وكانت مصادر توقعت استئنافها بعد انتهاء انتخابات التجديد النصفي للكونغرس الامريكي.

 تحديات ومهمات

 ان الظروف الراهنة التي يمر بها بلدنا وانعكاسات التطورات الإقليمية والدولية، والتحديات الجمة التي تواجه شعبنا وبلدنا  تتطلب منا نحن الشيوعيين العمل بهمة ونشاط للارتقاء بدور الحزب ومنظماته ورفاقه وجمهرة أصدقائه، وتعبئة القوى والتحرك الفاعل والنشط والدؤوب لبناء منظمات حزبية قوية جماهيرية متماسكة، ومد جسور التعاون والتنسيق مع مختلف الفئات والشرائح الاجتماعية، ومع العمال والفلاحين والنساء والطلبة والشباب ، وشغيلة اليد والفكر، وجميع  المتضررين من تسلط منظومة المحاصصة والفساد والسلاح المنفلت. كما يتوجب على منظمات الحزب ورفاقه التهيئة والاستعداد لانتخابات مجلس النواب ومجالس المحافظات بما يضمن مشاركة فاعلة فيها.

وتلقي هذه التحديات أيضا على عاتق الشيوعيين وقوى التيار الديمقراطي، وسائر القوى المدنية والديمقراطية، وقوى الحراك التشريني، وجميع المناضلين والعاملين من اجل التغيير الشامل مهمة العمل المتواصل والحثيث لبناء حركة احتجاجية وشعبية معارضة منظمة وقوية، والتحرك معا بآفاق واضحة المعالم والأهداف لتغيير موازين القوى، ودحر منظومة نهج المحاصصة وكسر احتكار السلطة وبناء اصطفاف وطني وديمقراطي واسع،  يغذ السير الى امام على طريق التغييرالشامل، وبناء البديل الوطني الديمقراطي ودولة المواطنة والمؤسسات والقانون والعدالة الاجتماعية.