كتب جيفري سميث، المدير المؤسس لمنظمة (فانجارد) غير الربحية المؤيدة للديمقراطية، ونيك تشيزمان، أستاذ الديمقراطية في جامعة بيرمنجهام، تقريرا في مجلة «فورين بوليسي» الأمريكية حول حاجة الولايات المتحدة نفسها إلى تطبيق برامج الديمقراطية التي تروج لها وتمولها في الخارج.
يدعو الكاتبان القراء إلى تخيُّل المشهد التالي: بلد يحترق. مجتمعات الأقليات ومناصروهم يجتاحون المدن الكبرى للاحتجاج على انتهاكات حقوق الإنسان وانعدام المساواة. رئيس غوغائي (ديماجوجي؛ يحاول إقناع الآخرين باستغلال مخاوفهم وأفكارهم المسبقة) مثير للانقسام، يؤيد العنف علنا ضد منتقديه، في محاولة أنانية لتعزيز دعمه المنحسر. وإعلام، كان يوما ما مؤسسة محترمة، أصبح عالقا على خط إطلاق نار حقيقي، وعرضة لخطر الاعتقال والهجوم. وشرطة لم تعد موضع احترام بوصفها ضامنا لحكم القانون، بل بات ينظر إليها على أنها تهديد للسلامة العامة.
سحب الدخان واضحة في العاصمة، ومباني الحكومة والأحياء يزينها الجرافيتي المناهض للمؤسسة، بينما تُضرَم النيران في مقرات قيادة الشرطة، وتُحَطَّم واجهات المتاجر، وتدوِّي صافرات سيارات الإسعاف، فيما يتعالى أزيزر المروحيات فوق الرؤوس، ويكتمل المشهد بفرض حظر تجوال في كل أنحاء المدينة.
هذا بالضبط هو طراز الدول التي تنفق الولايات المتحدة بانتظام ملايين الدولارات فيها من أجل الارتقاء بالديمقراطية. ولكننا اليوم لا نتحدث عن جمهورية الكونغو الديمقراطية أو الفلبين أو فنزويلا، بل عن الولايات المتحدة نفسها. والمفارقة هي أن الولايات المتحدة في أمس الحاجة الآن إلى نوعية برامج المعونة الديمقراطية التي تنفذها بانتظام «هناك» في ما يعرف بالدول النامية.
يضيف المقال: ومن المؤكد أن خطوط الصدع المتأصلة في الحمض النووي للديمقراطية الأمريكية ليست شيئا جديدا. صحيح أنه من المزعج رؤية حوادث على غرار مقتل جورج فلويد على يد ضابط شرطة أبيض أثناء ارتدائه الزي الرسمي، وانفجار الغضب الذي أعقب ذلك، لكن لا ينبغي أن يكون ما حدث بمثابة صدمة.

العنصرية المؤسساتيةوالحرمان الاقتصادي

يلفت الكاتبان إلى أن العنصرية والتصدعات المؤسساتية الكبيرة، والفجوات المتزايدة بين من يملكون ومن لا يملكون، والنظام السياسي الذي يفضل الشكل على الجوهر في الحملات الانتخابية وتقييم المرشحين، لطالما شوَّهت المكانة الديمقراطية للولايات المتحدة. ومواطن القلق هذه لم تتجسد بين عشية وضحاها، وإنما هي النتيجة الحتمية لرفض «أقوى ديمقراطية» - حسبما تصف أمريكا نفسها – الاعتراف بأوجه قصورها ومعالجتها بإخلاص.
في الواقع، الولايات المتحدة في أمسِّ الحاجة إلى نوعية برامج تعزيز الديمقراطية، التي لطالما دافع قادتها عنها في الخارج، استنادا إلى توافق بين الحزبين بشأنها.

أمريكا تختلف عن نظرائها بما يجعلها فوق مستوى النقد

يرى الكاتبان أن الرضا عن الذات، الذي يظهره القادة السياسيون الأمريكيون، يعد عميق الجذور، ولاسيما في واشنطن، إذ يبدو أن المسؤولين من كل الأطياف مطمئنون، ويا للغرابة، وهم يشاهدون رأي العين التآكل المنتظم لنواميس البلاد الديمقراطية.
في صلب هذا المرض ثمة مكوّن ثقافي عميق يعود بجذوره إلى مفهوم الاستثنائية الأمريكية. ووفقا لهذه النظرة العالمية، يجرى تصوير الولايات المتحدة وتصورها، وفي الغالب يؤمن مواطنوها بأنها أساسا تختلف عن نظرائها العالميين، على نحو يرفعها غالبًا فوق مستوى النقد.
هذا الميل لتمجيد الديمقراطية الأمريكية عززه عمل بعض المنظمات التي تحلل الاتجاهات الديمقرطية العالمية – مثل «فريدم هاوس» – التي صورت منذ زمن بعيد المشروع الأمريكي بوصفه النموذج المختصر لما يجب أن تبدو عليه دولة ديمقراطية. وبكلمات أخرى: يجب أن تكون هي المعيار، الذي يتعين الحكم على الدول الأخرى وفقًا له.
وعلى الرغم من أن منظمات مثل «فريدم هاوس» ومنظمات أخرى أثارت مؤخرا مخاوف جادة حول تدهور مستوى للديمقراطية الأمريكية، وتداعياتها العالمية، إلا أن هذا لم يتغلغل تماما إلى عمق الوعي الوطني بعد.
نتيجة لذلك، يرى الكاتبان أن هذه الحلقة المشوهة من التغذية الراجعة (تقويم الأداء بهدف تصويب الأخطاء)، والافتراض السائد عن قوة مؤسسات الولايات المتحدة ونواياها الطيبة، أسهمت في التغطية على عيوب البلاد الجوهرية. وعلى مدى السنوات العديدة الماضية خاصة، شمل هذا التهميش الاقتصادي والسياسي المستمر لجماعات الأقليات، والتمثيل المتدني البائس للنساء في المواقع الانتخابية، والتلاعب بتقسيم الدوائر الانتخابية إلى حد كبير، بما يخلق مجالا لانعدام التكافؤ السياسي، وتحريض مسؤولين منتخبين متطرفين على العنف السياسي، وتأثير تدفق الأموال بكميات كبيرة في تشويه المشهد السياسي بدرجة صارخة.

العملية السياسة المعيبة

وتساعد هذه الخلفية في شرح السبب في أن هناك قبولا غريبا للعملية السياسية المعيبة في الولايات المتحدة، بما فيها الانتخابات. وكان أكثر الأمثلة تطرفا هو تأييد المؤسسة السياسية تولي برايان كيمب منصب حاكم جورجيا في عام 2018، على الرغم من المخالفات الفادحة والتمييز المنهجي، ونزع حق الاقتراع الذي أمَّن فوزه.
ومن الواضح أن كيمب، الذي كان يعمل في الوقت نفسه سكرتيرا للولاية أثناء خوضه الانتخابات لتولي المنصب، سعى إلى جعل التصويت أكثر صعوبة لمؤيدي خصمه، ولاسيما للملونين، الذي كانوا يدعمون منافسته، ستاسي أبرامز، بقوة ساحقة. ولم يكن مدهشًا أن جورجيا في الأسبوع الماضي كانت محور انتقادات واسعة النطاق بسبب تعاملها المزري مع الانتخابات المحلية.
وعلى الرغم من الأضرار التي تلحقها مثل هذه العمليات الاستبعادية بالديمقراطية، فإن القادة السياسيين الأمريكيين دأبوا على العمل بعضهم ضد بعض بنشاط لمنع الإصلاح. وحقيقة أن مشروع قانون مجلس النواب رقم 1، الذي يحمل اسم: «قانون من أجل الشعب»، والذي أقره مجلس النواب في عام 2019 – لتوسيع الوصول إلى صناديق الاقتراع وتقليص تأثير الأموال الضخمة في السياسة، وتقوية قواعد الأخلاقيات للموظفين العموميين – أعاقه مجلس الشيوخ، هو تجسيد تام لهذه المحنة.
وسخر ميتش ماكونيل الزعيم الجمهوري لمجلس الشيوخ علنا من مشروع القانون، وتعهد بعدم السماح بالتصويت على مادته، وهو السلوك الذي يصفه الكاتبان بأنه غير ديمقراطي، اعتادت الحكومة الأمريكية على إدانته حين يحدث في دول أخرى.

ترامب ساعد في التعجيل بتردي أمريكا

يكمل الكاتبان عرض فكرتهما، فيحمِّلان الرئيس دونالد ترامب – وهو في نظرهما قائد يتهمانه بانتهاك مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان في خطابه وممارساته – مسؤولية في التعجيل بتردي أمريكا. غير أنه في كثير من الأحيان يركز المعلقون على ترامب كما لو كان وحده الذي يفسر سبب اضمحلال الديمقراطية في البلاد. أما في الواقع، فهو مجرد عرَض أكثر منه سبب لإصابة النظام السياسي بالتمزق، واتسامه بالاستقطاب المتزايد، وانعدام الثقة على مدار سنوات.
وفي ضوء التداعي الواضح للديمقراطية الأمريكية، من المدهش أنه خلال السنوات الأخيرة، أنفقت الحكومة الأمريكية الكثير من الوقت والطاقة والموارد في محاولة لجعل «الديمقراطية تنجح» خارج حدودها بدلا من إنجاحها في الداخل. ومنذ بداياتها المتواضعة في أواخر الثمانينيات من القرن العشرين، يقدر أن الإنفاق العالمي على تعزيز الديمقراطية بلغ الآن نحو 8 إلى 10 مليار دولار سنويا (على الرغم من أن الإنفاق الأمريكي انخفض خلال السنوات الأخيرة، حتى في ظل إدارة أوباما ).
يستدرك المقال: لكي نكون واضحين، فإن هذا الإنفاق ليس شيئا سيئا – وعندما ينفذ بصورة استراتيجية وبتركيز طويل المدى، تكون البرامج الداعية للديمقراطية وسيلة فعالة من حيث التكلفة لحماية وتعزيز حقوق الملايين، وتحسين سبل معاشهم في أنحاء العالم.
تخيَّل إذا ما كان على الموظفين المتفانين الذي يعملون في الوكالة الأمريكية للمعونة الدولية، أن يتوجهوا إلى بلادهم من مواقعهم في دول مثل نيجيريا، والعراق، وأفغانستان، وبنجلاديش، لإجراء تقييم للانتخابات في نورث كارولاينا، وجورجيا، وويسكونسون. من المؤكد أنهم سيستنتجون أن الكثير من المشروعات التي ينفذونها في الخارج يمكن أن تساعد في تقوية النظام السياسي الأمريكي في وقت تعد الحاجة إليها ماسة.

أمريكا بحاجة إلى برنامج للتجديد الديمقراطي

وما تحتاجه الولايات المتحدة اليوم في الحقيقة – كما يقول الكاتبان – هو: برنامج للتجديد الديمقراطي، يتعلم من التجارب التي أثبتت أكبر فعالية في أنحاء العالم. ويتعين أن يشمل هذا إجراءات فورية مصممة لتقليص مخاطر زعزعة الاستقرار السياسي – والعنف المحتمل – في انتخابات نوفمبر (تشرين الثاني) القادم وعملية إصلاح طويلة الأجل لإعادة بناء الثقة في النظام السياسي.
أولا: تحتاج الولايات المتحدة إلى برنامج حقيقة وعدالة ومصالحة، لمعالجة إساءة معاملة يد الشرطة وقوات الأمن ذات الصلة للأقليات العرقية. ففي بلدان مثل جنوب أفريقيا، حيث سعى نظام الفصل العنصري صراحة إلى مفاقمة الانقسامات العرقية، أدت برامج على هذا الطراز إلى تعزيز التعافي، والبدء في تحديد المزيد من الإصلاحات الضرورية كي تمضي البلاد قدما.

أمريكا تتعلم من جواتيمالا

والوضع المثالي، هو أن تتزامن المبادرة مع معاهدة سلام مقبولة من الأطراف السياسية الرئيسية تلزمهم بالتمسك بالمبادئ الديمقراطية، وعدم التحريض – سواء ضمنا أو خلافه – على العنف قبل انتخابات نوفمبر. وكان هذا النهج، على سبيل المثال، فعالا في تجنب العنف السياسي أثناء الانتخابات في جواتيمالا.
ثانيا: من الواضح أن هناك حاجة لإصلاحات انتخابية كبرى لإنهاء ممارسة التلاعب بتقسيم الدوائر الانتخابية، ومنع قمع الناخبين، وهو الاستخدام المتعمد لمتطلبات مجهدة غير ضرورية لكي يسجل الفرد نفسه من أجل التصويت وممارسة حقوقه الديمقراطية الأساسية. وكما وثق كل من مركز برينان للعدالة ومركز التقدم الأمريكي، شهد العقد المنصرم شلالا منهمرًا من الجهود المستهدفة لقمع أصوات الأقليات العرقية.

التلاعب بالأصوات

كان هذا يجرى تبريره على الدوام على أساس أنه إصلاح ديمقراطي تشتد الحاجة إليه، ولكن في الواقع فإن هذا النوع من الاحتيال في التصويت نادرا ما كان مشكلة مهمة في الولايات المتحدة، على الرغم من المزاعم الغريبة للقادة الجمهوريين وترامب. (في الحقيقة، فإن أحدث مثال موثق على الاحتيال المطلق شمل جهود التلاعب بالأصوات لصالح عضو جمهوري في مجلس النواب في نورث كارولاينا، تنحى في أعقاب المزاعم). يذكّر الكاتبان بأن انتخابات نوفمبر قريبة للغاية، بحيث يصعب طرح إصلاح منهجي حقيقي، ولكن من الممكن تخفيف بعض التداعيات. على سبيل المثال، حققت الحملات المستهدفة بعناية، والممولة بمقدار جيد لحمل الناخبين على الخروج للتصويت، في دول مثل ساحل العاج، نجاحا كبيرا في تعزيز معدلات التسجيل بين المجتمعات التي كانت تاريخيا محرومة من حق التصويت مثل الأقليات والنساء والشباب.
والولايات المتحدة لديها تاريخ من حملات منظمة rock the vote الهادفة إلى بناء القوة السياسية للشباب، ولكن في عام 2020 يتعين أن تكون هذه أكثر شمولا ومرتبطة بالجهود القائمة لحكومات الولايات، لخفض تكلفة التصويت، ومن الأمثل أن تشمل التسجيل التلقائي للناخبين، أو التسجيل في اليوم نفسه، وهو ما جرى تطبيقه بالفعل في 16 ولاية وواشنطن العاصمة.

شركات التواصل الاجتماعي تفرض رقابة على ترامب

وأخيرا، يتعين وضع نهاية للاستخدام المثير للانقسام لوسائل التواصل الاجتماعي والهجمات الحزبية على كل أشكال وسائل الإعلام، بدءا بترامب نفسه. ويحسَب للمسؤولين في تويتر مؤخرا اتخاذ قرار بمراجعة تغريدات ترامب المضللة علنا، كذلك طبقت شركة «سنابشات» شروط الخدمة لديها على تحريض ترامب. وفي كينيا، في أعقاب العنف الذي اندلع بعد الانتخابات في عام 2007، جرى تقديم برنامج تدريبي «لصحافة السلام» لتشجيع المهنيين على التفكير في عواقب تصريحاتهم.
بالطبع يتعين أن يطبق ذلك بعناية، حتى لا يؤدي إلى رقابة أكبر، ولكن إلى جانب حملات محو الأمية الرقمية الكثيفة – التي يجب تعلمها في المدارس وأيضا عبر موجات الهواء – يمكن أن تساعد في تقليص انتشار المعلومات المضللة وقوتها. وإلى جانب مراقبة إعلامية حريصة، وملاحقة أولئك الذين يتورطون في خطاب الكراهية أو التحريض، يمكن أن يقلص ذلك مخاطر حدوث اضطرابات أثناء الانتخابات.

هبوط تصنيف أمريكا الديمقراطي

على المدى الطويل، سيكون تقوية نظام الكوابح والتوازنات ضد السلطة التنفيذية أيضا أمرا مهما. وأثبتت سنوات ترامب – على الرغم من قدرة الكونجرس على عزل الرئيس – أن العديد من الكوابح التي يفترض أنها قائمة كانت بالأحرى شكلية ويسهل أن يحطمها قائد مستعد للاستهزاء بالسوابق الراسخة، وارتكاب أعمال غير دستورية، وربما غير قانونية.
وانخفض تصنيف الولايات المتحدة وحدة الاستخبارات الاقتصادية في أسبوعية الإيكونوميست البريطانية من مرتبة «ديمقراطية كاملة» إلى «ديمقراطية معيبة»، لتحل بذلك في تصنيفٍ يضم دولا متباينة مثل ناميبيا، والسلفادور، وتايلاند، بعد أن تراجعت عبر سلسلة من المؤشرات، بما فيها انعدام المساواة، والسلطوية السياسية، والافتقار إلى الثقة في الحكومة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*
ساسه بوست – 16 حزيران 2020