في 16 كانون الثاني عام 1858، كتب ماركس الى إنجلز: «إذا كان ينبغي أن أخصص وقتا لمثل هذا العمل مرة أخرى، فإنني أود أن أوضح للإنسان المثقف العادي، في ورقتين أو ثلاث، ما هو العقلاني في المنهج الذي اكتشفه هيغل، لكنه يتسربل بلباس صوفي في الوقت نفسه».

لم يتسن لماركس القيام بذلك، ربما بسبب صعوبة تكثيف هيغل في بضع صفحات حتى بالنسبة لعقل يمتاز بعبقرية غير عادية كما هو الحال مع ماركس. وأظن ان هيغل نفسه يرفض أساسا فكرة إمكانية أو وجوب محاكمته فكريا.

سأحاول هنا معاينة عدد من الأفكار الهامة التي قال بها هيغل، وشرح سبب أهميتها العميقة لماركس عندما كان طالبا.

عالم هيغل

ولد هيغل عام 1770، أي انه كان يبلغ من العمر 19 عاما عندما اندلعت الثورة الفرنسية عام 1789. في حينها وقف الشباب الديمقراطي الأوروبي في حالة من الرهبة من قوة الثورة الفرنسية وكذلك الثورة الأمريكية الكبرى التي امتدت من عام 1775 الى عام 1783 لإزاحة وكنس الأنظمة الملكية.

ها هو الموسيقار لودفيغ فان بيتهوفن يلحن سيمفونيته التاسعة (نشيد الفرح) مستلهما قصيدة للشاعر الألماني فريدريك شيلر التي تحمل نفس العنوان، حيث تغني الجوقة في المقطع الرابع منها: «أيتها الملايين! كونوا متعانقين! .. خذوا هذه القبلة الى الدنيا كلها!». وها هو الشاعر الإنجليزي ويليام ووردزورث يقتفي نفس الأثر ليكتب أبياته الشهيرة عن تلك الأيام «هي السعادة ان تكون حيا ذاك الفجر، ولكن أن تكون شابا فهو النعيم!» وكلاهما (بيتهوفن ووردزورث) ولدا في عام 1770 كما هيغل.

لكن الثورة لم تأت إلى ألمانيا، وقضى هيغل السنوات الخمس عشرة التالية، مواصلا مسعاه لإتقان أفكار عظماء الفلسفة الأوروبية، ومجاهدا في كتابة ما من شأنه أن يلفت الأنظار إليه، كي يحصل على منصب أكاديمي.

حقق غايته أخيرا في مدينة ينا عام 1807 عندما نشر كتابه الرائد فينومينولوجيا الروح أو ظاهريات الروح، متوجا به فترة عمله الجامعي في هذه المدينة، وكان قد أرسل النسخة المعدة للنشر في الليلة السابقة لمعركة ينا في 13 تشرين الأول 1806، ومدفعية نابليون بونابارت تدك المدينة الصغيرة، فتسقط مترنحة تحت أقدام القوات الفرنسية معلنة سقوط الإمبراطورية الألمانية.

بدا لهيغل أن الثورة الفرنسية كانت تغسل وساخة الأمراء الألمان. وكان هذا ما حصل، حيث قامت الحكومة المدعومة فرنسيا بسن إصلاحات مهمة مناهضة للإقطاع على مدى عقد من السنين أو نحو ذلك.

كان هيغل جاهزا ليغتنم فرصة الإصلاحات. فقد احتفي بكتابه الجديد باعتباره يشكل بداية التغيير الفلسفي والفكري الجذري وصياغة أسلوب جديد لفهم التاريخ. وأدت شهرة الكتاب الى قيام الإصلاحيين البروسيين في مجال التربية والتعليم بمساعدته على اعتلاء مواقع أكاديمية انتهت باحتلاله كرسي الفلسفة في جامعة برلين حيث درّس فيها حتى وفاته عام 1831 بمرض الكوليرا (للمزيد عن حياة هيغل انظر كارل ماركس وولادة المجتمع الحديث، دار المدى، 2020).

أفكار عظيمة

لابد من الاعتراف بأن قراءة هيغل صعبة على العموم، وفي كثير من الأحيان صعبة جدا، بل إنها في بعض الأحيان شبه مستحيلة، خاصة إذا لم نكن معتادين على الفلسفة الألمانية في أواخر القرن الثامن عشر، مثل الملايين الذين يعيشون اليوم على هذا الكوكب.

لكننا لا نحتاج إلى قراءة الكثير من هيغل كي نفهم ماركس. بالطبع، إن القيام بذلك سيمنحنا، على الأقل، نظرة ثاقبة حول كيفية تطوير ماركس لنظرياته الثورية الخاصة، وسيوفر لنا تقديرا أكثر ثراء لآرائه حول التغيير الاجتماعي.

في الفقرات الأربع الأولى من الاستهلال لكتاب فينومينولوجيا الروح نجد أن هيغل لا يمتنع عن الاعتذار عن صعوبة كتابه، بل يبرره صراحة، قائلاً إنه «بسبب طبيعة الفلسفة، فانه حتى من غير اللائق، وسيكون نوعا من التضليل» إعطاء ملخص بسيط لفلسفته، لأن غلي الفلسفة لتنشف الى جوهرها لن يمكننا من «فهم تنوع الأنظمة الفلسفية باعتباره كشفا تدريجيا عن الحقيقة»، بل سيجعلنا نرى في «هذا التنوع مجرد اختلافات بسيطة».

يجادل هيغل بأن المعرفة الحقيقية لا يمكن أن تنتقل، ببساطة، من المعلم إلى الطالب كمنتج نهائي، أو كهدية معلبة. التعلم الحقيقي هو عملية تتطلب جهدا مستداما، يجب أن يتجاوز «مجرد بدايات الفهم». ان تبسيط الأفكار إلى حد تحويلها الى مجرد شعارات يجري تكرارها «لن يخلق انطباعا حول جدية العمل وجدية الالتزام الجاد بالقضية المطروحة. فالقضية الحقيقية لا تنتهي إذا ما قلنا إنها الهدف، وليس النتيجة هي الكل الفعلي، بالأحرى، إنها النتيجة مع العملية التي ولّدت هذه النتيجة».

إذا فكرنا في الأمر بعمق سنجده مثير للاهتمام حقا. يجادل هيغل بأن الرحلة لا تقل أهمية عن الوجهة - إنها جزء ضروري من الكل. في الواقع، إذا ركزّنا فقط على الوجهة التي نبتغيها، فلن نتعلم أبدا كيفية الوصول إليها. ان هذه النظرة إلى المعرفة، كعملية، هي واحدة من أهم الأشياء التي أخذها ماركس من هيغل.

في نفس الفقرات، قدم هيغل أحد أفضل الأمثلة على ما يمكن أن يطلق عليه الديالكتيك. بادئ ذي بدء، الكلمة نفسها في الأصل (من اليونانية) تعني ببساطة حوارا بين شخصين يحاولان الوصول إلى فهم مشترك للحقيقة. لذلك في كل مرة نتحدث فيها مع صديق عما نأكله على العشاء، فأننا نمارس الديالكتيك. كباب، لا. دجاج، لا. فلافل نعم!

بالطبع، يعطي هيغل معنى أوسع للمصطلح كما يوضح مع هذا المثال من الطبيعة:

«يختفي البرعم مع تفتح الزهرة، ويمكن للمرء أن يقول إن الزهرة قد نفت البرعم؛ وبالمثل، عندما تظهر الثمرة، تظهر الزهرة بدورها كمظهر خاطئ للنبات، وبدلها ستظهر الثمرة الآن كحقيقة للنبات. ان هذه الأشكال لا تتمايز فقط عن بعضها البعض، بل تحل أيضا محل بعضها البعض، تتبادل المواقع، باعتبارها أشكالا غير متوافقة، ولكن، في الوقت نفسه، فأن طبيعتها السلسة تجعل منه لحظات من وحدة عضوية لا تتعارض فيها فحسب، بل يكون فيها كل شكل ضروريا مثل الآخر؛ وهذه الضرورة المتبادلة وحدها هي التي تشكل حياة الكل».

تشكل الأفكار الأساسية الواردة هنا اللبنات الأساسية لمفهوم هيغل المحدد عن الديالكتيك: التغيير من خلال الصراع (الثمرة تنفي الزهرة التي كانت قد نفت البرعم، وهو ما نسميه بالفلسفة قانون نفي النفي)؛ ثم قانون وحدة وصراع الأضداد (البرعم والزهرة والثمرة أشكال تختلف عن بعضها البعض لكنها تحل محل بعضها البعض)؛ تغير الكمية إلى نوعية (النمو المتزايد داخل البرعم «يتفتح» فجأة إلى شيء جديد تماما)؛ وأهمية فهم كامل العملية وليس النظر اليها باعتبارها مجرد مراحل جزئية («لحظات من الوحدة العضوية»).

ثم يطبق هيغل هذه الرؤية على مدى 500 صفحة تقريبا لإظهار كيف أن الفكر والثقافة السابقين، اللذين يغطيلن آلاف السنين، كانا في الحقيقة عملية أصبحت من خلالها «الفاكهة» (وهو ما أسماه «المعرفة المطلقة»، أو الرب) مدركا لذاته ... وكيف كان هيغل، الوحيد، الذي تمتع بالذكاء لإدراك ذلك. وهذا هو السبب في أن ماركس قال إن نسخة هيغل للديالكتيك «يلفها التصوف».

عرض مقالات: