اطلقت جهات سياسية عدة، رسمية وغير رسمية، في الفترة الأخيرة، دعوات الى حوار وطني، تضمنت مناشدات الى مختلف الأطراف السياسية والى قوى انتفاضة تشرين، للقاء والتحاور من دون تحديد للقضايا التي يجري التباحث والتحاور بشانها، خاصة مطالب غالبية الناس. فهل هي تشكل مشتركات عند القوى التي تطلق دعوات الحوار وتلك المدعوة اليه ؟!
وإذ لا يمكن الاعتراض من حيث المبدأ على فكرة الحوار وتدشين لقاءات بين مختلف القوى السياسية العراقية، أحزابا وشخصيات، فان تلك الدعوات اثارت الكثير من التساؤلات المشروعة عن أهدافها ومراميها، كذلك عن توقيتها، لا سيما منها التي جاءت من جهات حكومية او من قوى ماسكة بالسلطة والقرار منذ ٢٠٠٥ حتى وقتنا الراهن .
ويتساءل المواطن، كما نتساءل نحن، عما اذا كانت القوى المتنفذة تحتاج الى حوار في ما بينها والى دعوة بعضها للقاء والتشاور، وهي التي تلتقي على صعد عدة سواء كانت في الحكومة او في مجلس النواب او غيرهما، حتى لا يكاد يمر قرار في الدولة الا وهو يحمل بصماتها.
والشيء اللافت ان هذه الدعوات توجه الى الجميع، وفِيهم من هو مسؤول عما آلت اليه أوضاع البلد وما حصده شعبنا من مآسٍ وكوارث، بل وتحوم حول بعضهم شبهات فساد، كما تعلن ذلك الجهات الرسمية ذاتها او بعض القوى في لحظات احتدام صراعاتها وتدافعها على مصالحها ونفوذها، وعلى تقاسم مناصب الدولة في المركز والمحافظات.
من جانب آخر وكما هو معروف، فان الحكومة الحالية جاءت بعد انتفاضة تشرين المجيدة التي فرضت الاستقالة على الحكومة السابقة، كما فرضت مفردات في برنامج الحكومة الحالي، خاصة ما يتعلق بكشف قتلة المتظاهرين وتعويض عوائل الشهداء، ووقف عمليات الاغتيال وتوفير الحماية للمحتجين والمنتفضين السلميين، والشروع في حملة جادة لمكافحة الفساد والفاسدين، واطلاق برامج ومباشرة خطوات ملموسة لرفع المعاناة عن غالبية الشعب العراقي، وتحسين الخدمات وتوفير فرص العمل ومستلزمات العيش الكريم. هذه القضايا وغيرها ما زالت الحركة الاحتجاجية تنتظر تحقيقها، فضلا عن ان دماء زكية جديدة قد اهدرت، واستمرت ملاحقة الناشطين وعمليات الاغتيال والتغييب القسري من دون رادع او كشف للجناة وملاحقتهم فعلا وتقديمهم الى المحاكم.
ان اية دعوة لحوار جاد لا بد ان تسبقها معالجة هذه الأمور وغيرها، ما يبعث رسائل ثقة واطمئنان الى وجود رغبة جدية في الانتقال الى أوضاع مختلفة، وتدشين مسيرة جديدة في حياة البلد ينتظرها المواطنون بفارغ الصبر.
فالانتفاضة وقواها الحية وضعت اهدافا ورسمت توجهات ترتبط وثيقا بعملية التغيير المنشود، والذي يراد له ان يكون تغييرا في منهج الحكم والأداء ونمط التفكير، وفي السياسات المتبعة التي ثبت للمرة المليون فشلها على مختلف الصعد. فهل القوى التي تدعو الى الحوار جادة في وضع قضية التغيير على الطاولة للنقاش والتداول، ام يراد من الدعوات حرف الانتباه عن مسؤولية ما آل اليه وضع البلد، وعبور حالة الاختناق التي يعيشها عدد من تلك القوى، والوضع الذي وجدت فيه نفسها بفعل سياساتها ومنهجها وتصرفاتها وسوء ادارتها وتبديدها المال العام، وعدم استثمار الموارد الضخمة التي حصل عليها البلد وأهدرت من دون تحقيق تنمية حقيقية، فيما تستمر معاناة الناس على مختلف الصعد؟!
وهناك عناوين أخرى تستقطب اهتمام المواطنين: السلاح المنفلت وحالة عدم الاستقرار، توفير الفرص المتكافئة لهم وعدم التمييز بينهم لاي سبب او ذريعة، وان تكون هناك مراجعة شاملة لمنظومة الحكم في اتجاه الخلاص من المحاصصة بكافة عناوينها، وتوفير قدر من العدالة الاجتماعية.
ان حوارا جادا ومسؤولا لابد ان يأخذ كل ذلك بعين الاعتبار، وان تتشكل الاصطفافات في ضوئه، وان يكون هناك وضوح في التوجه نحو القطيعة مع حالة اللادولة والسلاح المنفلت، الى جانب الخلاص من منظومة المحاصصة والفساد، وضمان سيادة البلاد واستقلالها وقرارها الوطني المستقل، وان يكون هذا الوضوح نقطة انطلاق نحو دولة المواطنة، دولة المؤسسات والقانون والعدالة الاجتماعية، الدولة المدنية الديمقراطية.