مع الكشف عن لائحة الاتهام، الثلاثاء 4 نيسان الحالي، بدأت محاكمة الرئيس الأميركي السابق ترامب تأخذ أبعادها القانونية بشكل جدي، والتي يمكن أن تتوج بمحاكمة جنائية.
إنها أول لائحة اتهام في تاريخ الولايات المتحدة ضد رئيس سابق، بتهمة محاولة للتستر. والقضية تعود لسنوات عمل ترامب في تلفزيون، حينها قيل إنه كان على علاقة بممثلة إباحية. نفى ترامب ذلك. وعندما رشح للرئاسة في عام 2016، زُعم أنه اشترى صمت الممثلة بمبلغ 130 ألف دولار، سلمه محاميه آنذاك، مايكل كوهين.
شراء صمت الاخرين معمول به في الولايات المتحدة الأمريكية. لكن المبلغ سجل كمصروفات لمنظمة ترامب، وليس لشراء الصمت. ووفقا للأسباب التصرف يمكن ان يكون ذلك جنحة أو جناية.
أهمية هذا التحقيق، تكمن في انهاء "هالة ترامب القانونية التي لا تقهر". ومنذ فترة سنوات ظلت عدة إجراءات أخرى ضده جارية، تحمل خطر مقاضاته. وعلى الرغم من التحقيقات المتكررة، لم تتمكن السلطات في نيويورك، تحديدا، تقديم لائحة اتهام بنشاطاته الاجرامية. كرئيس، قام مجلس النواب مرتين بمحاولة عزله، لكن مجلس الشيوخ برأه من المشاركة في تورط نجل بايدن بالفساد في أوكرانيا، ومن مسؤولية اقتحام مبنى الكابيتول.
في قضية أخرى ضد ترامب و"منظمة ترامب"، اقام الادعاء العام دعوى مدنية بعنوان الاحتيال التجاري: يقال إن العقارات المملوكة لشركة العائلة قد تم المبالغة في تقيمها، بمئات الملايين من الدولارات، بهدف زيادتها الجدارة الائتمانية. وأرادت الشركة الحصول على قروض مصرفية أرخص، والحصول على مكافئات من شركات التأمين. ولأن الدعوى مدنية، لا يواجه ترامب إدانة جنائية، بل يطالب بتعويض مالي قدره 250 مليون دولار أمريكي، او حظر اعمال الشركة.
هذه التحقيقات مهمة لأن ترامب أعلن أنه سيرشح لانتخابات الرئاسة المقبلة. اما تأثير الإجراءات القضائية الجارية على الانتخابات التمهيدية للجمهوريين فمفتوح.
حاول ترامب خفض الضرائب المترتبة على عقاراته، وحاول التلاعب في انتخابات 2020 لصالحه وحرض أنصاره على اقتحام مبنى الكابيتول. وبالتالي فان السلطات القانونية محقة في التحقيق في هذه الجرائم جنائية.
ان ادانة ترامب ليست اكيدة، وعلى الرغم من تعرض رؤساء سابقين لملاحقة قانونية بعد مغادرتهم البيت الأبيض، الا ان مثل هذه الخطوة لم تتخذ سابقا. بالنسبة لترامب، فان الهدف، هو محاولة منعه من الترشيح مجددا، فهو يتقدم استطلاعات الراي، والديمقراطيون عاجزون من هزيمته انتخابيا، لذلك يستخدمون سلاح القضاء ضده.
يتفق كثيرون ان هذه الإجراءات سوف لن تضعف ترامب داخل معسكره، بل ربما تحوله الى بطل قومي، تطارده المؤسسات، بسبب نضاله من اجل عامة الناس.
منذ صدور لائحة الاتهام، يتوحد الجمهوريين خلف ترامب من جديد. وفي استطلاعات الرأي، يتقدم على منافسيه داخل الحزب. وتحدث حليفه، ورئيس مجلس النواب، كيفن مكارثي، عن "سوء استغلال فاضح من قبل مدعي عام متطرف لمنصبه" وأعلن عن القيام بتحقيق من قبل الكونغرس.
اختبار استقلال القضاء
ان محاكمة ترامب وأي تهم لاحقة هي اختبار لمتانة سيادة القانون في الولايات المتحدة. والمحاكمة تحتمل تعميق الأزمة السياسية. إن الخطر يتمثل في عدم قناعة القاعدة الجمهورية، بعد الآن، باستقلال القضاء، ارتباطا بلائحة الاتهام المثيرة للجدل. يمكن أن يؤدي ذلك إلى مزيد من الانقسام في المجتمع وإلحاق الضرر بالديمقراطية. لأن لائحة الاتهام لن تحرر الولايات المتحدة من الترامبية كحركة يمينية شعبوية.
مشروع جو بايدن لتحجيم الانقسامات العميقة في المجتمع خلال فترة ولايته مهدد بشكل خطير. مع ترامب، عاش الأمريكيون باستمرار، كيفية إلقاء اليقين المزعوم في البحر. دخل نجم تلفزيون الواقع إلى البيت الأبيض، بلا خبرة سياسية، وواجه مرتين محاولة عزله. وأصبح أول رئيس يتحدى تقليد الانتقال السلمي للسلطة. وكل هذا كان لا يمكن تصوره في السابق.
تعمقت في السنوات الأخيرة، الخلافات السياسية بين الديمقراطيين والجمهوريين بشكل كبير. أوساط من كلا الحزبين معادية لبعضها البعض، نادرا ما يحدث تعاون يتجاوز الحزبية الضيقة. في كتلة الجمهوريين بزعامة مكارثي في مجلس النواب، هناك العديد من المتشددين، الذين اوصلوا الامور الى طريق مسدود.
هناك صراع مرير حول رفع سقف الديون. سوف يستخدم النواة الصلبة للمحافظين الماليين الجمهوريين "الهاوية المالية" التي تلوح في الأفق لخفض الإنفاق الهائل الذي كان يريده الرئيس بايدن ومجلس الشيوخ الذي يسيطر عليه الديمقراطيون، لتمويل برنامجه الاجتماعي الضخم، وبعد اندلاع الحرب لمضاعفة مساعدات أوكرانيا. كان مكارثي قد هدد بالفعل خلال الحملة الانتخابية بأنه لن يرغب بعد الآن في إصدار "شيكات على بياض" إلى كييف.
تصعيد الضغط على الاتحاد الأوربي
بلغت ديون الولايات المتحدة 31 ترليون دولار. وهذا يزيد الضغط المالي على أوروبا. من المرجح أن تصبح مطالبة الولايات المتحدة "بتقاسم الأعباء العادل" اشد. بعد أن ساهمت الولايات المتحدة حتى الآن بمعظم المساعدات العسكرية إلى كييف، وأنه يتعين على الأوروبيين تمويل الجزء الأكبر من المساعدات الاقتصادية وإعادة الإعمار في المستقبل.
قد يجد الاتحاد الأوروبي نفسه مضطرًا لتحمل ديون برنامج الاقتصاد والاستثمار في أوكرانيا بالإضافة إلى حزمة المساعدات وباء كورونا البالغة 750 مليار يورو. سيكون الأمر مثيرًا للجدل جدا داخل الاتحاد الأوروبي. ومطالبة الولايات المتحدة بـ "تقاسم عادل للأعباء" ستحمل بذرة الانشقاق إلى الاتحاد الأوروبي، وتسبب ضغطا جدي على العلاقة مع الولايات المتحدة.
الاجماع في المؤسسة الامريكية السائدة بشأن دعم اوكرانيا، يشهد تراجعا، ويدعي ترامب أنه يستطيع إنهاء الحرب بيوم واحد، وأن روسيا وأوكرانيا جاهزتان للتوصل إلى اتفاق. وعلى الرئيس أن يجتمع مع الرئيسين فقط، ويتفاوض على السلام.
يؤكد ترامب، بأن مقاومة روسيا في أوكرانيا ليست مصلحة استراتيجية أمريكية حيوية. بل هي مصلحة أوروبية، ولهذا السبب يجب على أوروبا "أن تدفع أكثر بكثير مما ندفعه، أو ما يساويه ". إن هدف أمريكا في أوكرانيا هو مساعدة أوروبا وتأمينها، "لكن أوروبا لا تساعد نفسها". تعتمد أوروبا بشكل كبير على الولايات المتحدة، وهو أمر "غير عادل بالنسبة لنا".
ترامب وتغيًر القيم
حدد ترامب المحتوى، ووضع أوكرانيا في قلب حملة الانتخابات التمهيدية، ووضع منافسه تحت الضغط. يُعرف عن رون ديسانتيس حاكم فلوريدا الحالي، دعوته إلى الصرامة والقوة العسكرية ضد خصوم أمريكا.
الترامبية الراهنة، تخضع قيم المجتمع الرأسمالي تحت ضغط هائل. وفقًا لاستطلاع راي أجرته وول ستريت جورنال اخيرا، فإن التوجهات القيمية التقليدية آخذة في الانخفاض بسرعة. في عام 1998، وجد 70 في المائة من الأمريكيين أن "الوطنية" مهمة جدًا، وفي عام 2019 أصبح الرقم قرابة 60 في المائة، وهو الآن 38 في المائة فقط.
وبعد عام 2019، هناك انخفاض مماثل في الاهتمام بقيم "الدين"، "تربية الأطفال وتعليمهم" أو "الالتزام تجاه المجتمع". النسبة الوحيدة التي زادت، هي الاهتمام بالمال. عموما، الأجيال الشابة أقل اهتمامًا بالمُثُل التقليدية. 23 في المائة فقط، دون سن 30 عامًا يجدون أن الوطنية أو إنجاب الأطفال أمر بالغ الأهمية.
يؤدي فقدان القيم التقليدية، خصوصا في الأوساط المحافظة، إلى إثارة الجدل وتعميق الانقسامات في المجتمع. ويرى العديد من السياسيين اليمينيين، في ذلك، تأكيد لتحذيراتهم من ان الإيديولوجيات اليسارية تفسد المجتمع: "كراهية الذات التي نراها في جميع أنحاء البلاد أسوأ من أي جائحة"، غردت المرشحة الجمهورية للرئاسة نيكي هايلي. و"أمريكا هي أعظم أمة في العالم، ويجب أن نواصل تعليم اطفالنا ذلك".
كتب رجل الأعمال المحافظ والمرشح الرئاسي فيفيك راماسوامي أيضًا أن البلاد كانت تمر بأزمة هوية: "لقد اختفى الإيمان والوطنية والأسرة والعمل الجاد. وقد حلت محلها أيديولوجية ووكينيس (مصطلح يستخدم للتعبير عن أفكار اليسار في سياسات الهوية والعدالة الاجتماعية)، الجندر وعبادة المناخ. يمكننا عكس هذا التطور". وهذا يفسر الحرب الثقافية الحالية.
ولكن حتى لو بدت أرقام "وول ستريت جورنال" مبالغ فيها قليلا، فإن الاتجاه صحيح. تظهر استطلاعات أخرى أيضًا أن الدين يفقد أهميته في حياة الأمريكيين.
يُظهر استطلاع " وول ستريت جورنال" أيضًا كيف أن التغيير في القيم يُقسم الولايات المتحدة. الديموقراطيون والجمهوريون يقيّمون ويفهمون "الوطنية" بشكل مختلف تمامًا اليوم. 23 في المائة من اليساريين، يجدون أن حب الوطن مهم للغاية، مقارنة بـ 59 من المحافظين. نظرًا لأن العديد من الجمهوريين لا يعتبرون الوطني سوى شخص يحمل السلاح، ويخاف الله ويعتقد أن الإجهاض هو قتل، لهذا بالنسبة للديمقراطيين فإن دلالات المصطلح السلبية تتزايد. قالت القسة السابقة جانيت بوير لصحيفة وول ستريت جورنال، "بالنسبة لي، تحولت الوطنية إلى قومية يمينية".
*- عن مقالة لهيئة تحرير موقع "الاشتراكية" الألماني. تشرت لأول مرة في جريدة المدى بتاريخ 12 نيسان 2023