صحيح أن الإنسانية لم تعش وقتا طويلا (بعد اختفاء الدول الاشتراكية في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفيتي، والذي جاء نتيجة لانتصار الرأسمالية المتطورة في ما يسمى “الحرب الباردة”، لكي تعاود النقاش حول مفاهيم مثل “التقدم”، “الاشتراكية”، “اليسار”، “الثورة” وغيرها. وهذه المناقشات غير قابلة للتأجيل لأن النشوة ما زالت مستمرة حول النظام الوحيد المتبقي، والتي تجسدها الفرحة المتطايرة لمنظري الرأسمالية مثل فرانسيس فوكوياما (منظر أمريكي ياباني الأصل – المترجم). إن الرأسمالية استمرت بتناقضاتها غير القابلة للإنقاذ، والداروينية الاجتماعية (نسبة لداروين – المترجم)، وبقيت أيضا الإنسانية بحاجة ماسة إلى بديل لهذه الكارثة. ولم تأت نهاية التاريخ، كما كتب المثقف الكوبي إليادس أكوستا، بل أتت نهاية نظرية فوكوياما.
ان افلاس نظرية “نهاية التاريخ” اللاعقلانية يؤشر مجددا بوضوح ضرورة تجاوز بربرية الرأسمالية، ومواجهتها كنظام، وهذا الموقف يقود إلى ما هو اساسي. وان التهرب من مواجهته يعني التخلي عن حل المشكلة الرئيسة، والنتيجة عدم القدرة على تركيز القوى بكفاءة لتجاوز الرأسمالية.
صحيح أن البشرية اليوم تواجه مشاكل خطيرة تهدد وجودها والأمر الأكثر إلحاحا، هو ايقاف السير باتجاه الهاوية، وبالتالي فان “جميع الأيدي لا تزال قليلة جدا”. ولكن هذا لا يلغي العديد من الأسئلة التي تنشأ باستمرار حول القضايا الأكثر إلحاحا: هل هناك اختلافات جوهرية بين منطق الليبرالية الجديدة والمنطق العام للرأسمالية؟ هل تنتهي الامبريالية اليوم مع الفشل الواضح لليبرالية الجديدة؟ إذا أدت الرأسمالية الليبرالية الى الامبريالية والليبرالية الجديدة، فأي تطور إيجابي يمكن أن تتوقعه الإنسانية من رأسمالية بلا ليبرالية جديدة؟ وإذا كانت المشكلة الأساسية هي الراسمالية، فما هي المهام التكتيكية الملقاة على عاتق اليسار؟ وماذا يعني ان تكون اليوم يساريا؟ للإجابة على هذا السؤال اكرس هذه المقالة.
ليس من المناسب تكرار القصة المعروفة ما اصطلح عليه سياسيا “اليسار”، ولكن يمكن القول وبالإستناد الى تقاليد النضالات الاجتماعية في القرنين الـ 19 والـ 20، لقد ترسخ تفسير عام مشترك: “اليمين” للتعبير عن القوى المحافظة، و”اليسار” يعني قوى التغيير. “اليمين” هو الرجعية، و”اليسار” يعني الثورة. “اليمين” مرادف للرأسمالية، و”اليسار” مرادف للاشتراكية... الخ، وبالإستناد الى الكيفية التي يؤشر فيها اليمين واليسار المواقف في فضاء الصراع، يصبح ليس من الصعب فهم الطبيعة التقليدية والنسبية لهذه التسميات. يمين بالنسبة لمن ومن ماذا؟ ويسار بالنسبة لمن ومن ماذا؟ ان الفهم العام للنشاط الاجتماعي والسياسي حدد استخدام هذه المصطلحات، وحتى اختفاء الدول الاشتراكية في أوروبا لم يغير ذلك تماما، على الرغم من أن هذا الحدث نقطة تحول في التاريخ، وأثر على الاستخدام التقليدي لهذه المصطلحات، وخلق الكثير من الارتباك.
“ان تقف يسارا” و“ان تكون يساريا”
في الصفحات التالية سأتناول الاستخدام التقليدي للمصطلح في القرن العشرين، ولكن مع بعض التوضيحات الأساسية، بشأن التمييز بين مفهومين: “ان تقف يسارا” و “ان تكون يساريا”. وهذا توضيح اصطلاحي خالص، يستفاد منه في تحديد منهجية دراسة وتحليل العمليات السياسية وليس له صلة، كما سنرى، مع الكليشيهات ووضع حدود فاصلة، او “التفريق” بين أولئك الذين “يمتلكون الحقيقة” و”الآخرين”، والهدف منه، هو قياس مدى المواجهة مع واقع الرأسمالية المتأخرة، ودراسة الصلات التي تربط الحركة المضادة للرأسمالية.
عندما يرفض شخص ـ على سبيل المثال ـ مجموعة، منظمة سياسية، الليبرالية الجديدة والسياسة التدميرية للشركات فوق القومية، يصطف يسارا. وهذا لا يعني انه يساري، بمعنى انه مضاد للرأسمالية كنظام. ان موقفا وتعاملا سياسيا يميزان بدرجات متفاوتة بين الذين يقفون الى جانب اليسار، والذين يكونون يساريين، وكلاهما يلعب بالتأكيد دورا ايجابيا في التاريخ والسياسة. والحقيقة ان من “يقف اليوم يسارا”، بغض النظر عن درجة الوعي التي تدفع البعض إلى التعاطف مع الكثير من الأهداف، هو من يؤدي قسطه الإيجابي في الثورة على صعيدي الفكر والممارسة.
ان الاشتراكية كمشروع لخلاص البشرية يتطلب تطوير تفكير ونشاط ملموس، وهو تركيب معقد جدا ومتباين، ويتوقف على الخصائص المحددة للحالة الراهنة من تطور الرأسمالية. ان درجة تأثير هذا التركيب مرتبطة مباشرة بمعرفة اسباب هذه البربرية.
ان تجدد المناقشة حول جوهر ان تكون يساريا نسبية وتخضع ـ مثل كل المناقشات الاجتماعية ـ إلى المحددات التاريخية الملموسة. ان تكون يساريا يمكن ان يعني اليوم شيئا، ويصبح غدا شيئا آخر بخصائص جديدة، لنأخذ مثلا قطاع الشركات المتوسطة، التي تدافع عن استرداد الموارد الوطنية التي استولت عليها الشركات فوق القومية. ان هذه الشركات تقف اليوم بوضوح إلى جانب اليسار، على الرغم من انها لا تتبنى الأهداف الإستراتيجية المناهضة للرأسمالية.
ان تعريفا لليسار بمعنى ان تكون يساريا من منظور استراتيجي شامل طويل الأمد، يجب ان يعكس، كما ارى، خصائص مثل مناهضة الرأسمالية، العلمية، الشخصية الجامعة، اخلاقي، ثوري، نشط، مبدع وأممي.
أن تكون يساريا يعني أن تكون مناهضا للرأسمالية
يبدو بديهيا عندما نقول إن تكون يساريا يعني ان تكون معاديا للرأسمالية، ولكن هنا الكثير من الارتباك. وبالتالي من الضروري ان توصيف “يساري”، لا يعني بالضرورة ان هذه الاشارة تتضمن مناهضة واضحة للرأسمالية. ان كل الذين يعارضون رأسمالية الليبرالية الجديدة، وكل الذين يعارضون سلطة الشركات فوق القومية، ويرفضون سرقة الموارد المادية والبشرية للأمم الأقل نموا من قبل الامم الأكثر تقدما، وكل الذين يعارضون الحروب الامبريالية المفترسة، يقفون بطريقة أو بأخرى يسارا. ولكن ان تكون يساريا يعني مناهضة استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، وضد الأنانية التي تنشئ الملكية الخاصة، يعني امتلاك الوعي بضرورة تجاوز اساسي للنظام الراسمالي.
نشأت الرأسمالية منذ أكثر من 500 عام. وفي مسيرتها، تراكمت لديها خبرة في كيفية التغلب على ازماتها، حتى وإن كان ذلك على حساب الطبيعة والصحة البدنية والعقلية للانسان؛ والتغلب عليها ضرورة (اي الرأسمالية – المترجم)، ولكنها لن تتم دون مقاومة. ويجب ان تكون مواقف اليسار وانشطته واضحة في مناهضتها للرأسمالية، ومدعومة بالدليل، وإلا ستكون يسارية بشكل ما، ولكنها لا تعبر صراحة عن مواقف اليسار. ان المواقف التي على يسار الليبرالية الجديدة، ولكنها على يمين اليسار، هي مواقف مناهضة للرأسمالية حقا، حتى وان اسماها اصحابها، على سبيل المثال مواقف - وسط. ان خصائص من يقف يسارا، بالنسبة لمن تحتوي مواقفهم على قدر غير كاف من مناهضة الرأسمالية، والذين يطلقون على أنفسهم تسمية اليسار من السياسيين الاجتماعيين (الذين لديهم مواقف سياسية اجتماعية)، فهؤلاء هم شيء آخر. كثيرون يسمون أنفسهم (وسطا)، آخرين ديمقراطيين اجتماعيين، ولكن كما كتب لينين مرة، يجب على المرء ان لا يحكم على الحركات السياسية وفق ما تقوله، بل ان تصرفها والحقائق الملموسة (أعمالها) هي المقياس الأهم لنواياها الحقيقية.
وحتى لو كنت استخدم التصنيفات مع أمثلة وصفية، فاني استند إلى المحتوى وليس التسميات. الرمزية التي تطلقها الحركات السياسية والاجتماعية على نفسها تجاه الخارج، والتي يمكن ان تكون مفيدة بشكل او بآخر للتواصل، ولكن لفهم خصائص وجوهر الحركات السياسية، التي تتفاعل مع الإستغلال والإذلال من جانب الرأسمالية المتأخرة وطبيعتها اللصوصية، كان وسيبقى حاسما، طبيعة تعاملها السياسي على أرض الواقع.
من ناحية أخرى، لا بد من القول مرة أخرى، ان توضيح التعاريف، لا يدعو للانغلاق، وليس بالضد من التحالفات أو لمجرد فهم أهمية الإيضاح، بل وببساطة هي الدقة التي تسعى لفهم تعقيدات الحركات الاجتماعية والسياسية، تحولاتها الداخلية، نوعيتها بالمعنى الاجتماعي والفلسفي والمساهمة في توضيح التشويش، وبمساعدة هذا التشويش، فهم القطاعات الضارة المرتبطة بالرأسمال، التي تحرف سلوك اكثرية السكان السياسي عن سعيهم للخلاص. ان جزءا من الحقائق السياسية، التي تحدد خصائص منظمة ما (سواء كان ذلك من شكل او مستوى تماسكها.. الخ)، ويشمل ذلك ايديولوجيتها، برنامجها السياسي، ونضالها الملموس. هذا يتطلب رؤية دقيقة للواقع الاجتماعي، على الرغم من أنه لا يمكن أن تشمل جميع عناصر العمليات الاجتماعية والسياسية، ولكن الفحص الدقيق للتطور الاجتماعي.
علمية اليسار
لا ينبغي أن يترك سلوك السكان الثوري إلى العفوية، وهو ليس قضية ايمانية بسيطة، او معنى للحياة مبني بشكل تعسفي، لا يستند الى حجج، يجب ان يكون (السلوك) في المقام الأول واعيا، كما هي ايضا ممارسات الراسمالية، اذا ارادت ان توقف قوى التغيير.
واحد من الصراعات الرئيسية في المواجهة مع الرأسمالية اليوم هو الحاجة إلى استعادة الرؤية العلمية التي تساعد على إلقاء الضوء على التفاعلات في العمليات الاجتماعية المعاصرة. تلك العمليات التي تبدو في كثير من الأحيان غير منظمة ومجزأة، ومنقسمة إلى عدد لا نهائي من العوالم الصغيرة، دون الربط بين بعضها البعض، والمسحوقة الى حد لا يملك فيه العامل أكثر من قوة عمله، ويجد الكثير من الأسباب للوقوف ضد نظرائه، (الذين يعيشون في ظل الظروف الاجتماعية ذاتها)، أكثر من تشخيص مالكي السلطة الاقتصادية والنضال ضدهم.
عندما لا يجد المرء تفسيرا علميا للواقع الذي مر ذكره، وعندما لا يقوم المرء بدراسة العمليات التي ادت الى الازمة الحضارية الحالية (التي تؤثر اليوم على وعي وسلوك الناس)، عندما لا يفهم المرء البنية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الحالية، التي اوصلت اليوم الرأسمالية المتأخرة الى نمط ومستوى من الهيمنة، لن يكون المرء قادرا على تجميع ارادة الكثيرين، او خلق الوعي لدى الناس.
وعندما تختفي الروابط الحقيقية، تختفي ايضا التفسيرات المنطقية. فليس هناك ما هو أكثر فائدة لأيديولوجية السوق من ذلك. عندها ستبقى الوحيدة في الحلبة وتكسب الحكم الى جانبها. ان صراع الأفكار يتطلب ترسانة من الأفكار، ولكن هذه الأفكار لا تنشأ من مبنى تعسفي من مشاعر الحياة، بل من مبنى من المشاعر، التي ترتبط بعمليات حقيقية ناتجة عن ضعف الرأسمالية الاجتماعية، وعناد الرأسمالية المتأخرة، والتي تفضح بوضوح الأضرار الحالية والمستقبلية التي يسببها هذا النظام للبشرية. وهذا يجب ان يعرب عن نفسه بمختلف الاشكال الثقافية، وبهذا يرسي أسس النشاط. ان الرؤية العلمية للرأسمالية التي انتجتها الماركسية، تمثل اليوم أفضل منطلق لممارسة نقدها (الرأسمالية)، ولكن رؤية ماركس كانت شاملة، وهنا ليس بالإمكان، كما هو الحال مع كاريكتير اقتطاع بعض الجوانب وفق التقدير والمصالح. ان الطابع العلمي لرؤية الماركسية للمجتمع يمثل جوهره. لقد اكتشف ماركس تناقضات المجتمع الرأسمالي الأساسية، وبين للناس طريقا مكتملا، لإزالة هذه العلاقات.
من جانب آخر لا يمكن ان يستند العلم الى علاقة اخرى، اكثر من تلك التي بين الانسان والطبيعة، فان العلوم الطبيعة يوضح ماركس: “ستفقد اتجاهها المادي المجرد - او بالأحرى ميلها المثالي - وتتحول جذريا الى علوم انسانية، لتكون ضمن مكونات (اسس) حياة الانسان الحقيقية، ولو بشكل غريب (غير مألوف)”.
هذه الافكار وضعها ماركس في تحليله لدور العلوم الطبيعية في تطوير الصناعة. وفي الواقع بدت الصناعة وكأنها إنجاز تاريخي للعلاقة بين الإنسان والطبيعة، والعلوم الطبيعية التي انتجت الصناعة، وكأنها لحظة تحول في الحياة البشرية. من أين يمكن للعلوم ان تتطور، إذا كانت لا تنتمي للواقع، للطبيعة في تفاعلها المستمر مع البشر - كأفراد وكمجموعة اجتماعية؟ من اين يمكن للعلم ان يتطور، الا من الطبيعة والطبيعة الثانية في تفاعلهما المتبادل والمستمر مع الانسان، كفرد وكمجموعة اجتماعية؟ ان الطبيعة الثانية هي الثقافة، وهذه مرتبطة بالافراد الذين سيولدون ويتطورون بتفاعل متبادل مع الطبيعة، وبمصاحبة الطبيعة الثانية. ان المواد العلمية لتنظيم ومعرفة الواقع حددا كقاعدة الطبيعة الفعلية والطبيعة الثانية من خلال ماديتهما باعتبارها سمة اساسية وحاسمة لهما. ومن هنا يواصل ماركس: “ان وجود اساس للحياة وآخر للعلوم هو كذبة بالبداهة”.
ان التعقيدات المتنامية للانسان والمجتمع البشري في جميع انحاء الكوكب، والاستقلالية النسبية عن الواقع، التي سيولد منها (الانسان)، والتكهنات حول ما هو واقع بالفعل، وقوة الخيال، التي تقود الى تقييمات خاطئة، والقادرة على الاستيلاء على روح للانسان، والتأثير في الواقع الاجتماعي، هي الوسط الذي تتطور فيه المعرفة العلمية، والتي يجب ان تصل فيه الى هدفها العملي.
ان علوم الانسان هي العلوم الاجتماعية ايضا. وقد كتب ماركس: “ان الطبيعة التي ستصبح التاريخ البشري - نشوء المجتمع البشري - هي الطبيعة الحقيقية للانسان”، ومن هذا يستنتج (ماركس) ان العلم الناشئ من الطبيعة فقط، هو العلم الحقيقي.
ويترتب على ذلك ان رؤية ثورية للعالم، عندما تكون واعية، او تدعي الوعي، يجب ان تكون ايضا علمية، وعليها ان تفسر للمجتمع وبأدلة قوية، وقادرة على ارضية واقعية، على تحفيز ارادة الناس وانتاج عقلانية عملية تجعل نهاية السيطرة الرأسمالية ممكنة.
وشيء آخر مرتبط بما قيل سابقا - النقاش حول عملية المعرفة العلمية، والعناصر التي يجب دمجها فيها، اسلوب وطريقة الكيفية التي تبنى بها هذه المعرفة، والمناهج والطرق التي يجب اعتمادها في المعالجة التربوية لهذه المعارف المكتسبة جماعيا، لكن هذا لا يغير شيئا من معرفة التاريخ كجزء من عمليات الطبيعة. وحسب ماركس: “التاريخ نفسه جزء حقيقي من تاريخ الطبيعة: الطبيعة التي نشأ الانسان منها. وكذلك سيكون العلم البشري جزءا من العلوم الطبيعية، وسيكون هناك علم وحيد”.
في هذه المقالة لا مكان لتحليل نهائي لافكار ماركس بشأن هذا الموضوع، ولكن من المفيد في نهاية المطاف اعادة سطور اخرى من مخطوطة ماركس الى الأذهان، والتي تدلل على الربط الماركسي بين النظرية والممارسة، وبين العلم والأخلاق: “شريطة أن يكون بالنسبة للإنسان الاشتراكي، أن مجموع ما يسمى بالتاريخ الكوني، ليس أكثر من اعادة انتاج الانسان بواسطة العمل البشري، ليس أكثر من توظيف مستقبل الطبيعة لصالح الانسان، الذي يمتلك دليلا قاطعا وواضحا على اعادة انتاج نفسه بنفسه ومن خلال سيرورته. وبما ان الوجود الحقيقي للإنسان والطبيعة مسألة عملية، قابلة للاختبار عمليا وحسيا وادراكا. وبما ان الانسان بالنسبة لابناء جنسه كائن طبيعي، والطبيعة تمثل جوهره، فان فكرة الكائن المغترب عن أبناء جنسه وعن الطبيعة، هي جوهر او أساس فكرة التفوق او تجاوز الطبيعة والانسان. وهي فكرة توحي بعدم جوهرية الطبيعة والانسان التي يستحيل تطبيقها”.
من المؤكد أن العلم الماركسي جزء لا يتجزأ من عالم اليقين، في سياق المنطق التاريخي الذي غيرت فيه الثورة المجتمع أخيرا، اعتبرها (الثورة) نتيجة حتمية للتطور الرأسمالي. وفي هذه الاستمرارية المتناقضة سينشأ نفي النفي.
بعيدًا عن الجدل الدائر حول السببية والصدفة، والضرورة والممكن، أعتقد أن حجج ماركس الأولية على النحو المبين في المخطوطات تمتلك مصداقية لا يُختلف عليها.
منذ أن درس ماركس المجتمع الرأسمالي والى يومنا هذا، تغيرت أشياء كثيرة، لكن جوهر الرأسمالية ظل قائما حتى مرحلتها الأخيرة، وبقيت خصائصها الأساسية: الملكية الخاصة، واستغلال الإنسان للإنسان، والأنانية، سيادة قانون الربح، والعنف الاقتصادي وغير الاقتصادي والحرب. إن حجج اليسار اليوم، كما كان الحال آنذاك، لا يمكن أن تكون مرتجلة أو سطحية أو صوفية أو أسطورية. يجب أن تنشأ الصوفية المحتملة لليسار من قدرته الحقيقية على كسب العقول، بالحقائق التي يخلقها والانتصارات التي يحققها في سياق نضاله.
وبعبارة أخرى، فإن وحدة الفكر والعمل هي عنصر أساسي في العلم. وإذا كان الهدف هو تحويل المجتمع الرأسمالي، فيجب التفكير في طرق ووسائل تحقيق ذلك، والتي ستختلف بشكل كبير وفقًا للظروف التاريخية الملموسة التي تخطوها الثقافات المختلفة. وفي سياق النضال الثوري، ستتدفق وبحق، في أهداف التحرر الاجتماعي، آراء الأفراد والجماعات ذات الرؤى العالمية المختلفة معاً، وستنشأ تحالفات استراتيجية، وستظهر العديد من المقولات السياسية. وتتوجد في الوقت نفسه تفسيرات مختلفة للعالم، تفاعلات اجتماعية متبادلة، وأشكال التعبير الثقافي بمظاهره المتنوعة، والتأثيرات والعلاقات ذات النوعية والآماد المختلفة، والتي لا يمكن لأي منها، مع ذلك، أن يلغي (يحل محل) الحاجة إلى التفسير العلمي للواقع. يرسم هذا (التفسير العلمي للواقع) مساراً آمناً وحلولاً ممكنة، وتبنى علامات الأمل فيه من حجج، وليس من تأمل غريب لفهم خاطئ. ان اليسار الثوري يعرف نفسه بالعلم والعلمنة.
وهذا يعني القدرة على إيجاد سبل للخروج من استغلال الإنسان للإنسان، من الملكية الخاصة، والفردية، والأنانية، ومن عدم الإحساس بالطبيعة، وكذلك القدرة على تحديد وتطوير استراتيجيات وتكتيكات هذا النضال بشكل منهجي. ان هذا العمل، الذي لا غنى عنه بالنسبة للحركة الثورية، هو عمل جماعي، ولا يمكن لأحد أن يتفوق على الآخرين كباحث عالمي في مواجهة التعقيد المتزايد للمجتمع البشري، اذ يمكن للجميع وينبغي عليهم المساعدة في خلق هذه المعرفة بالثورة. لكن إذا لم يهتم أحد من “اليسار” بذلك، فكيف ستتحقق وحدة الإرادة في التغيير؟ كيف يمكن تحقيق التكامل النظامي الذي لا غنى عنه، والمطلوب لهزيمة الرأسمالية؟ من الواضح إذا تم تحريك الناس بشعارات منمقة لا علاقة لها بالواقع، أو بخطب إيمانية، يمكن أن تُقطع مسافة معينة على طريق النضال معهم. ولكن بدون محتوى علمي، وبدون رؤية علمية جوهرية، سينهار كل شيء على المدى البعيد؛ ولهذا يجب معالجة هذا التحدي، ليس بدون مشاركة جماعية، بل بأكبر قدر ممكن منها.
إن أحد أحجار الزاوية في تفكير المحافظين الجدد على وجه التحديد هو الغاء مضمون ووجود الضرورة. إنها أيديولوجية هدفها السياسي الخاص هو إلغاء الأيديولوجية الثورية، ومعها إلغاء الفلسفة التي أدركت الطابع المنهجي للرأسمالية ويمكنها تفسير تناقضاتها وبالتالي طرق التغلب عليها.
إن أيديولوجية الحركة الثورية لها أساس علمي، وأخلاقياتها يجب أن تكون من لحم ودم أخلاقيات تشمل الروحانيات ولكن ليس الباطنية. في هذه الأيديولوجية الثورية تصب بالضرورة، أنظمة أخلاقية مختلفة، تشترك، مع بعضها البعض في مبادئ أساسية معينة، وتتحول بالممارسة الى تحالف تاريخي واستراتيجي، وبما ان عملية تحول المجتمع عملية معقدة لا يمكن إنكارها، فالأيديولوجيا الثورية الحقيقية هي بناء ديالكتيكي، ملموس تاريخياً، وغير مكتمل، انه نظام من الأفكار والقيم، يتضمن معايير ويركز عليها (المعايير)، إنه الأساس لتفعيل مساعي التحول وتعلمها، مع وجوب شمول (الأيديولوجية الثورية) جميع التجارب الإيجابية. لكن فعاليتها تستند إلى المحتوى العلمي لمسلماتها، على الاعتراف بالواقع، على المعرفة الجماعية القائمة على تفسير العالم المتغير الذي يحيط بنا. إنها (أيديولوجية) ترسم الطريق وتوفر الأدوات اللازمة للتصحيح.
لا يمكن أن يكون اليسار متعصبا ومنغلقا
كان التعصب والانغلاق واحدا من أكبر الأخطاء التي ارتكبها اليسار في القرن الماضي، ورؤية نفسك على أنك “الطليعة”، وافتراض إما يكون معك أو ضدك. هذه الرؤية انتشرت في جميع أنحاء العالم داخل اليسار في القرن العشرين، وكانت سببا للانشقاق، وإهدارا للوقت والطاقة في العديد من المناقشات العقيمة، وانعدام الشفافية، كما مثلت عائقاً أمام المعرفة (كابحا للتعلم) بشأن المشاكل الحقيقية. إنّ رفض العديد من الجماعات اليسارية الحجج الجديدة لمجرد أنها لا تتوافق مع العقائد المفترضة، حجب عنها، فهم دوافع الجماعات التي ادعت أيضاً وجود مساحة لها في النضال ضد الرأسمالية. لقد أعلن اليسار المتغطرس نفسه قبلة التغيير الثوري، لكنه لم يقبل تغيير ذاته.
هذه الرؤية العقائدية والطائفية حالت دون رؤية الآخرين كما هم بالفعل، أي حفاري القبور الجدد (للرأسمالية) الذين ظهروا من الرأسمالية وتناقضاتها الداخلية غير القابلة للحل، وغالباً ما كانوا يعتبرونهم مجموعات “تلعب لعبة الرأسمالية”، وفي أفضل الأحوال، مجموعات خاطئة مغرورة. وبدلاً من فهم موقف هذه المجموعات بالمعنى الاجتماعي، ودوافعها، ووضعها الحقيقي، واحتياجاتها وتفسيرها للمشاكل، وجرى رفضها لأن لديه رأياً مختلفاً، ما خلق احتكاكاً ومواجهات مزقت تماسك الـقوى الضروري. وغالباً ما خلف ذلك جروحاً كان من الصعب شفاؤها.
هذه السلوكيات لم تؤد الا الى إضعاف الحركة اليسارية بدلاً من تعزيزها. ان التعالي على الآخرين بامتلاك “الحقيقة الوحيدة” يجعلها حقيقة مطلقة، وبالتالي كاملة، ومنتهية وشمولية، غير قادرة على التطور والإثراء، ومنغلقة على الفهم الحقيقي للتغيير. لكن الفهم الحقيقي للتغييرات التي حدثت وتحدث في العالم هو السلاح الرئيسي لترسانة اليسار السياسية. كونك غير منغلق ولا متعصب لا يعني ببساطة أن يكون لديك “موقف سياسي صحيح”، بل يعني ضرورة النضال نفسه، لقد كان الأمر كذلك في الماضي، وأصبح اليوم أكثر أهمية، وستزداد أهميته كل يوم. تنبع هذه الضرورة في نهاية المطاف من الرأسمالية المتأخرة نفسها، من التجزئة والتدمير الاجتماعي اللذين تجلبهما هذه المرحلة معها.
ينتج عن تجانس الإنسان الذي فرضته الرأسمالية المتأخرة تفكك (الإنسان) مقابل السوق، واغتراب بعضه عن الآخر، ويتم التعبير عنه بشكل متزايد من خلال السوق المتسلط الذي يجب على الجميع المرور به، والذي يتم فيه، جنبا إلى جنب مع المهمشين والمبعدين، حركة استهلاك محموم تدمر أكثر فأكثر التوازن البيئي والتوازن الحسي للناس. ان أزمة النظام واضحة، لكن التغلب على النظام لن يتم فرضه بواسطة فكرة الطليعة لطبقة واحدة، بل يشمل العديد من الطبقات، جماعيا، تشاركيا، بديمقراطية عميقة وأفقية.
يجب أن يكون اليسار أخلاقيا
إن الشفافية حليف اليسار. إذا كان هناك من يكذب، ويختفي وراء حجج زائفة، فهم قوى اليمين المحافظ. يجب أن يتصرف اليسار دائما وفقا لما يفكر به ويقوله. وإن أخلاقيات القناعات تدلل على نفسها في الممارسة السياسية فقط. وكما يقول فيدل كاسترو، الاشتراكية هي علم المثال. لذلك يجب أن يقال، على حد تعبير إيزابيل راوبر (أكاديمية أرجنتينية)، أنه “من أجل التغيير يجب أن نتغير”.
وهذا يعني أن البناء المنهجي لعالم جديد داخل أنفسنا، يبدأ في الحركة الثورية، في سلوك كل فرد مشارك في تلك الحركة، في بناء نوع جديد من العلاقة داخل الحركة نفسها، التي تتبنى ممارسة جديدة، سلوكا مختلفًا يعبر عن الأخلاق الجديدة، ويجب أن يقودنا أيضًا من قمة السلطة التي (سـ) نحصل عليها تدريجياً. الإيثار، الجماعية، التسامح، الديمقراطية، الاستعداد للحوار، الإقناع، التربية، الإنسانية، التضامن، العدالة، المساواة يجب أن تكون القيم التي تصبح إطار وطبيعة اليسار. وبالمثل، فإن قدرته على التعلم يجب أن تكتمل بالتواضع اللازم، يجب ألا يكون اليسار متعجرفاً؛ ويجب أن يعترف بحقه في ارتكاب الأخطاء وتصحيحها، فضلاً عن اليقين الذي يمكن أن يمتلكه المرء، أينما كان. ويجب أن يدعم اليسار تعميم الخبرة والتعلم.
وفي النهاية، يجب أن تتطابق أخلاقيات اليسار مع ممارسات سلطة تختلف تمامًا عن تلك المعتادة، التي يريد اليسار محاصرتها واستبدالها. وبالتالي، لا يمكن لليسار أن يكون تعسفيًا أو قسريًا أو تراتبياً وسلطويًا. يجب أن تكون الأخلاق الجديدة للسلطة الثورية مصحوبة بممارسات وأسلوب وأساليب تختلف اختلافا جذريا عن تلك التي مورست في ظل الرأسمالية ومتأصلة في نظامها السياسي للملكية الخاصة والفردية والأنانية. هذه الممارسات يجب أن تكون بالطبع ثورية، وسنشير إليها في أدناه.
معايير اليسار يجب أن تكون ثورية
أن تكون يساريا، يعني ان تكون ثوريا، ان تكون ثوريا يشترط ان تأخذ موقفا نشطا تجاه الحاجة للتغيير، موقفا ينتج من ضرورة تغيير العالم. لا يطلق اليسار على نفسه هذه التسمية، لكن إذا لم يعمل في الواقع في اتجاه التغيير، فلا يمكن اعتباره “يسارياً”، سيتم احتواؤه من المحافظين ولن يعود ثورياً بعد الآن. ان تكون سياسيا يعني ان تكون فاعلا. لا أعني طريقة واحدة للقيام بذلك، بل على العكس، فان الوسائل والنوع والطريقة، التوقيت، والأهداف الاستراتيجية والتكتيكية تفتح طيفا واسعاً ومنوعا من المتغيرات، واسعة كالظروف التاريخية الملموسة في مجموعة متنوعة من الحقائق الثقافية والسياسية القائمة في الواقع، في حركة مستمرة وتغيير في عالم اليوم. يعاني النظام الرأسمالي من إنهاك واضح، لكنه لا يزال نظاماً حياً. إن القيام بالثورة هو السبيل لإثبات حالة الانهاك التي يعيشها، ولتركيز وعي الناس على الإسراع في التغلب عليه. هذا هو الموقف الوحيد المعادي للرأسمالية حقاً، لذا فإن المفهوم الثوري هو مفهوم أساسي. انتشرت اليوم الرأسمالية الاحتكارية فوق القومية وعولمت، وأصبح المجتمع البشري ككل دليلاً واضحاً على تطوره غير المتساوي. ولم ينجح أي بلد بدأت فيه ثورة اشتراكية في جعل هذه العملية (الاشتراكية) لا رجوع فيها. ومع ذلك، فإن مسألة ما إذا كان من الممكن الحفاظ على المسار نحو الاشتراكية في بلد معين، وإلى متى، دون وجود حركة عالمية عامة للإطاحة بالرأسمالية، هي مسألة مهمة. التاريخ وحده يمكنه اعطاء إجابات محددة، لكن أمثلة مثل الثورة الكوبية تظهر أنه من الممكن اتباع طريق التغيير الاشتراكي، حتى في المجتمع البشري المعقد بشكل متزايد اليوم. لذلك من الضروري الحفاظ على نشاط ثوري للتغيير، من منظور جامع وبكل مرونة ممكنة تتطلبها الظروف. لقد لخص فيدل كاسترو مفهوم الثورة، الذي سأقتبسه أدناه لأهميته الحالية في النضال ضد الرأسمالية. ويمثل هذا جزءا من تقليد الماركسية في التغيير العملي، ومبدأ توجيهي مهم لليسار اليوم. قال فيدل كاسترو في الأول من أيار 2001 في ساحة الثورة في هافانا:
“الثورة تعني الإحساس باللحظة التاريخية، تعني كل ما يجب تغييره، تعني المساواة والحرية الكاملة، تعني معاملة الناس الآخرين كبشر، وان يعاملوك بالمثل، تعني ان نحرر أنفسنا بأنفسنا وبقوانا الذاتية، تعني تحدي السلطة الحاكمة القوية، في داخل وخارج الأطر الوطنية الاجتماعية، تعني الدفاع عن القيم التي يؤمن بها المرء مقابل أي تضحية، تعني التواضع وعدم الأنانية والإيثار والتضامن والبطولة، تعني النضال بجرأة وحكمة وبإحساس بالواقع، تعني عدم الكذب أو انتهاك المبادئ الأخلاقية، تعني أن يكون لديك قناعة عميقة بعدم وجود سلطة في العالم قادرة على سحق قوة الحقيقة والأفكار. الثورة هي الوحدة والاستقلال والنضال من أجل أحلامنا لتحقيق العدالة لكوبا والعالم، هي أساس وطنيتنا واشتراكيتنا وأمميتنا”.
وبالنتيجة، أن تتخذ موقفا يساريا، وأن تكون يساريا، يعني أن تقف دوما الى جانب التقدم الاجتماعي. وبهذا الشكل، ان تكون يساريا، يعني ان تكون بعيدا عن اية بيروقراطية لأنك بهذا تقف ضد كل ما يوقف ما هو ضروري لحل مشاكل المجتمع. ويجب على اليسار (أيضاً) استيعاب تلاشي الدولة، حتى من اللحظة التي يتعين عليه فيها تقويتها، ليتمكن من حل المهام الاشتراكية. وعليه رؤية السلطة باعتبارها وسيلة جماعية لتحقيق التغيير الثوري للمجتمع، وبأي حال من الأحوال، ليست غاية بحد ذاتها، فالثاني سيعني استعارة (ممارسة) شكل السلطة الرأسمالية. لذلك يجب أن يكون اليسار دائما مستعدا للتغيير، ولفهم المشاكل الجديدة والبحث وإيجاد الحلول الجديدة التي تتطلبها.
على اليسار أن يكون مبدعًا
يجب أن يكون “فكر اليسار المناهض للرأسمالية، مصحوبا بالفعل. ان “اليسار” الذي يفكر فقط ويطور الحجج ووجهات النظر، لكنه لا ينشط سياسيا عمليا، ولا يخاطر، ويراقب المشاكل فقط، وآراؤه مثقلة بحكم الأمر الواقع بسبب الافتقار إلى الفهم العملي، تكون آراؤه قليلة الفائدة، أو لا تفيد المجتمع بل تؤدي في الغالب إلى نتائج عكسية.
لا جدوى من ملء الصفحات وإضاعة الوقت في صنع الثورات على الورق أو في الخطب (التي تلقى). ان العلاقة بين التفكير وممارسة الفعل تمثل مبدأ وجود اليسار كقوة تغيير”.
وهذا يتعلق بشخصية الحركة الاجتماعية، التي لا تعني ابراز الأسماء كأعلام مرفوعة، أو الاطلاق الذاتي لتوصيف اليسار، بل تريد ان يفهم أن هناك مصالح متعارضة جذرياً في عالم اليوم تتطلب بالضرورة تحديد أهداف، وطرح بدائل. هذه الأهداف تتحول إلى توجهات عمل، وبالتالي على المرء التعامل على اساسها، واكتساب الخبرة، من النجاحات والفشل على حد سواء، والاستمرار في المضي قدماً. ان الهزائم والفشل لا تتحول الى تجارب مفيدة، الا في حالة مواصلة النضال فقط. عندما أتحدث عن تحديد معنى وهدف النضال، فأنا لا أعني أي برنامج معين أو أي طريقة معينة لتفسيره. على سبيل المثال، وفق ظروف عالم اليوم، فأن الدفاع عن السيادة أو استعادة الثروة، والدفاع عن الثقافة والهوية الوطنية، مطالب ثورية، وفي الوقت نفسه هي مطالب أولية تسمح لصانعي التغيير (قوى اليسار) جذب فئات اجتماعية قد لا تتبنى أهدافا ابعد.
هناك الكثير من الدوغما التي نشرتها الرأسمالية في أذهان الناس، وهي برامج يتم من خلالها “التعرف” تلقائيا تقريبًا إلى إشاراتها (الرأسمالية) والصور النمطية (التي يربطها بها الناس) والتي يجب على اليسار أن يخوض ضدها نضالا فكريا. تمثل المفاهيم الراهنة مثل دولة القانون، المجتمع المدني، حقوق الإنسان، الحرية، والديمقراطية، والسياسة، وما إلى ذلك، نهجاً ثورياً أولياً لليسار لتعزيز التفكير النقدي وتقديم توضيح للتفسيرات الغامضة المنبثقة عن الماكنة الأيديولوجية للرأسمالية المهيمنة. ويمثل ذلك تحديا لليسار، في أن يكون مبدعا من جديد، وأن يتعرف الى نفسه أكثر، وأن يعزز وعيه، على أساس المواجهة اليومية للروح النضالية الثورية مع الحياة اليومية للمجتمع. ولهذا لا خيار لهم، سوى مغادرة متاهة أساطيرهم وعيوبهم وشبكاتهم الذهنية (الجامدة). الإبداع يعني دائما قطيعة مع ما سبق، والاستمرارية ايضا. أن تكون مبدعا يعني أن يكون المرء نفسه، وفي الوقت نفسه شخصا آخر. الإبداع هو رفض الخضوع للروتين، للمعرفة المكتسبة التي لم تعد صالحة. ان التفاؤل ضروري للإبداع والثقة بالناس ورفض الغطرسة التي تؤدي إلى العزلة والوحدة حتما. لا يمكن أن يكون الإبداع كافيا بذاته، لأنه لا ينشأ إلا من الواقع. في حين يمكن للافراد ان يكونوا كذلك، لأن سلوك الناس يمكن أن يسترشد بالانحراف والجهل والعادات السيئة. يمكن لليسار أن يجد طريقه إلى الإبداع، من خلال الارتباط الوثيق بالمجتمع فقط. حتى في خضم انتشار العادات الفاسدة التي رسخت نفسها في أوساط السكان نتيجة لعقود طويلة من ضبابية الوعي، للعثور على مرشد لإعادة ابتكار ذلك النسيج الذي يتوافق مع الوعي الجديد للناس في ظل الظروف الجديدة. لهذا، فإن الشيء الأول هو أن كل من لديه وعي يساري ومناهض للرأسمالية قادر على التحرر من أشباحه، من قيوده لمواجهة الجديد، والتعلم منه وبالتالي تغيير نفسه سوية مع الجميع. دمج اليسار في تأثيره اليومي، أي الناس الذين يعون مواقفهم المناهضة للرأسمالية، باشكالها المختلفة للعمل المشترك والتكامل ضد هذا النظام، بأفضل ما يمكن في مواقع الصراع السياسي، من أجل جمع الخبرات النضالية المتحققة في حياتهم اليومية. ليس من النادر أن يتمثل أكبر ضعف لليسار في القرن الماضي، وحتى يومنا هذا، في تقديم عالم يتعذر الوصول إليه تماما وغير مفهوم للآخرين، ليس لأن الآخرين غير مبالين، بل لأن اليسار كان غير مبال، ولم يكن بإمكانه إيضاح مسارات المشاعر الإنسانية لنفسه أو للآخرين. ان ما سبق قوله يعني جعل التأهيل السياسي في مقدمة الأولويات على ان يشمل كل الثوريين. يجب أن يكون التأهيل مبدعاً من جميع النواحي، سواء في محتواه أم في الشكل الذي يتم عرضه فيه. ولسوء الحظ، ليس من النادر الحصول على تأهيل سياسي، عبر تكرار العموميات بلغة قديمة، وكأن شيئاً لم يتغير في هذا العالم. وفي كثير من الأحيان لا يتم استخدام التقنيات والوسائل وامكانيات التواصل الجديدة. يبدو أن الأجيال الجديدة بقيت خارج هذه الممارسة. وفي إطار الابداع أيضا، يجب أن يصبح اليسار محط جذب للناس، وخاصة الشباب. ويجب على اليسار الجمع بين الإبداع والبهجة والفرح. يجب أن يكون اليسار مبتهجاً، فلديه أسباب كافية للتفاؤل التاريخي. ولا يمكن أن تكون النغمة الهرمية والطنانة والمقبولة في لحظات تاريخية قليلة هي أسلوب تواصل اليسار. تتضمن مسؤولية أي حركة اجتماعية تعد نفسها يسارية الحاجة إلى رؤية واقعها الثقافي ككل متجدد باستمرار، بدءا من واقعها الخاص، لإيجاد وسائل لمواجهة الرأسمالية المتأخرة بنجاح، وسائل تربط الوطني بالأممي بشكل وثيق غير قابل للانفصام.
أممية اليسار
إنّ محاربة الرأسمالية المتأخرة مهمة باتجاهين. إنها مشكلة وطنية، لكنها في نفس الوقت تعبير ملموس عن أزمة نظام عالمي. لا أحد يستطيع المضي قدماً في عالم اليوم إذا كان معزولاً تماماً، ولا أحد يتمتع بالاكتفاء الذاتي، لا اقتصادياً ولا سياسياً. ان المنطق الأممي للنضال ضد الرأسمالية يتوافق مع الواقع العالمي للنظام، الذي لم يترك جشعه عمليا أي مساحة لم يغزوها بقواعده وتعطشه للسلطة. ان ما حدث في العالم بعد زوال التوازن الثنائي القطب هو تعزيز القوى المؤسسية العالمية في مركز نصف الكرة الشمالي. ان سياسات مراكز العالم الرأسمالي، التي يعكسها أداء ممثلي الحكومات في الاجتماعات، وتصرفات القوى الليبرالية والاجتماعية الديمقراطية الدولية، عبر إجراءات الاتحاد الأوروبي، وتوسيع حلف الناتو، وهيمنة وسائل الإعلام وإحياء الأسطول الرابع وأشياء أخرى كثيرة تتعارض مع القوى المناهضة للرأسمالية وإن كانت ضعيفة. في مواجهة هذا الواقع، فان نبذ الأممية يعني التخلي عن ميدان استراتيجي للنضال ضد الرأسمالية. وبالنسبة لليسار، يعتبر مبدأ الأممية واجبا أخلاقيا وسياسيا نشأ من الحاجة الأساسية للدعم المتبادل؛ إنه ليس مبدأ عائما أثيريا (سريع التبخر)، ولكنه ضرورة بالمعنى الحقيقي للكلمة. ان التضامن الاممي هو مبدأ يعطي النضال جوهرا وبالتالي يجعله ذا مغزى، باعتباره شرطاً ضرورياً للنجاح. في الواقع، من الصعب جداً، بل ومن المستحيل اليوم تحقيق الأهداف الأساسية للتحرر، مثل استعادة الثروة من أيدي الشركات فوق القومية أو المتطلبات الأساسية للتنمية، ما لم يعمل المرء في تعاون وتكامل إقليمي متزايد. يجب أن يكون هذا التعاون متعدد الأطراف، وأن يشمل أشكالًا أخرى من التعاون الأممي، وعلى الأرجح تكامل سياسي. في منطق الإستراتيجية الثورية، تتعارض مواقف اليسار مع طبيعتها إذا لم تصبح أممية بشكل متزايد. وهذا يعني فهم اين يقف أعداء الشعوب الحقيقيون وبدون فقدان اتجاه البوصلة، التي تنشر استراتيجية المعرفة، وتصمم التعامل المتغير.
خاتمة
لقد حاولت توصيف سبع سمات أو خصائص قد تساعد في تحديد ما نسميه اليوم “يسارا”. وغني عن القول، أن هذه الميزات مرتبطة ارتباطاً وثيقاً، ويكمل بعضها البعض، ولكن يمكن التمييز في ما بينها للمساعدة في توضيح الهيكل الذي كنت أحاول تحديده.
في نهاية هذا المقال، أعتقد أنه من المناسب التأكيد ان هدفي هو المساهمة في أسلوب أفضل للتحليل، وليس اثبات الفروق بين الجماعات السياسية. هناك قضيتان إحداهما وصف الاتجاه، والاخرى هي مطالب ونشاط هذه السياسة أو تلك. تمر الرأسمالية المتأخرة الآن بأزمة جديدة ذات أبعاد لا يمكن التنبؤ بها، لكنها ما زالت حية وتكافح من أجل التعافي ثانية. إن النقد المطلوب والضروري لأخطاء الاشتراكية واليسار كتوجه سياسي، خاصة في القرن العشرين واليوم أيضاً، يمكن أن يسهم بطريقة ما في العمل السياسي ضد الرأسمالية المعولمة والتابعة نظريا بالكامل للمراكز الرأسمالية. انها رأسمالية تريد فرض طريقة تفكير واحدة، ولكنها تواجه مقاومة جماهيرية تتصاعد باستمرار. لا يوجد اتجاه فكري منفرد يستطيع مواجهة الرأسمالية كتيار فكري منفرد، وبالضبط لا يستطيع المرء هزيمة الراسمالية كنظام بادواتها المتنوعة، الاقتصادية والمالية والتجارية والسياسية والقانونية والأيديولوجية والنفسية والإعلامية والعسكرية، بدون رؤية منهجية لبديل، وبدون نظرية للتغيير، يجب أن يكون جزءا منها أيضاً دراسة ومعرفة خصائص القوى الاجتماعية التي تكافح الرأسمالية. تتضمن هذه الرؤية تحليلا يسمح للفاعلين الاجتماعيين - السياسيين بتوصيف كل مرحلة. ان هذا التحليل، الذي بدونه سيتعامل الفاعلون المذكورون مع بربرية الرأسمالية المتأخرة بردات الفعل فقط، يجب ألا يكون من المحرمات.
ان التعصب والانغلاق غير قادر على نقل المعرفة العميقة لهذه الحقيقة، وبالتالي يتعامل الناس بدونها. يجب صياغة سياسة تمكين القوى التقدمية بشكل جماعي، مع أوسع مشاركة ممكنة لجميع المناهج والمصالح، بروح شمول (هذه القوى)، دون قيود، دون مراتبية، والاعتراف بأن لا أحد يمتلك الحقيقة المطلقة وأنه يمكننا ويجب علينا جميعًا أن نتعلم من الجميع.
---------------
*الدكتور داريو إل ماتشادو رودريغيز هو أستاذ الفلسفة في الجامعات الكوبية وعضو هيئة تحرير مجلة “كوبا الاشتراكية”، والترجمة لبحثه المنشور في موقع “شيوعيون” الألماني في 25 تشرين الأول 2012. وسبق وان نُشر تعريف مختصر بالبحث في جريدة “طريق الشعب” أواخر شباط 2022.
*- نشرت اول مرة في العدد 433 تشرين الثاني 2022