صباح الاثنين ، في الرابع عشر من تموز 1958 ، تحركت طلائع الجيش، بقيادة ضباطه الأحرار لتطلق شرارة ثورة رسمت للعراق مسارا اخر. وانطلقت جماهير الشعب، وفي ساعات قليلة لتحسم الامر، لتحول "الانقلاب" الى "ثورة"، فلم يكن ما قام به الضباط الحرار معزولا عن معاناة الشعب العراقي ونضالاته، وعن التنسيق مع قواه الاساسية، الممثلة بـ "جبهة الاتحاد الوطني "، فالسرعة المذهلة التي حول بها الشعب العراقي حركة الجيش العراقي الى ثورة  تعود لكون جماهير الشعب العراقي ومنذ سنين طويلة تخوض نضالا متواصلا من أجل يومها الأغر. فلم تكن الهبات والانتفاضات ، منذ الانتفاضة المسلحة عام 1936 ، ثم حركة مايس 1941 ضد الاستعمار البريطاني للعراق، ووثبة كانون المجيدة عام 1948 ضد معاهدة بورت سموث، والمعارك الوطنية عام 1952 و1956 ، سوى  تمرينا متواصلا لليوم المشهود، يوم الرابع عشر من تموز. ورغم ان الاسطول السادس الامريكي وسلاح الجو البريطاني تحركا وانزلا فيالقهما في الاردن ولبنان لقمع الثورة ووأدها الا انهما لم ينجحا في فعل شيء لان شعبا باكمله، على كل مساحة العراق، عربا وكردا ومكونات اخرى  ، هب ونزل الى الشوارع ليدعم حركة الضباط الأحرار  ويحمي الثورة ويحتضنها، ولا ننس القول ان ذلك ترافق مع موقف الاتحاد السوفياتي وتحذيره من عدم ترك ثورة العراق لوحدها ،وكذلك المناورات  الاستثنائية التي نفذها في المناطق السوفياتية قرب الحدود التركية ! ولهذا لم يكن مستغربا موقف مجلة "الايكونوميست " التي تعتبر لسان دوائر المال والاعمال البريطانية الكبرى، والتي عرف عنها رصانتها في مواقفها السياسية، حيث وقفت ضد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، فكان لها موقف مضاد لثورة 14 تموز بل واعتبرتها "أسوا لحظة" في التاريخ ، لانها "ادت الى تدهور  مركز الغرب "،  ودعت بشكل واضح الى التدخل العسكري ضد الثورة .

لا يختلف المراقبون والمؤرخون في ان التفاف جماهير الشعب حول ثورة الرابع عشر من تموز لم  يضمن حمايتها من تحركات ومؤامرات فلول النظام الملكي القديم، بل وانما اعطى الثورة مضمونا شعبيا، مع امال بفتح افاق تقدم لتحقيق انجازات تاريخية، وهذا الذي حصل في سنين الثورة القصيرة خصوصا الاولى منها. فثورة الرابع عشر من تموز 1958 جاءت بجمهورية ، لها سيادة وطنية، وحولت العراق من  قاعدة لحلف عدواني ــ هو حلف بغداد الذي انسحب منه العراق فور اندلاع الثورة ــ الى قاعدة للتحرر في المنطقة. رافق ذلك قرارات ستراتيجية لتحرير اقتصاد العراق من التبعية لمنطقة الاسترليني واسترجاع حقوق السيادة على الثروة النفطية ، وثم صدور قانون الاصلاح الزراعي الذي صاغ العلاقات الاجتماعية في الريف على اسس جديدة ، وما رافق ذلك من قرارات وقوانين تلبي حقوق العمال والمساواة في المجتمع ما بين المراة والرجل والسماح للمنظمات  اللحماهيرية  بالنشاط العلني والقانوني، والحق لبعض الاحزاب بالعمل العلني  واصدار صحفها الخاصة.

من جانب اخر فأن قوى الردة ، من بعثيين عفالقة وحلفائهم من جنرالات العهد الملكي المباد وشخصيات طامعة وقوى محلية انتكست بسبب انجازات الثورة، نجحوا جميعا في استثمار حالة التردد والتذبذب لدى قيادة الثورة وخوفها من الديمقراطية وسياسات التراجع في بعض ممارساتها ثم جاء انفراط جبهة الاتحاد الوطني  مترافقا مع الاخطاء التي ارتكبتها القوى الوطنية وقيادة الثورة ، فنجح  العفالقة وبدعم خارجي امريكي واقليمي من تنفيذ انقلاب 8 شباط 1963 الدموي الغادر الذي اعاد العراق الى عهود مظلمة وليكون انتقاما من الشعب الذي ساند الثورة وانجازاتها .

هذا الملف تقدمه "طريق الشعب" تحية للذكرى الواحدة والستين للثورة المجيدة، وقادتها الاماجد الذين صنعوا مجد ذلك اليوم،  وتحية لدماء الشهداء الزكية، التي سقطت لاجل قيام ودفاعا عن الثورة التي بقت إنجازاتها وفي أربع سنوات محفورة في ذاكرة  الفقراء والكادحين.

عاشت الذكرى الحادية والستين  لثورة 14 تموز المجيدة