أصدرت الجمعية الاقتصادية الكويتية ورقة أسمتها "أولويات الإصلاح الشامل في الاقتصاد الكويتي"، وهي ورقة مغرقة في توجهاتها النيوليبرالية المنحازة لصالح كبار الرأسماليين الطفيليين، بحيث يمكن القول إنها تقف على يمين ورقة غرفة تجارة وصناعة الكويت المعنونة "إن وطننا في خطر" التي صدرت في نهاية شهر ديسمبر من العام الماضي، ناهيك عن أنها تقف على الضد إلى حد كبير من الورقة البحثية الهامة المعنونة "قبل فوات الأوان" التي شارك في إعدادها ٢٩ أكاديمياً اقتصادياً كويتياً ونشرت في أواخر شهر نوفمبر ٢٠٢٠، بينما يفترض بالجمعية الاقتصادية أن تكون متوازنة وتمثّل مختلف التوجهات الاقتصادية وليس أن تعبّر فقط عن اتجاه يميني متطرف.

حيث ترى ورقة الجمعية الاقتصادية أن التحدي الأساسي الذي يواجه الاقتصاد الكويتي إنما يكمن فيما أسمته "نموذج التنمية الاقتصادية المبني على قيادة القطاع العام"، وتجاهلت الاختلالات والتحديات الأساسية التي يعانيها الاقتصاد الكويتي، والمتمثلة في الطبيعة الريعية للاقتصاد، وفشل القطاع الخاص في المساهمة الجدية في التنمية واتكاله شبه الكامل على الإنفاق الحكومي، فيما حاولت الورقة في المقابل أن تصور بعض هذه الاختلالات على أنها مجرد نتائج لهيمنة القطاع الحكومي على الأنشطة الاقتصادية للدولة، فيما قفزت الورقة بشكل رشيق على حقيقة أن فشل ما أسمته نموذج التنمية الاقتصادية إنما هو نتيجة تحكّم المصالح الطبقية الضيقة للقوى الاجتماعية المتنفذة في القرارات السياسية والاقتصادية والمالية والإدارية في الدولة، وركزت فقط على هيمنة القطاع العام... وبالنسبة لنا  فإنه إذا كان هناك خلل في القطاع العام فإنه يتمثّل بالأساس في سوء إدارة القطاع العام، وبالتالي فإن المطلوب هو إصلاح إدارة القطاع العام وليس تحجيم دوره وتصفية وجوده، مثلما تدعو ورقة الجمعية الاقتصادية.

أما عندما تناولت ورقة الجمعية الاقتصادية الفساد وغياب الفاعلية في مواجهته فإنها تناولته على أنه نتيجة للدور القيادي للقطاع العام في الاقتصاد الكويتي متجاهلة حقيقة أن فساد القطاع العام إنما هو امتداد لفساد القطاع الخاص، حيث تكفينا أمثلة ملموسة على ذلك سلسلة فضائح: ضيافة الداخلية، وغسيل الأموال، والصندوق الماليزي، وقضايا النصب العقاري، وفساد تنفيذ مشروعات البنية التحتية وأشهرها تطاير حصى الشوارع، التي أوجدها بالأساس فساد بعض شركات القطاع الخاص ونجمت عن غياب الرقابة الحكومية الجادة على بعض أنشطته.

وعند تناول ورقة الجمعية الاقتصادية الكويتية لمراحل الإصلاح الشامل نجدها قد قسمته إلى ثلاثة مستويات: الإصلاح المؤسسي، والإصلاح الاقتصادي، والإصلاح المالي، وحاولت أن تحدد مديات زمنية لتحقيق الإصلاحات تبدأ بالتنفيذ الفوري خلال أقل من سنة، ومدى متوسط بين سنة وثلاث سنوات، ومدى طويل لأكثر من ثلاث سنوات، ورسمت جداول لتلك "الإصلاحات".

ونبدأ بالإصلاح المؤسسي حيث تدعو ورقة الجمعية الاقتصادية إلى أن يكون الهدف على المدى الطويل هو "إعادة هيكلة القطاع العام ليتوافق مع دور الحكومة كمنظم ومراقب وليس منتجاً أو مشغلاً"، وهذا بالضبط هو جوهر التوجهات النيوليبرالية الرأسمالية، التي راجت في العام في سبعينات القرن العشرين وتهاوت مع الأزمة الاقتصادية التي شهدها النظام الرأسمالي العالمي في العام ٢٠٠٨، وهي توجهات تدعو إلى إلغاء الدور الاقتصادي للدولة وتقليصه إلى أدنى حد، بل تدعو إلى تحلل الدولة من مسؤولياتها الاجتماعية، واقتصار دورها على الأمن والدفاع والسياسة الخارجية!

والملاحظ أن النيوليبراليين في بلادنا يتجهون إلى الحفل بعد انفضاضه، ويروجون للنيوليبرالية بعد فشلها الذريع وسقوطها المدوي.

أما عند تناولها للإصلاح الاقتصادي فإنّ ورقة الجمعية الاقتصادية تدعو إلى أن يكون العنصر الأول في التنفيذ الفوري هو البدء في برنامج زمني محدد للتخصيص، أي للخصخصة وتصفية القطاع الحكومي أو العام، وأن تكون المهمة الأولى على المدى المتوسط هي البدء بتنفيذ برامج التخصيص، أما على المدى الطويل فالهدف ثابت: إعادة صياغة الدور الاقتصادي للقطاع الخاص ليكون مستثمراً وممولاً ومشغلاً للأنشطة الاقتصادية... أما المهمة الأخطر التي لم تجرؤ ورقة الجمعية على ذكرها بصورة صريحة، فهي خصخصة القطاع النفطي، حيث تعمدت الورقة استخدام تعبير مراوغ وهو "تحرير القطاعات الانتاجية".

وعندما تنتقل الورقة إلى الإصلاح المالي فإن المهمات المطروحة على المدى الفوري تتمثل في "إقرار قانون الدين العام"، من دون أن تطرح الورقة أي بدائل أخرى، ثم تبدأ هجومها على المكتسبات الاجتماعية والحقوق العمالية عبر الدعوة إلى "تجميد مؤقت للزيادات في الرواتب" على المدى الفوري، و"رفع السن التقاعدي" على المدى الطويل، مع دعوة إلى خصخصة الشركات العامة، تحت عنوان "تقييم أداء الشركات العامة التي تمثل عبئاً مالياً وإدارياً على الدولة، واتخاذ قرار بخصخصتها وإعادة تأهيلها"... ولا تحتاج هذه العناوين إلى عناء لكشف طبيعتها الطبقية وانحيازها الصارخ ضد مصالح وحقوق الطبقة العاملة والفئات الشعبية والمتقاعدين.

والملاحظ أن ورقة الجمعية الاقتصادية لا تخفي محاولتها لتحييد المعارضة الشعبية لهذه التوجهات المنحازة طبقياً المسماة بالإصلاحات، حيث تشير أكثر من مرة إلى ما أسمته "تعزيز ثقة المجتمع بالإجراءات الحكومية" و"تعزيز ثقة الشعب في الحكومة ومن ثم تهيأة المجتمع وتقبله ولو بشكل نسبي لأي إجراء إصلاحي في المستقبل" و"تسهيل تقبلها اجتماعياً"... ولهذا فقد حرصت ورقة الجمعية الاقتصادية أن تذر الرماد في عيون الشعب وتطرح بعض عناوين تبدو مقبولة اجتماعياً وشعبياً، ولكنها طرحتها بحذر وحرص وتحفظ، فهي تشير إلى "تفعيل الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد"، بدلاً من تطهير أجهزة الدولة من العناصر الفاسدة وملاحقتها، و"تشديد الرقابة على القطاع الخاص للالتزام بتحقيق النسبة المطلوبة لتوظيف العمالة الوطنية"، بدلاً من إلزام القطاع الخاص ورفع نسبة تشغيل العمالة الوطنية فيه، و"رفع القيمة الإيجارية لأملاك الدولة بشكل تدريجي"، بدلاً من المطالبة بتغيير نظام تأجير أملاك الدولة في القسائم الصناعية والخدمية التي جرى تقسيمها وإعادة تأجيرها إما بسحبها وإعادتها للدولة أو بأن تكون القيمة الإيجارية المدفوعة للدولة بنسبة جدية من القيمة الإيجارية الفعلية لها، وكذلك نجد أن ورقة الجمعية تدعو إلى "وقف الهدر في الإنفاق العام ورفع كفاءته" ولكنها تركز فقط على ترشيد بنود الاستشارات، بينما المطلوب هو ضبط أسعار المناقصات والعقود الحكومية ومنع المبالغة في تقديرها وضبط الأوامر التغييرية التي تمثل أبرز مجالات التنفيع، وكذلك نجد أن ورقة الجمعية تدعو إلى "تطبيق تدريجي لنظام ضريبي شامل" من دون أن تشير من قريب أو بعيد إلى الضريبة التصاعدية على الدخول الكبيرة والضريبة على أرباح الشركات، مع حرصها على أن يكون ذلك بشكل تدريجي وبعد توفير بيئات تشريعية وإدارية وفنية، وهذا غير متوافر الآن، وبالتالي، فإن الحديث عن الضريبة بهذه العمومية مجرد ذر رماد في العيون.

وقد تجاهلت ورقة الجمعية الاقتصادية ثلاثة عناصر أساسية: أولها، تجاهل الربط بين تحقيق الإصلاح السياسي الديمقراطي وما يفترض تحقيقه من إصلاح اقتصادي مستحق وليس ما ورد في الورقة… وثانيها، تجاهل الإشارة إلى مراعاة مبادئ العدالة الاجتماعية عند طرح الإصلاح الاقتصادي، ما يدل على أن الجمعية الاقتصادية غير معنية بحياة وأوضاع معيشة الغالبية الساحقة من المواطنين والسكان من غير رجال المال والأعمال…أما نقطة النقص الفاضحة الثالثة في ورقة الجمعية الاقتصادية الكويتية فإنها تتمثّل في تجاهلها التام لضرورة أن تتوافق الإصلاحات المؤسسية والاقتصادية والمالية مع ما قرره دستور البلاد في المادة ٢٠ من أن "الاقتصاد الوطني أساسه العدالة الاجتماعية وقوامه التعاون العادل بين النشاط العام والنشاط الخاص وهدفه تحقيق التنمية الاقتصادية وزيادة الإنتاج ورفع مستوى المعيشة وتحقيق الرخاء للمواطنين، وذلك كله في حدود القانون"، وبالتالي فإنّ التعاون العادل بين النشاط العام والنشاط الخاص وليس تصفية النشاط العام وخصخصته هو الذي يمثل المنهجية الشاملة للإصلاح الاقتصادي... وهنا نؤكد أننا لا ندعو إلى التضييق على القطاع الخاص، بل ندعو إلى تشجيعه على الاستثمار ومساعدته على العمل في المجالات الانتاجية بشرط أن يتحمّل تبعات قراراته وفشله مثلما ينتفع من أرباحه ونجاحاته، وكذلك لا بد من أن يسهم رأس المال بأداء وظيفته الاجتماعية، التي نص عليها الدستور في المادة ١٦، بحيث يوفر فرص عمل كريمة للمواطنين الكويتيين ويساهم في تمويل الميزانية العامة للدولة.

أخيراً، فإننا في الحركة التقدمية الكويتية نكرر تمسكنا بوثيقة "المقترحات التنموية" التي سبق أن قدمتها حركتنا إلى المجلس الأعلى للتخطيط والتنمية في العام ٢٠١٨، كما أننا نرى أنّ الإصلاح الاقتصادي يمكن أن يتحقق على شكل متوازن اجتماعياً عبر الاستناد إلى الورقة البحثية الهامة المعنونة "قبل فوات الأوان" التي شارك في إعدادها ٢٩ أكاديمياً اقتصادياً كويتياً ونشرت في أواخر شهر نوفمبر ٢٠٢١، وندعو إلى الأخذ بما تضمنته من تحليل موضوعي لعناصر الخلل الاقتصادي في الاعتماد على النفط كمصدر أحادي الدخل، والاختلالات في مجالات المالية العامة وسوق العمل والنظام التعليمي والتركيبة السكانية، وما استندت إليه تلك الورقة الأكاديمية من ركائز أساسية لتصحيح هذه الاختلالات متمثلة في الاقتصاد المستدام، والشفافية ومكافحة الفساد، والعدالة الاجتماعية، والاسترشاد بالدليل العلمي، والاستناد إلى ما طرحته ورقة الأكاديميين الكويتيين تلك من محاور الإصلاح الخمسة بشأن الاقتصاد المتنوع والمستدام، وإصلاح المصروفات العامة، وإصلاح الاختلال في سوق العمل، والاستثمار في رأس المال البشري، وإصلاح اختلال التركيبة السكانية، وغير ذلك مما ورد فيها من توصيات واقتراحات.

الكويت في ٢ مارس ٢٠٢١