في مطالع خمسينات القرن العشرين صدرت في بغداد مجلة شهرية ثقافية أطلق عليها مؤسسوها اسم «الثقافة الجديدة». الاسم يشي بالمحتوى، فالمراد هو أن تتحول هذه المجلة إلى منبر ينشر ما هو جديد في الفكر والثقافة والأدب، وعياً بحاجة العراق، كما العالم العربي، إلى ثقافة جديدة غير السائدة.
وبالفعل نَشر على صفحات هذه المجلة أبرز رموز الثقافة والإبداع في العراق، ومن على هذه الصفحات بالذات انطلقت بدايات الكثير منهم ممن غدوا أسماء يشار إليها بالبنان كما درج القول.
مرّت عقود طويلة على صدور المجلة، تكاد تبلغ السبعة، وما زالت تصدر. الحق أنها توقفت في مراحل حرجة من تاريخ العراق السياسي المضطرب في العهود المختلفة، بل إنها من المجلات التي كانت «تهاجر» إلى حيث يهاجر أصحابها هرباً مما في الوطن من تنكيل واضطهاد.
يمكن للصحف أيضاً أن تهاجر، كما يهاجر الفنانون والمثقفون والأدباء، حين تضيق عليهم الدنيا في أوطانهم، فيأخذون معهم المنابر الثقافية والإبداعية التي أسسوها في الوطن إلى مهاجرهم، كأنها جزء من عدّتهم لتحمل الغربة. وكانت «الثقافة الجديدة» واحدة من هذه المجلات التي هاجرت من العراق أكثر من مرة، وعادت إليه ثانية أكثر من مرة أيضاً.
وكنت أطالع أعدادها فترة صدورها بين بيروت ودمشق نهاية السبعينات ومطالع الثمانينات من القرن العشرين، وكانت، حتى وهي في المهجر، محافظة على مستواها الثقافي والفكري، بل لعل المهجر زاده غنى وثراء، كونه يتيح فرصاً للتلاقح مع ما فيه من أدب وثقافة.
يتبادر إلى الذهن سؤال: أتكون الثقافة الجديدة التي توخت المجلة نشرها في منتصف القرن العشرين في العراق هي نفسها الثقافة الجديدة التي نحتاجها اليوم؟ مياه كثيرة جرت في الأنهار منذ ذلك الحين. في هذه الثقافة الجديدة قضايا قد تكون تقادمت أو شاخت. تلك سنّة الحياة حين لا تزكي كل ما كنا نظنّه صحيحاً. لكن الجوهر يظل ثابتاً. العالم العربي ما زال بحاجة إلى ثقافة جديدة من صنف تلك الثقافة التي بشّرت بها المجلة، لا بل إن المفارقة هي أننا اليوم أحوج إلى مثل هذه الثقافة أكثر مما كنا عليه قبل نصف قرن أو أكثر، حيث جرت مصادرة النزر اليسير مما تحقق من ثمارها.
لا بأس أن نذكر، في الختام، أن الفنان العراقي الكبير اسماعيل الشيخلي، هو من صمّم «لوغو» تلك المجلة منذ تأسيسها، وما زال هذا «اللوغو» يزيّن أغلفتها حتى الساعة.
ـــــــــــــــــــ
(من موقع "الخليج" - الاثنين ٢٨ تموز ٢٠١٩)