حاورهم ريسان حسين
في الاول من تموز عام 1946 انطلقت الشرارة الاولى لانتفاضة عمال شركة نفط العراق المحدودة IPC ضد ادارتها مطالبين بحقوقهم المشروعة وانتهت في 12 / تموز بانتصار الاضراب وتحقيق مطالبهم, ومن اجل التوسع في هذه المأثرة الباسلة حاورنا السيدين عبد الرزاق سعيد رئيس اتحاد نقابات عمال كركوك وعدنان صالح محمد المتابع لتاريخ مدينة كركوك الحديث.
عن اسباب اضراب عمال شركة نفط العراق المحدودة, يقول عبد الرزاق سعيد "انتهت الحرب العالمية الثانية عام 1945 وذلك بانتصار الاتحاد السوفييتي، الدولة الاشتراكية الاولى ودول التحالف بقيادة الولايات المتحدة الامريكية وحلفاؤها واندحار النازية الالمانية والفاشية الايطالية، وكان من نتائج هذا الانتصار ايجاد ارضية ديمقراطية وحريات نقابية في بعض الدول ومنها العراق الخاضع تحت الانتداب البريطاني، مما شجع هذا الانفراج العمال في شركة نفط العراق المحدودة على المطالبة بحقوقهم المغتصبة."
ويصف عدنان صالح المتابع لتاريخ كركوك "بعد اكتشاف النفط من قبل الشركات البريطانية عام 1927 تم بناء مقر للشركة في منطقة عرفة، والتي سميت آنذاك باسم كركوك الجديدة، وكان بناؤها وفق تخطيط عمراني جميل جعلها اجمل منطقة، ليس في كركوك بل في العراق بشكل عام, اذ تم انشاء المجمعات السكنية ذات المناطق الخضراء والشوارع المعبدة والمسابح والساحات الرياضية اضافة الى بهو للترفيه ــ اصبح كل هذا للموظفين والعمال الاجانب العاملين في الشركة، اما العمال العراقيون فهم محرومون من تلك الخدمات، فهم حفاة عراة لا يملكون شيئا الا قوة عضلاتهم في العمل وباجور يومية متدنية 30 – 50 فلسا ولا تسد حاجاتهم اليومية هذه وغيرها دعت العمال الى الاضراب"
يؤكد عبد الرزاق سعيد قائلا "اضافة الى اعلاه ازدياد الوعي الفكري والثقافي عند الطبقة العاملة، ان تنفيذ الاضراب جزء من الحركة الوطنية والتي لها باس كبير في توجيه جماهير الشعب للمطالبة بحقوقهم، وكان للفكر اليساري والديمقراطي تاثير كبير على افكارهم في القيام بالاضراب لصالح الطبقة العاملة اذ ليس لهم حقوق للضمان الاجتماعي والتقاعدي ولا نقابات، في الوقت نفسه ان الشركة تنهب خيرات البلاد وتعطي العراق جزءا بسيطا من واردات النفط وتتم الحسابات في مكتب الشركة في لندن بدون ممثل عراقي يراقب الحسابات .. هذه العوامل، اضافة لما ذكر، حفزت العمال على المطالبة بحقوقهم ."
ـــ كيف جرى الاضراب؟
"نظم العمال انفسهم بتشكيل لجنة عليا متكونة من عدد من العمال يقودهم العامل الشيوعي ( حنا دانيال وحكمان فارس )
ولا تسعني الذاكرة اسماء الاخرين, وتم تشكيل لجان محلية مساندة لهم في الورش والمعامل وبعيدا عن اعين عملاء الشركة، وحدد اليوم الاول من شهر تموز موعدا لاعلان الاضراب. وفي الموعد المحدد الساعة العاشرة صباحا دقت الصافرة (الشوت) التي تعلن الاستراحة والبدء بالدوام (الشفت الثاني) دقت دويا اعلانا للاضراب بالتجمع في ساحة المنطقة الصناعية, يسمى (استبلاين) وبالقرب من مركز الشرطة سارت جموع (المضربين) في تظاهرة مشيا الى بستان كاور باغي الذي يقع في اطراف المدينة انذاك.
واسجل للتاريخ ان بعض الموظفين الانكليز العاملين في الشركة تضامنوا مع العمال وشجعوهم، وان هذا يدل على التضامن مع كادحي العالم " ويضيف عبد الرزاق سعيد "اصبحت كاور باغي مكانا يتجمع فيه العمال يوميا. تلقي في التجمع الخطابات الحماسية وباللغات العربية والتركمانية والكردية والمستجدات من المفاوضات بين ادارة الشركة والادارة المحلية واللجنة العمالية المفاوضة ......
كما تم تشكيل لجان عديدة منها لجنة الاتصال بالشخصيات الوطنية والاجتماعية من امثال الشخصية سيد احمد خانقاه الذي اعلن عن دعمه الكامل للعمال المضربين ونال الاضراب تاييد العدد من المثقفين والادباء والمحامين امثال السيد مكرم الطالباني ومعروف البرزنجي واحمد عبد الجبار, اضافة الى عامة الناس البسطاء من الكادحين, كما شكلت لجنة لجمع التبرعات لمساعدة المحتاجين من عوائل المضربين وقد تجسدت في الاضراب الأخوة الطبقية بين جميع المكونات من الكرد والعرب والتركمان والمسيحيين و كان الاضراب سلميا بحيث لم يحدث اي عمل يعكر صفو العلاقة مابين المضربين ."

الهجوم على العمال المضربين

ويكمل عدنان صالح المتابع لتاريخ كركوك الحديث "تفاجأ العمال اثناء تجمعهم في 12/ 7 / 1946 بوصول اعداد من الشرطة المحلية مجهزين بالبنادق يقودهم ضابط بأمر من المتصرف معاون الشرطة الخيالة سعيد عبد الغني، وطلبوا من العمال ترك الساحة والانصراف الى بيوتهم وان لم يتفرقوا فسيتم تفرقتهم بالقوة, لكن اصرار العمال على تلبية مطالبهم وثباتهم في ساحة الاعتصام ادى الى اطلاق الرصاص عليهم فاستشهد ( 12 ) عاملا وجرح اكثر من ( 20 ) اخرين مما اصابهم الهلع لهول الجريمة النكراء, وقد فتحت العوائل ابواب بيوتها القريبة من الساحة لاستقبال العمال الذين تفرقوا و المصابين من قبل الشرطة .
وكان لصدى الاضراب والتعامل السيئ مع المضربين من قبل الادارة المحلية واستشهاد وجرح هذا العدد من العمال في اوساط المجتمع العراقي والدولي وانفجر الراي العام وكان حديث الساعة وكتبت الصحافة بعنوان بارز (فاجعة كركوك) ومن اجل التخفيف من هذا الحدث المؤلم امر محافظ كركوك حسن فهمي المحاكم بالتحقيق, ومن حسن الصدف اختير الحاكم (جهاد الونداوي) وهو الشخصية الوطنية اليسارية وخاله عمر نظمي الذي كان وزيرا للعدل, وبعد تدوين الافادات من العمال والشرطة تم اسناد التهمة الى الشرطة الخيالة بفتح نيران بنادقهم نحو العمال العزل المضربين.. وهذا ادى الى انفجار الراي العام , مما اضطر مدير شركة نفط كركوك للتحقيق بمطالب العمال المضربين , ونظرا للمواقف النبيلة للقاضي جهاد الونداوي تم فصله من منصبه لأنه انصف العمال وبطلب من وزير الداخلية، ولابد من الاشارة الى ان عدد المحامين الذين تطوعوا للدفاع عن العمال بلغ اكثر من 100 محامي .
وعن نتائج الاضراب دخلت هذه المعركة الغير المتكافئة بين العمال وبين قوة الشرطة والتي اطلقت بنادقها صوب المتظاهرين وادت الى استشهاد وجرح 32 من العمال المضربين, معلنة للعالم بشاعة الرأسمال العالمي ووجهه الكالح متمثلا بالشركات النفطية الاحتكارية ومنها شركة نفط العراق."
وكانت نتائج الاضراب :
1- جسدت هذه الملحمة التاخي القومي من مكونات مدينة كركوك من العرب , والكورد , والتركمان والمسيحيين ومن مختلف الديانات والمذاهب.
2- التضامن العمالي الواسع من قبل الطبقة العاملة العراقية والعمالية العالمية.
3- اوجدت حالة من التعاطف من قبل سكان المدينة مع العمال المضربين من اصحاب المتاجر اذ كانت تقدم المساعدات للعمال المحتاجين المضربين.
4- تنفيذ مطالب العمال في ما يتعلق بزيادة الاجور والتي اصبحت 310 فلسا يوميا.
5- حفزت الشركة على التعامل الايجابي مع العمال ومنها بناء دور للعمال واعطت بعض العمال مبلغا كايجار للسكن، بالاضافة الى المطالب الاخرى .
6- تم تخصيص وسائط نقل للعاملين في الشركة من بيوتهم الى مكان عملهم.
7- زود كل عامل صفيحة نفط ابيض شهريا.
8- اعطت العمال المواد الغذائية من الخبز حسب عدد افراد العائلة.
9- تحديد ساعات العمل بسبع ساعات بدلا من 12 ساعة.
والاهم من هذا كله اعطت درسا لادارة الشركة والحكومة العميلة ان الشعب العراقي لا ينام على ضيم وانما يطالب بحقوقه المهضومة.