لم تعد الضرورة الملحة لإحداث التغيير في المنظومة السياسية الممسكة بزمام الأمور في البلاد، موضع جدل بالنسبة لغالبية الشعب. وتجلت إرادة التغيير الشعبية الجبارة بكل عنفوان وتحدٍ في انتفاضة تشرين - أكتوبر الباسلة، وفي الدماء الزكية لكواكب الشهداء وحشود المصابين والمنتفضين الذين تعرضوا لصنوف الترهيب والقمع، وما زالوا معتصمين في ساحات الاحتجاج.

فما آلت اليه أوضاع البلاد من تدهور وانهيار يحاصران بلدنا وشعبنا في حاضرهما ومستقبلهما، على خلفية انهيار الاقتصاد وتهاوي الخدمات العامة وتشظي الدولة ومؤسساتها،  تتحمل مسؤوليته القوى الطائفية السياسية بمختلف عناوينها، التي تحاصصت السلطة منذ 15 عاماً وتقاسمت مغانمها وامتيازاتها، واستأثرت بكل المفاصل الحاكمة في الدولة ومؤسساتها المدنية والعسكرية والاقتصادية، واستحوذت على الموارد والمال العام من خلال منظومات  الفساد، التي باتت تتحكم بمقدرات الدولة.

إن نجاح حكومة السيد الكاظمي مرهون أساسا بمدى قدرتها على المضي في عملية الإصلاحات العميقة والتغيير، وتحقيق انجازات فعلية في محاورها الرئيسة المشخصة في البرنامج الحكومي، بما يستجيب لمطالب الجماهير المنتفضة خصوصا المتعلقة بمحاسبة قتلة المتظاهرين، والتصدي للفساد، ومقاومة ضغوط قوى المحاصصة، واعتماد مبادئ العدالة الاجتماعية، وضمان الحاجات الأساسية لمعيشة المعدمين والكادحين ومحدودي الدخل ، الى جانب تكثيف الجهود وحشد الموارد لمواجهة جائحة كورونا ، وإفشال مخططات داعش الإرهابي.

ان الزمن أمام البلد والحكومة ليس مفتوحا، وتعاني اقسام واسعة من شعبنا ظروفا معيشية قاسية، وقد استنزفت ممارسات الحكومات السابقة ونكثها بالعهود وفشلها وفسادها، رصيد الثقة وحتى الصبر لدى شعبنا. فعوامل اندلاع  انتفاضة تشرين ما زالت قائمة، بل واضيفت اليها تداعيات الازمة المالية وشحة الموارد المتأتية من انخفاض أسعار النفط، وما سببته إجراءات التصدي لجائحة كورونا من صعوبات جمة لملايين العراقيين المعتمدين على كسبهم اليومي في توفير لقمة العيش.

وقد لقيت تعهدات رئيس مجلس الوزراء في المنهاج الحكومي والتصريحات المختلفة، وفي الخطوات التي اتخذها أو وعد باتخاذها، ارتياحا حذرا ليس ناجما في الغالب عن شك بالمقاصد والنوايا،  وإنما في القدرة على تجاوز قوى الصد المتحفزة لاعاقة الحكومة ورئيسها، اذا ما اتخذا إجراءات عملية لمواجهة سوء الإدارة  والفساد، أو حركا الملفات في المجالات التي تنتظر الإصلاح والتغيير.

وقد تلمس المواطنون بعض مظاهر التحدي متمثلة في استمرار ممارسات التحاصص وبيع المناصب الحكومية، اضافة الى الحديث عن شبهات فساد تخص البعض في الحكومة الحالية، وملفات فساد في بعض الوزارات والوزراء والمسؤولين في الحكومة المستقيلة. وفضلا عما تلمسه الشباب خصوصا من غياب العدالة في التعيينات التي جرت في الأيام الأخيرة للحكومة المستقيلة، والتي استحوذت عليها الكتل المتنفذة.

إن هذا كله يجعل من تجدد الانتفاضة بزخم متعاظم أمرا ممكنا، وقد يأخذ أشكالًا جديدة  غير مسبوقة.

ان البلاد تقف اليوم على حافة الهاوية إن لم تكن قد بدأت تتدحرج فيها، وان انتشالها يستلزم الإسراع في معالجة ملفات الإصلاح والتغيير التي طرحتها الانتفاضة وشدد عليها المنهاج الحكومي. ويبدو مرجحا ألا تنجح الحكومة في تحقيق إنجازات ملموسة على المدى القريب، ما لم تستند إلى زخم الحراك الشعبي، وتعمل بجد لبناء جسور ثقة مع قواه الأصيلة. ويتوجب على الحركة الاحتجاجية من جانبها القيام بمراجعة مسؤولة لمسارها،  واستخلاص الدروس منها لردم الثغرات ومعالجة النواقص، والتأكد من سلامة الشعارات المرفوعة وواقعيتها، والابتعاد عن العدمية في المواقف، واعتماد التنسيق والتعاون بين المنتفضين لتكوين ارادة وطنية شعبية قادرة على الضغط واحداث التغيير المنشود، وتمكين جماهير الشعب من القيام بدور رقابي على الاداء الحكومي، وفي اعادة هيبة الدولة وترسيخ القانون وبناء المؤسسات  النزيهة.

ان على الحكومة ومجلس النواب تأمين المستلزمات والظروف والامكانية العملية للمواطنين، لممارسة حقهم الدستوري في التعبير عن الرأي والاحتجاج والتظاهر السلمي  بمختلف الاشكال.

وفي المقابل فان الضغط الشعبي السلمي وتعظيم زخمه مطلوبان لتحقيق اهداف الانتفاضة، لدحر نظام المحاصصة والفساد واحداث التغيير المنشود وفرض إرادة الشعب، والانتقال الى دولة المواطنة والعدالة الاجتماعية ، الدولة المدنية الديمقراطية.