لا يختلف المنصفون والباحثون الاكاديميون حول تحديد هوية ثورة 14 تموز بكونها ثورة سياسية - اجتماعية من طراز رفيع، بل في عداد أبرز الثورات الوطنية الاجتماعية التي حدثت في القرن العشرين. فهذه الثورة تعد سياسية لكونها غيرت جذرياً من هوية البناء السياسي للنظام شبه الاقطاعي وشبه المستعمر الذي كان قائماً في العهد الملكي، وحولته إلى نظام جديد لصالح الفئات الاجتماعية التي لها مصلحة في سيادة البلاد وازدهارها ورفع الغبن عن مواطنيها المظلومين اجتماعياً وطائفياً وقومياً. وفسحت الثورة المجال لكل العراقيين في ممارسة حقهم في الانخراط الواسع في النشاط السياسي. كما إن هذه الثورة أجرت تعديلاً جذرياً في علاقات العراق الدولية لينحاز إلى قوى التحرر الساعية إلى بناء علاقات دولية عادلة وديمقراطية، ورفض المنظومة الاستعمارية ومنظومة الأحلاف العسكرية التي سممت العلاقات الدولية، وبناء العلاقات الدولية على أساس المصالح المشتركة بين الدول بغض النظر عن هويتها السياسية والاجتماعية وليس على الوصايات والانتدابات.
كما إن ثورة تموز تعد ثورة اجتماعية. فقد ألغت النظام شبه الاقطاعي، الذي ساد ريف العراق وألحق الظلم بغالبية الفلاحين، من خلال توزيع أراضي الدولة والأراضي التي سطا عليها الاقطاعيون في العهد الملكي، وحدّت من نفوذهم عبر إلغاء المنظومة التشريعية التي تكرس سطوة هذه الفئة الاقطاعية في الريف العراقي. وهذا هو أهم، بل وفي مقدمة ما أنجزته هذه الثورة الاجتماعية بتحرير جزء كبير من السكان ، الفلاحون، من حالة التهميش والتبعية والظلم. كما حققت هذه الثورة الاجتماعية أهم منجزاتها في إنصاف وتحرير نصف سكان العراق، أي المرأة العراقية، من طائلة التهميش والتمييز واللامساواة والتجهيل، من خلال تشريع قانون الأحوال الشخصية. كما شرعت الثورة باتخاذ خطوات جادة لمعالجة التمييز الطائفي والعرقي والقومي الذي أعتمد في بناء الدولة في العهد الملكي، عندما أكدت الثورة في دستورها المؤقت على أن العراقيين سواسية أمام القانون وشراكة العرب والأكراد في هذا البلد. وعلى هذا الاساس شرع بتوزيع مناصب المسؤولية على أساس الكفاءة وليس على قاعدة الهيمنة الطائفية أو العرقية. وشرعت الثورة بتنفيذ أوسع حملة في تاريخ العراق لمحو الأمية ونشر وتوسيع التعليم الابتدائي والثانوي والجامعي والشروع بحملة لبناء شبكة واسعة من المدارس والمؤسسات التعليمية، وتوسيع البعثات الدراسية إلى الخارج. وبادرت الثورة بحملة هي الأوسع في تاريخ العراق للتخفيف من أزمة السكن وإزالة السكن العشوائي المهين والمخجل في أطراف المدن الرئيسية وخاصة في بغداد- الشاكرية. وخلال أقل من خمس سنوات من عمر الثورة جرى بناء العشرات من المشاريع الاقتصادية الضخمة التي أصبحت القاعدة الأساس لأية نهضة صناعية في البلاد. وأخذت الثورة على عاتقها مهمة الوقوف بوجه الفساد والمحسوبية والرشوة عن طريق تعيين عراقيين خبراء وإكفاء في المناصب الحساسة مما يسر للحكم أن ينجز خطوات جذرية ومنجزات كبيرة خلال فترة زمنية قصيرة جداً. كما وفر هذا الطاقم النزيه الفرصة لتحقيق حلم العراقيين في تحرير الاقتصاد العراقي والحد من سيطرة الاحتكارات النفطية أو القيود المالية الأجنبية بسبب ارتباط العملة العراقية في العهد الملكي بالاسترليني. هذه المنجزات التي تحققت خلال عمر قصير لم تحققها أية من الحكومات التي تولّت المسؤولية في العراق.
والقائمة تطول لتعداد ما أنجزته الثورة وفي أقل من خمس سنوات، هذه المنجزات التي لو كتب لها الاستمرار لتحول العراق إلى دولة النموذج في الشرق الأوسط. لقد كان من الطبيعي أن يولّد هذا الحدث الكبير بعمقه السياسي والاجتماعي استنفاراً عدائياً وردود فعل سلبية داخلية واقليمية وخارجية من قبل القوى التي لا ترى لها مصلحة في هذه الانعطافة في مسيرة العراقيين وبناء دولتهم الجديدة. وهكذا مدت هذه القوى الجسور مع القوة الاجتماعية والسياسية التي أزاحتها ثورة 14 تموز المجيدة، ناهيك عن مد الجسور مع القوى الخارجية التي وقفت عائقاً امام بلداننا في التحرر والبناء والتقدم. فالتيار القومي المتطرف في العراق انقلب على كل طروحاته التي أعلنها قبل ثورة تموز، ليمد الجسور داخلياً مع قوى الرجعية والارتداد، وخارجياً مع القوى التي كانت عائقاً أمام تحرر العراقيين وبناء دولتهم المستقلة المزدهرة، من شركات النفط إلى الأجهزة الأمنية للولايات المتحدة وبريطانيا ودول الجوار التابعة لهما. وأصبح كل هم هذا التيار هو الدخول في صفقات مشبوهة خارجية، وحبك المؤامرات والانقلابات العسكرية ضد النظام الجديد وبذرائع قومية أو دينية كاذبة، وبدعم من قوى عربية ودولية للأجهاز على الحكم الجديد بغض النظر عن هوية وشروط هذا الدعم. وشاركت تيارات دينية متطرفة هي الأخرى في هذه الحملة ودخلت في تحالفات مع التيار القومي العربي الطائفي المتطرف.
لقد كان الغدر ونكران الجميل هو القاسم المشترك لكل تلك القوى القومية والدينية المتطرفة التي ساهمت في إجهاض هذا المنجز التاريخي للشعب العراقي وإغراقه بحمامات الدم. فقد قوبلت مقولة الزعيم عبد الكريم قاسم «عفا الله عما سلف» بعد محاولة اغتياله من قبل حزب البعث، بالمزيد من التآمر وإغراق العراق بدوامة العنف ونزف الدماء. فهذا الحزب تحول بسرعة بعد ثورة تموز من حزب سياسي إلى مجموعة من البلطجية والشقاوات الذين تحركهم هستيريا التطرف القومي والديني بعد أن تسلطت عليه أكثر قوى التخلف في بلادنا. وهكذا إرتهن هذا الحزب لأجندات مشبوهة لإرادة قوى إقليمية وخارجية. وهذا ما يؤكده اعتراف بعض قادته والوثائق الكثيرة التي نشرت في الآونة الأخيرة. ولم تلق ثورة 14 إلاّ «نكران الجميل والعقوق» من محيطنا العربي، التي لم تهتد بالمثل العربي « وما جزاء الإحسان إلاّ بالإحسان»، وهو الداء الذي أبتلت به النخب المتطرفة القومية العربية. فقد بادرت حكومة الثورة إلى أرسال الكثير من أسلحة الجيش العراقي الغربية المنشأ إلى جيش التحرير الوطني الجزائري لمقارعة الاستعمار الفرنسي، بعد أن بادرت الثورة إلى إعادة تسليح الجيش العراقي بأسلحة شرقية المنشأ. كما أقدمت الثورة وإداراكاً منها لمظلومية الشعب الفلسطيني على تأسيس «جيش التحرير الوطني الفلسطيني» وتسليحه بالأسلحة الغربية التي كان يتسلح بها العراق في العهد الملكي. وبدلاً من أن تبادر غالبية النخب الجزائرية والفلسطينية برد الجميل للمبادرة العراقية، إلاّ أنها ناصبت العداء الشديد للثورة العراقية واتهام زعمائها بأفظع وأرخص الاتهامات، من عمالة عبد الكريم قاسم لبريطانيا وتهمة «قاسم العراق» وحرق القرآن من قبل أنصار الثورة إلى حد اتهام زعيم الثورة «بالجنون» وعلى لسان «زعيم القومية العربية» جمال عبد الناصر في خطاباته وأجهزة دعايته المغرمة بالأكاذيب والتهريج، والتي تعفف الزعيم عبد الكريم قاسم ولم يرد عليها ولو لمرة واحدة. وقامت منظمات فلسطينية مسلحة حتى بالتسلل إلى العراق، وقد أعتقل بعض قادتها في بغداد من الذين مازالوا على قيد الحياة، لتدريب المتآمرين على حرب الشوارع والمشاركة في أعمال العنف ضد العراقيين، بالرغم موقف الثورة التضامني المشرف من الشعوب العربية وخاصة الشعب المغربي وقضية استقلاله واستقلال وسيادة جميع الشعوب العربية.
إن نكران الجميل لم يقتصر على من مدت يد الثورة لهم من العرب، بل طال حتى بعض العراقيين الذين عانوا ما عانوا من المنهج الطائفي الذي سارت عليه جميع حكومات العهد الملكي. فمن المعلوم إن الثورة وجهت ضربة قوي للنهج الطائفي وراحت تعالج الآثار المشينة لهذا النهج. وفتحت الثورة الأبواب أمام العراقيين وبشكل متساو لتولي المناصب الحكومية. وهذا مكسب كبير قد زعزع الأسس
لهذا المنهج الضار بوحدة وسيادة العراق، وأصبح جميع العراقيين سواسية أمام القانون، وليس هناك من يحتل المرتبة الثانية في سلم المواطنة، وسمحت لمن بقي في العراق من المواطنين العراقيين اليهود بعد تهجيرهم من الحصول على الحق في الدراسة في المعاهد العلمية العراقية والعمل في مؤسسات الدولة بعد أن حرموا منها في العهد الملكي بذريعة قيام دولة إسرائيل. ولكن من الغرابة أن سعت بعض الرموز الدينية إلى تجاهل كل هذه الخطوات الإيجابية، فناصبت الثورة العداء بفعل ضغوط إقليمية من شاه إيران، ومدت الجسور مع أقطاب التمييز الطائفي في الداخل ليدخلوا في حلف غير مقدس للإطاحة بالحكم الوطني في انقلاب شباط الأسود. وتكرر نفس المشهد عندما تورطت قيادات في الحركة القومية الكردية، بالرغم من الموقف الإيجابي للثورة من الحركة القومية الكردية حيث قامت بدعوة المرحوم الملا مصطفى البارزاني للعودة إلى الوطن، بفعل ضغوط بعض المتطرفين القوميين وأوساط اقطاعية كردية تضررت من قانون الإصلاح الزراعي وحررت الفلاح الكردي من عسف الأغوات، باللجوء وبدون ترو وتبصر وتدقيق في العواقب بسرعة إلى إشهار السلاح عند أول خلاف مع قيادة الثورة، مما أوقعها لاحقاً في دوامة الارتهان لأطراف إقليمية ودولية ومد الجسور مع انقلابيي شباط الأسود في عام 1963. وعاد هذا الارتهان البالغ الخطورة بأفدح الأضرار على الشعب العراقي بكل مكوناته وعلى قضية الأكراد العادلة بالذات في اتفاقية الجزائر عام 1975 التي مثلت انهياراً سياسياً وأخلاقياً بالارتهان إلى قوى إقليمية ودولية.
إن ما يحتاجه العراقيون اليوم هو إعادة الاعتبار لهذه الثورة المجيدة ومثلها ورموزها، ومن الذين ضحوا بحياتهم من أجلها ومن أجل رفعة العراق العزيز وشعبه. فرموز هذه الثورة كانوا مثالاً للنزاهة التي انتهكت حتى النخاع في العقود الأخيرة، وكانوا رمز الوطنية الحقة التي استبيحت على يد جلادي العراق من حكام البعث وفلوله. فبدلاً من إنصاف هذه الثورة ورجالتها، يجري البحث عن وقائع وحوادث وانتهاكات بالحديث عن «مجازر» وعنف و «سحل» لإلصاقها بالثورة ومسيرتها، في حين أن من فقد حياته في ذلك الحدث لم يتجاوز عدد أصابع اليد، ولا يمكن مقارنة هذه الضحايا بضحايا ثورات أخرى مثل الثورة الفرنسية وثورات أخرى كانت حافلة بالضحايا. وعلى الباحثين الذين يفتشون عن هكذا انتهاكات ويفبركون الإتهامات ضد ثورة تموز، أن يتحلو بالحقيقة التاريخية ويسعوا إلى التخلي عن الإتهامات الزائفة ضد من ساهم بالدفاع عن هذا الحدث الكبير في حياة العراقيين، وأن يعملوا بصدق الباحث الأكاديمي الموضوعي لرفع الغبن عن الضحايا من ضباط تموز البواسل الذين هم من خيرة ضباط الجيش العراقي، ورفع الغبن عن الأحزاب الوطنية التي قدمت الضحايا الكبيرة والغالي والرخيص لحماية هذا المنجز التاريخي للعراقيين، من الذين انتهكت أعراضهم ونواميسهم ونفوسهم وأملاكهم عند هبوب السحب السوداء في شباط عام 1963. فإن ثورة 14 تموز ومجدها لا يحتاجان إلى قرار وزاري عابر أشبه بالاستجداء يقضي بإعتبارها عطلة رسمية، بل يحتاج إلى تشريع من قمة المؤسسة التشريعية بإعتباره يوماً وعيداً وطنياً أجمع عليه العراقيون في 14 تموز عام 1958، وإرجاع كل هويتها وعلمها وشعارها وتعريف المواطن العراقي بأهدافها وقيمها. فالعراقيون بغالبيتهم احتفظوا ومازالوا يحتفظون في ضمائرهم ووجدانهم بقيم ثورة تموز المجيدة، رغم المحن والتشويه والتزوير والعواصف الصفراء التي عصفت ببلاد الرافدين. وعلى من ساهم في وأد هذا الوليد العراقي الأصيل، وبعضهم يتصدر الآن مقاليد السلطات في بلادنا، أن يعتذروا لهذا الشعب الجريح ولهذه الثورة المغدورة، وبذلك يزيلوا عن كاهلهم تلك الذنوب التي ستبقى عالقة بهم إن لم يكفروا عنها. إننا الآن وفي هذا الظرف العصيب الذي يمر به العراق، بحاجة لقيم هذه الثورة المجيدة من أجل الخروج من نفق الطائفية ومحاصصتها والفساد الخطير وآثاره المدمرة والتلكؤ والعرقلة في إعادة بناء الوطن واللهاث وراء المكاسب الحزبية بدلاً حل المشاكل الخطيرة التي يعاني منها المواطن العراقي في الخدمات والأمن، فنحن بحاجة إلى تلك القيم من أجل إعادة عجلة الاقتصاد بالدوران والخروج من الركود الفعلي الذي يمثل حاضنة مناسبة لقوى الارتداد والرجعية والإرهاب.