كما هو معلوم، فأنّ الحياة في المناطق الجبلية المعزولة عن العالم محفوفة بمخاطر جمة، فبالإضافة الى العمليات الحربية، هناك ثلوج وسيول وعواصف وتضاريس معقدة تقطع السبل وتمنع التواصل، وهناك ايضا جوع حقيقي، وحرمان من ابسط وسائل العيش الطبيعي، وشحة كبيرة بالادوات التي يحتاجها الشيوعيون لأداء مهماتهم المختلفة. لكنّ هذه الصعوبات لم تمنعهم يوما من البحث عن كل ما يخفف من وطأة الحياة البدائية التي يعيشونها، وخاصة في ما يتعلق بمجالات الثقافة والمعرفة والجمال، فلم يشكل العمل العسكري اهتماما وحيدا للشيوعيين، بل كانت هناك ميادين عديدة جعلوها ضمن سلّم اولوياتهم وبذلوا مساعي كبيرة من اجل انجازها، فبالاضافة الى الفعاليات الرياضية والموسيقية والندوات الثقافية والعروض المسرحية، اهتم الانصار الشيوعيون بالكتابة الورقية وابتكروا الوسائل من اجل تحقيق كل ما من شأنه المساهمة في تنمية العقل والروح وديمومة الحياة، فصدرت مجلة النصير الثقافي في عام 1980 وهي أول مجلة دفترية تصدر في منطقة بهدينان، وتضمن عددها الأول بالاضافة الى الشعر والقصة والمواد الاخرى تعريفا بالمجلة، كتبته هيئة تحريرها وجاء فيه: (انطلاقا من مباديء وسياسة حزبنا في ضرورة تطوير الوعي الثقافي لأعضائه وجماهيره يأتي عدد مجلتنا النصير الثقافي الخاص بالانصار الشيوعيين في القاعدة الأولى ليساهم بتواضع في هذا المجال، ان صدور هذا العدد من المجلة ليس الاّ فاتحة عهد لمساهمة كافة الرفاق في تطويرها ودفعها باتجاه ممارسة دورها كوسيلة هامة وفعالة من وسائل اعلام وثقافة حزبنا الثورية الجديدة....ألخ)). كما صدرت في شباط من نفس السنة جريدة نهج الانصار (ريبازي بيشمه مركة) والتي تحولت في عام 1982 لتكون جريدة يصدرها المكتب العسكري المركزي وباللغتين العربية والكردية، وصدرت كذلك عن منظمة اقليم كردستان جريدة ريكَاي كردستان في عام 1980 وباللغتين العربية والكردية ايضا، وبعد ذلك توالى ظهور النشرات والمجلات والجداريات في مختلف الاماكن من كَرميان وسوران وبهدينان بما في ذلك السرايا والفصائل التي تتجول بين القرى والقصبات. وبسبب حاجة الحزب الملحة الى فضح سياسة النظام القمعي امام جماهير شعبنا والرأي العام العالمي وخاصة الاصدقاء الذين مازالت الصورة مشوشة وغير واضحة بالنسبة لهم، وصلت الى كردستان في عام 1980 أول آلة طابعة مع رونيو، كما دخلت في نفس العام ايضا اذاعة صوت الشعب العراقي، ثم تكاثفت الجهود حتى بات لا يوجد مكان في كردستان الاّ وفيه نشرة او صحيفة او جدارية، واستطاعت هذه النشرات البسيطة ان تعبر عن آراء وافكار الأنصار في جميع المجالات السياسية والحزبية والعسكرية والاقتصادية والثقافية، بالاضافة الى انها فجّرت الطاقات الابداعية الكامنة لديهم، فكتبوا في النقد الادبي والمسرحي وألفوا القصائد والقصص والنصوص الأدبية المتنوعة، وكذلك ابدع البعض منهم في مجال الرسم والكاريكاتير، وقام الأنصار بتوزيع صحافتهم في القرى والمناطق التي يصلون اليها، كما ارسل الحزب الكثير منها الى عمق الوطن وخاصة تلك التي تتناول مواقف الحزب السياسية وتحتوي على عمليات الأنصار البطولية. لقد عبّرت هذه النشرات الصحفية عما يجول في اذهان وخواطر الشيوعيين في ذلك الوقت، بالاضافة الى انها جاءت كتعويض عما افتقدوه من ممارسات ثقافية في الاجواء الاعتيادية السابقة، اما الأسباب الأخرى لصدور هذه الجرائد فتجيب عنها افتتاحيات بعضها، فقد جاء في افتتاحية العدد الأول من مجلة الجبل الأبيض: ((مرة اخرى نفر من الانصار في (كَلي رمانة) يناقشون اصدار مجلة تحوي ما تجود به اقلامهم، فخرجت بخط اليد وعلى ورق الدفاتر المدرسية، وبنسختين فقط وكانت تحمل بين صفحاتها بشائر طاقات..... الخ).
وكتبت مجلة هرور التي اخذت اسمها من (قرية هرور) التي حوّل القصف الوحشي بيوتها الى حطام: (إذا كان لابد ان نحمل السلاح، ونجوب ذرى وطننا الحبيب كي نضع شعار حزبنا موضع التطبيق، فلابد ايضا ان يكون على الأقل من بديل لتلك المكتبات التي كنّا نمتلكها، وتلك الصحف التي كنّا نطلع عليها، وبديلنا هذا هو محاولة لكي نكتب ونتبادل الافكار وننقل ما هو ضروري ومفيد ....)، وكتبت ايضا: (كنا نريد لهرور ان تكون نشرة جدارية، لكننا لم نجد الجدار الذي نضعها عليه، فكتبناها في دفتر مدرسي!).
اما مجلة قنديل فقد كتبت: ((انها تتوخى خلق اجواء ثقافية وادبية ودفع رفاق السرية للمساهمة في الكتابة تطويرا لامكانياتهم وبالتالي صب كل الجهود في خدمة صحافتنا الحزبية وتطويرها...).
وجاء في افتتاحية الخطوة (كافه ك) : ((نريدها ان تكون محطة نافعة لنصيرنا الذي ارهقه المسير في الليل ونشاطات النهار المختلفة، الى جانب البحث المضني عن الكلمة الصادقة خدمة لشعبنا ومصلحة الطبقة العاملة....).
وتقول الشظايا في افتتاحيتها: (انها تحرص على الكتابة الهادفة في الأدب والفن والتراث والفكر العلمي، وكذلك المذكرات الشخصية للانصار التي تعكس نضالهم اليومي وهم يقارعون سياسة البطش والاستبداد...).
وهكذا كانت بقية المجلات والجرائد والجداريات وعددها بالعشرات تستجيب لحاجات النصير المتعطش للقراءة ومتابعة المستجدات السياسية والثقافية، كما كانت ميدانا واسعا للتعبير عن طموحات الشيوعيين الأنصار واحلامهم في وطن تسوده العدالة والحرية والعيش الكريم، اضافة الى انها كانت صفحات مهمة لتسجيل الذكريات واليوميات التي نحن اليوم بحاجة لها كوثائق تؤرشف تاريخ هذه التجربة الفريدة التي خاضها حزبنا الشيوعي العراقي في مواجهة اعتى سلطة قمعية عرفها تاريخ العراق، لكننا وبسبب ظروف الحرب القاسية فقدنا تلك الصحف والمجلات والتي بفقدانها نكون قد فقدنا كنزا من وثائق تسجيل تاريخ الحركة التي كُتبت من وجهة نظر الشيوعي الصانع الحقيقي لملاحم تلك السنوات.