في ظل التطورات العاصفة، الصحية والسياسية والاجتماعية، التي تمر بها الولايات المتحدة، قام الباحث السياسي سي. جي. پوليتشرونيو بإجراء مقابلة مع المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي، ليسأله عن قضايا ملحة، في مقابلة نشرت على موقع Truthout وترجمها حسن مصاروة لصحيفة وموقع "الاتحاد".

في الـ40 عامًا الماضية، شهدنا في الولايات المتحدة تحلّلًا لدولة الرفاه وصعودا لآيديولوجيا السوق المتطرفة، حتى وصلنا الى حال حيث لا تستطيع الدولة أن تتعامل مع أزمة صحية هائلة، بالإضافة إلى اشكاليات ماثلة منذ زمن مثل الفقر على نطاق واسع، واللامساواة الاقتصادية الهائلة، والعنصرية ووحشية الشرطة. لكن مع كل هذا لم يتردد دونالد ترامب من أن يقول في غمرة الاحتجاجات على مقتل جورج فلويد أن" الولايات المتحدة هي أعظم دولة في العالم". هل يمكنك التعليق على هذه الملاحظات وما تمر به البلاد؟

تشومسكي: لا أظن أن ترامب يريد حربا أهلية. بل أعتقد، كما يصرح هو، أنه يريد "الهيمنة" بواسطة العنف وأن يرعب كل معارضة محتملة. هذا رد فعله الطبيعي. انظر فقط الى انفجار غضبه حينما تجرأت سيناتور جمهورية مثل ليسا موركاوسكي على أن تخرق الانضباط الحزبي المقدس وأن تظهر بعض الشكوك حول "روعة جلالته الملكية"، أو قيامه بفصل العالم المسؤول عن تطوير اللقاح حينما طرح شكوكا حول واحد من الأدوية الكاذبة التي يروج لها ترامب، أو قيامه بتحييد المفتش العام الذي كان من الممكن أن يقود تحقيقات في طبيعة المستنقع النتن الذي ينشئه ترامب في واشنطن. انه وضع فاسد، وترامب ظاهرة جديدة بشكل جذري في التاريخ السياسي الأمريكي.
ردة فعل أخرى لترامب هي تهديده بـ"الكلاب الأكثر شراسة، والأسلحة الأكثر شؤما التي رأيتها في حياتي"، حينما حوط المحتجون السلميون مسكنه في البيت الأبيض. الجملة "كلاب شرسة" تستحضر رعب هذه البلاد حينما ظهرت صور الكلاب المتوحشة وهي تهاجم المحتجين السود على الصفحات الأولى للجرائد أثناء حركة الحقوق المدنية.
ان ادعاءه أن الولايات المتحدة هي أعظم دولة في العالم، حسب احساسه الخاص، من جهة، ودعوته من أجل الهيمنة من جهة أخرى، ينبعان كلاهما من عقيدته الاساسية: "الأنا".
النتيجة المباشرة لهذه العقيدة هي أنه يجب عليه أن يشبع متطلبات حيتان المال وسلطة الشركات، الذين يتحملون "غرائبه"، طالما أنه يخدم مصالحهم بوضاعة. وهذا ما يفعله بالضبط من خلال برامجه التشريعية وقرارته التنفيذية. ويظهر قراره الأخير بالنسبة لوكالة حماية البيئة الذي سيزيد تلوث البيئة لمصلحة الشركات الصناعية، أنه غير مهتم بتعريض الآلاف لخطر الموت، والنسبة الأعلى منهم بين السود بالذات، كما تشير التقارير، ما دام المقابل هو زيادة الثورة لأولئك الذين "يهمونه".
بالنسبة إلى داعمي ترامب الأساسيين، حيتان المال وسلطة الشركات، أميركا بالطبع أعظم دولة في العالم. لكن كيف لشخص أن يخدع بلدا فيه يسيطر 0,1 بالمئة من السكان على 20 بالمئة من الثروة في حين أن الغالبية لا تستطيع أن تصمد في الحياة بمعاشها الشهري ويحصل مدراء الشركات على تعويضات أكثر من العمال بـ 278 مرة ؟ يدعو للهيمنة بالعنف بواسطة "كلاب شرسة" ليرضي نسبة كبيرة من قاعدته الانتخابية. اذن فالأمر يجري بهذه الطريقة.

الممثل جورج كلوني قال في مقال له في (الديلي بيست) تعليقا على مقتل جورج فلويد أن العنصرية هي وباء أمريكي، وأننا خلال 400 عاما لم نجد لها لقاحا، لماذا تبدو العنصرية في الولايات المتحدة راسخة ومستعصية الى هذا الحد ؟

تشومسكي: الاجابة موجودة في ما حدث خلال الـ 400 سنة هذه، لقد تم البحث فيها وعرضها من قبل، لكن بالنسبة لي فإن الأمر يستحق بعض الدقائق للتفكير من خلالها بالأمر مرة أخرى حتى ترسخ في عمق الوعي.
السنوات الـ 250 الأولى صنعت أكثر أنظمة العبودية شراسة في تاريخ الإنسانية بمجرد أن حصلت المستعمرات على حريتها. وقد كان هذا النظام العبودي فريدا لا بقسوته البشعة لكن أيضا لكونه كان يعتمد على لون البشرة. ولهذا لم يكن استئصاله ممكنا، بل هي لعنة تصل الى الأجيال المستقبلية.
العبودية الرسمية في الولايات المتحدة انتهت قي عام 1865، ومنح للسود عقد كامل من اعادة الانشاء، والذي استغلوه بصورة مثيرة للإعجاب في فعاليتها وتأثيرها، نظرا لميراث الرعب الذي يحملونه. لكن حتى هذا انتهى، حيث ان اتفاقية بين الشمال والجنوب سمحت للعنصرين في الجنوب أن يقتلوا ويقمعوا وأن يحولوا السود الى قوة عمل بالسخرة لتحرك الثورة الصناعية الجنوبية، وكل ذلك بواسطة "تجريم" السود وسجنهم بشكل جماعي وسلبهم حقوقهم.
هذه الوصمة في التاريخ الأمريكي دامت حتى الحرب العالمية الثانية تقريبا، حينما احتاجت صناعة الحرب الى العمالة الحرة ... غير أن عراقيل جدية بقيت موجودة. الفرص التعليمية التي منحت بعد الحرب أنكرت على المواطنين السود بواسطة قوانين معينة. ملكية المنازل، أساس الثروة لمعظم الناس، تم حرمان السود منها بواسطة القوانين الفدرالية. وفي الوقت الذي سحبت فيه هذه القوانين العنصرية تحت ضغط نضال حركة الحقوق المدنية في الستينيات، كانت الفرصة قد ضاعت على الكثير من المواطنين السود. الاقتصاد عانى من الكساد في فترة السبعينيات وعندها انقضت النيوليبرالية وسيطرت على الاقتصاد، حيث صممت بالأساس لابقاء المواطنين الفقراء والعمال في مكانهم، وكالعادة فالمجتمعات السوداء كانت الأكثر تأثرا بشكل وحشي. وهذا العدوان النيوليبرالي الاقتصادي على السود جاء مجتمعا مع الموجة الجديدة من تجريم السود بواسطة إدارة ريغان العنصرية، وهي السياسة التي عُززت بواسطة بيل كلينتون تحت عباءة "أنا واحد منكم"، وحتى جورج فلويد اليوم.
ليس من الصعب اذن الإجابة على السؤال، على الأقل على مستوى واحد. أما على مستوى أعمق فيمكن أن نسأل لماذا يصعب علينا معالجة هذا المرض ؟

في عصر الكورونا شاهدنا العودة المفاجئة الى التفكير الاقتصادي الموجه، بشكل فضفاض، بواسطة الأفكار الكينزية، مثل زيادة انفاق الحكومة وتخفيض الضرائب من أجل إعادة احياء النشاط الاقتصادي، والحفاظ على دولة رفاه صلبة خاصة في أوروبا الغربية. هل هذه إشارة الى أن النيوليبرالية في الطريق الى نهايتها؟ أم اننا سنشهد عودة الى الوضع "العادي" بعد انتهاء الأزمة الصحية وخاصة في الولايات المتحدة حيث توجد مقاومة كبيرة للديمقراطية الاجتماعية ؟

تشومسكي: مثل الكثير من الأسئلة الجيدة، فإن هذا السؤال من المستحيل الإجابة عليه عمليا. القوى التي صنعت النظام الاقتصادي- الاجتماعي الحالي، ومن ضمنه الوباء والسباق من أجل التدمير الذاتي، لا تضيع لحظة واحدة في تفانيها من أجل ضمان بقاء الكارثة النيوليبرالية، وبالطبع عودتها بصيغة أشرس، مع وسائل معقدة للمراقبة والسيطرة. وستنجح بذلك الا اذا قامت الجماهير الشعبية بايقاف تأييدها، وقامت باستخدام تلك القوة الموجودة بين أيادي المحكومين وتنظيم نفسها لخلق عالم أكثر إنسانية وعدلا، في الحقيقة، عالم قادر على البقاء.
وهذا يتطلب على أقل تقدير، دولة اجتماعية بالحدود الدنيا. ونستطيع أن نعي كم هي صعبة حتى هذه الخطوة البسيطة، من معاينة التعليقات الليبرالية على حملة بيرني ساندرز: أفكار جيدة، لكن الشعب الأمريكي ليس جاهزا لها. هذا اتهام لا يصدق للمجتمع الأمريكي، الذي، وفقا لهذا الحكم، ليس قادرا على أن يصعد إلى مصاف ما هو عادي في أي مكان آخر: رعاية صحية للجميع، وتعليم عال مجاني، ومقترحات ساندرز الأساسية.
لكن الانضمام الى باقي العالم يجب أن يكون الهدف الأدنى لحركة تقدمية شعبية. لماذا على القرارات المتعلقة بحيواتنا أن تنتقل من ممثلين منتخبين يملك الناس بعضا من السيطرة عليهم على الأقل، الى أيادٍ "خاصة" غير قابلة للمحاسبة كما تحدد العقيدة النيوليبرالية ؟ ولنقل أكثر من ذلك، لماذا على الناس أن يمضوا معظم حياتهم الواعية تحت آليات ضبط وسيطرة بشكل متطرف ؟ العمل تحت هذه الأوامر والاشراف الخارجي هو عدوان مباشر على الحقوق والكرامة الإنسانية الأساسية، ذلك الاشراف الخارجي والسيطرة التي اعتبرت محتقرة منذ اليونان وروما القديمة حتى القرن الــ 19، والتي استهجنت بشدة من قبل الناس في بدايات الثورة الصناعية.
هذه مجرد بداية، عالم مختلف ممكن أن يكون، عالم مختلف جدا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*
عن: (الاتحاد) الحيفاوية (بتصرف) – 12 حزيران 2020