توقعات صندوق النقد الدولي عادة ما تكون تحمل ضمنيا رسائل سياسة، فهي تدفع هذا النظام الى مزيد من التقشف تارة، وتثير الشكوك في قدرة ذاك النظام تارة اخرى. ومؤشر هذه الرسائل يرتبط عادة بمصالح الرأسمال العالمي الاقتصادية والسياسية.
لقد خفض صندوق النقد الدولي، هذا الاسبوع، توقعاته للنمو في أمريكا اللاتينية بشكل كبير لعام 2019. وركز تقييم الصندوق بشكل خاص على المكسيك والبرازيل والأرجنتين بسبب "أوضاعهم السياسية غير المستقرة". ومن جانبه رفض الرئيس المكسيكي اليساري أندريس مانويل لوبيز أوبرادور على الفور ما اعتبره تقييمًا احادي الجانب، موجها نقدا شديدا للصندوق. وفي الوقت نفسه ، تشعر وكالات التصنيف بالقلق من الانتخابات الرئاسية، التي ستجري في الأرجنتين في تشرين الأول المقبل، والتي يمكن ان تعيد اليسار الى السلطة.
وكان الصندوق قد توقع في نيسان الفائت نموًا بنسبة 1.4 في المائة لاقتصاد أمريكا اللاتينية، وعاد ليخفضه في التوقعات الحالية إلى 0.6 في المائة فقط. وفقًا لتقديرات النمو السليم للاقتصادات الرأسمالية، يعتبر هذا المعدل منخفضًا جدًا. واشر الصندوق انخفاضا شديدا في الاستهلاك الخاص في جميع البلدان، ولا سيما في المكسيك. في حين ارتفع الدين العام، والتكاليف المترتبة على الاقتراض بشكل كبير.
ويرى الصندوق أسباب التراجع الرئيسة، على الرغم من وجود افاق جيدة، عادة في السياسة الاقتصادية، لهذه البلدان. ويتبع ذلك في العادة ايضا خفض تصنيف الجدارة الائتمانية للاقتصادات الكبرى في المكسيك والبرازيل من قبل وكالات التصنيف العالمية. إن النزاع بين المكسيك والولايات المتحدة حول فرض الرسوم الكمركية ترك بصماته، وكذلك تأثيرات غياب إصلاحات في الاقتصاد الكلي. للسياسة الاقتصادية. ونصح الصندوق بضرورة اجراء تكييف هيكلي للسياسة الاقتصادية، ولكن دون املاءات قسرية هذه المرة.
وفي المكسيك، يرى الصندوق المشكلة الأساسية في فقدان ثقة المستثمرين بسياسات الرئيس لوبيز أوبرادور، الذي تسلم مهام منصبه في بداية هذا العام. وان التصديق على اتفاقية التجارة الحرة الجديدة مع الولايات المتحدة وكندا كبديل لاتفاقية "نافتا" لم يغير شيئا. واقر مجلس الشيوخ المكسيكي بأغلبية ساحقة، هذه الاتفاقية في حزيران الفائت، ويرى نقادها انها جاءت لتلبي، بشكل خاص، مصالح الولايات المتحدة.
ويواجه الرئيس المكسيكي، من بعض اوساط اليسار، الاتهام بالميل الى سياسات الليبرالية الجديدة، وعدم رضا صندوق النقد عن "الإنتاج الصناعي" للمكسيك. ويمكن أن تؤدي الاتفاقية الجديدة الى تغيير هذا الواقع، لذلك خفض النمو الاقتصادي المتوقع من 1.6 إلى 0.9 في المائة.
وفي مؤتمر صحفي عقده اخيرا، رفض الرئيس المكسيكي بشدة الضغط الذي يمارسه الصندوق:" لن تقرروا جدول الاعمال في المكسيك، لقد انتهى الامر حالا. ماذا كانت الاصلاحات الهيكلية لصندوق النقد الدولي؟ تدمير صناعاتنا البتروكمياوية. وماذا كان محتوى وصفات الصندوق؟ انعدام الأمن وانفلات العنف". واضاف الرئيس، ليس هناك توجه لمغادرة الصندوق، لان المكسيك جزء من الاقتصاد العالمي. ولكن هذا لا يعني "اننا لا نعلم ماذا فعلت سياساتكم".
ووجه الصندوق نقده ايضا الى مسار الاقتصاد في البرازيل، ناصحا بضرورة "اصلاح" نظام التقاعد، وعلى الرغم من ان الرئيس البرازيلي الجديد، يتابع بنشاط تنفيذ هذه المهمة، التي جوبهت باحتجاجات مليونية، الا انه لم ينجح بعد في تمريرها بشكل كامل. وخفضت التوقعات الاخيرة نمو الاقتصاد البرازيلي من 2.1 إلى 0.8 في المائة.
ويرى الصندوق إن الوضع في الأرجنتين أكثر سوءا. ويذكر ان الصندوق قد عاد الى البلاد، بعد أن طردته حكومة اليسار منها على خلفية إفلاس البلاد، في حين اعاده الرئيس اليميني موريسيو ماكري في العام الفائت. ومنذ ذلك الحين، اتخذت الحكومة العديد من الاجراءات الهيكلية على حساب فئات السكان الأكثر فقراً.
ووفق وكالة بلومبيرغ، فان الارجنتين واحدة من "الاقتصادات الناشئة الأكثر ضعفا"، وتكمن الاسباب بالاستناد الى صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في: ارتفاع الدين الخارجي الى (40.5 في المائة)، ومعدل التضخم الى (قرابة 45 في المائة)، وانخفاض الاحتياطي الحكومي وعجز في الحساب الجاري بنسبة 2 في المائة.
وفي هذه الاثناء، حذر نائب الرئيس الارجنتيني موديز غيرسان زوريتا بشكل مفاجئ من تغيير حكومي في الانتخابات المقبلة. وتمنح التوقعات المرشح اليساري البرتو فرنانديز من الحركة البيرونية فرصا جيدة، لإزاحة ماكري عن منصبه. والى جانب فرنانديز رشحت رئيسة الجمهورية السابقة كريستينا فرنانديز دي كيرشنر لمنصب نائب الرئيس، في تطور فاجأ الكثير من المراقبين. وكان زوجها الرئيس الاسبق الراحل، نيستور كيرشنر ، قد طرد صندوق النقد من الارجنتين بعد إفلاس الدولة في عام 2000/2001 وما تلاه من اضطرابات اجتماعية عنيفة في عام 2004 .