يعاني بلدنا من ازمة اقتصادية ومالية متراكمة، فاقمها تفشي وباء كورونا وشحة وارادات النفط الخام المصدر، جراء انخفاض أسعاره عالميا وانخفاض انتاجه.

وهي ازمة مرتبطة بمجمل النهج الذي سارت عليه إدارة الاحتلال والحكومات العراقية التي اعقبته، وبسوء إدارة الدولة ومؤسساتها وغياب الإدارة الاقتصادية والمالية السليمة، وتفشي الفساد وعدم الكفاءة وعدم وضع الشخص المناسب في المكان المناسب، وما ارتبط بذلك كله من هدر للاموال والوقت،  وضياع فرص ثمينة للتنمية وللانطلاق الفعلي لعملية إعادة الاعمار والبناء والاستثمار والسير على طريق التنمية المستدامة.

وفِي هذه الأيام وارتباطا بضغط الواقع وبدوامة البحث عن موارد لتامين الحد الأدنى من متطلبات إدارة شؤون الدولة والمصاريف الحاكمة، كذلك تأمين رواتب الموظفين والمتقاعدين والمستفيدين من الرعاية الاجتماعية، يجري  الحديث من قبل الحكومة ومجلس النواب عن الإصلاح الاقتصادي والمالي. واقترنت مصادقة مجلس النواب على قانون يخول الحكومة الاقتراض الداخلي والخارجي، بشرط تقديم ورقة لهذا الإصلاح  في غضون ٦٠ يوما.

ولا يخفى ان العديد من المفردات التي يتحدث بها  ممثلو السلطة التنفيذية والنواب اليوم،  ويقولون بضرورة ان تشملها عملية الإصلاح، معروفة ومشخصة منذ مدة، بل ومتداولة من حكومة الى أخرى. وفيما  تتعالى الأصوات في هذا السياق ينشر العديد من التقارير التي تتحدث عن استمرار وتفاقم  القضايا ذاتها التي يراد معالجتها، ومنها مثلا الفساد في المنافذ الحدودية والجمارك وجباية أجور الكهرباء والبطاقة التموينية ، وملفات التعيين التي شملت أيضا  ما ذكر عن حصص حتى لبعض النواب، ووصل الامر الى تهم فساد ذات علاقة بتوفير مستلزمات التصدي لوباء كورونا  .

فكل هذا وغيره  معروف ومتداول، ولَم تتم معالجته على مدى ١٧ عاما،  فاين الخلل ولماذا تاخرت المعالجة طوال هذه الفترة الزمنية ؟ هذا ما يتوجب التصدي له بجرأة، وقول الحقيقة كاملة وبشفافية .

إن ما نشهد اليوم من أزمات متفاقمة ينبغي مواجهته برؤية إستراتيجية متكاملة،  وليس بمنطق إدارة أزمة عابرة تتطلب حلولا آنية، لا سيما وأن الكثير منها من شأنه أن يزيد معاناة قطاعات شعبية واسعة، وارتهان الدولة للقروض الداخلية والخارجية.

وفي رأينا ان عملية اصلاح الوضع الاقتصادي والمالي المراد تدشينها، لا يمكن فصلها عن الإصلاح السياسي،  عن اصلاح الدولة ومؤسساتها والتخلي العملي والفعلي عن الأسباب التي قادت الى ما نحن عليه اليوم،  وفي المقدمة  المحاصصة الطائفية – الاثنية . وهذا يتطلب في الأساس  توفر إرادة سياسية حقيقية، والاقدام على تهيأة مستلزمات اجراء انتخابات مبكرة عادلة ونزيهة، تعالج  تركيبة مجلس النواب. فالعديد من أعضائه الحاليين  هم من ذات الكتل والأحزاب الحاكمة والمتنفذة التي تحكمت بالقرار منذ ٢٠٠٣ ، وهي المسؤولة أساسا عما حصل ويحصل .

نعم، الإصلاح الاقتصادي والمالي مطلوب وبالحاح، ولكن عن أي اصلاح يجري الحديث؟ هذا ما يتوجب توضيحه. ومع أهمية المعالجات الآنية ذات العلاقة مثلا بتأمين الرواتب وتأمين الأموال للتصدي لجائحة كورونا ومكافحة الإرهاب، فاننا  نتحدث عن اصلاح شامل هو سياسي أولا وبامتياز،  وان يذهب ذلك بعيدا الى معالجة الخلل في بناء الدولة، وفِي الاقتصاد وتخليصه من طابعه الريعي وتعدد مصادر التمويل، وتفعيل القطاعات الإنتاجية والخدمية والإصلاح الإداري، ومكافحة الفساد والتخلص من الترهل والنفقات غير الضرورية، ومن سياسة اغداق الامتيازات والهبات والمكرمات ووضع سلم عادل للرواتب ومعالجة ازدواج الرواتب و"الفضائيين " ووضع الشخص المناسب في المكان المناسب،  ورفع سطوة الفصائل المسلحة والمتمردة على الدولة وانهاء السلطات الموازية، والسير على طريق تفكيك الدولة العميقة التي تقف ومن وراءها بالمرصاد لاية عملية اصلاح  جادة .

فالمطلوب هو ان تكون حزمة الإصلاحات المقترحة جزءا من منهج متكامل، يفضي في نهاية المطاف  الى الخلاص من منظومة الفساد والمحاصصة، والى بناء دولة المواطنة والمؤسسات والقانون والديمقراطية الحقة والعدالة الاجتماعية.

ويبقى تحقيق ذلك رهنا بحراك وضغط مختلف القوى الوطنية والمدنية والديمقراطية، وقوى الحراك المجتمعي والاحتجاجي، وعموم المتطلعين الى التغيير والحياة الأفضل والوطن الآمن المستقر المالك لزمام قراره الوطني المستقل.