كل شيء يتغير .. كل شيء في حركة دائمة .. وهذه الحركة الشاملة قائمة في كل مستويات الواقع، وليست مقتصرة على مستوى تاريخ المجتمع البشري. يتعين علينا، بالتالي، أن نستخلص الملامح المشتركة بين حركة الطبيعة والتاريخ والفكر.

ان المنهج الديالكتيكي هو دراسة الأشياء في تغيرها وتطورها. ولا يفهم الديالكتيك العالم على أنه مركب من أشياء جاهزة، انما من عمليات تمر الأشياء، خلالها، في تطور لا ينقطع من الوجود والعدم. ولا يمكن فهم هذا التطور بمعزل عن قوانين الديالكتيك: وحدة وصراع الأضداد، وتحول التراكمات الكمية الى تغيرات نوعية، ونفي النفي.

والمنهج الديالكتيكي، في خاتمة المطاف، ليس سوى تطبيق للمنهج العلمي الشامل من أجل استخلاص النتائج عن الانسان والمجتمع. وهو، في جوهره، نقدي ثوري، يتناول الظواهر بذهن مفتوح، ويتعارض مع النتائج المسبقة، ويتجسد الديالكتيك، الذي يعد منهجاً للبحث والتحليل، في دراسة الواقع من أجل استيعابه وتغييره، في ثلاثة مستويات:

  1. ديالكتيك الطبيعة، الذي يتسم بالموضوعية، أي أنه مستقل عن الوجود الانساني، وفعله ليس مباشراً في التاريخ البشري، دون أن تنفي هذه الحقيقة قدرة البشر على استخدام قوانين الطبيعة من أجل البيئة ارتباطاً بتطور قوى الانتاج.
  2. ديالكتيك التاريخ، وهو الآخر يتسم بالموضوعية، غير أن توجه مشروع الشغيلة الى بناء المجتمع يشكل انعطافاً ثورياً في مسار التاريخ، حتى وإن توقف تحقيق هذا المشروع على الشروط الموضوعية المستقلة عن ارادة البشر.
  3. ديالكتيك الفكر، وهو ما يسمى ديالكتيك الموضوع/الذات وهو تفاعل بين موضوع المعرفة والذات التي تسعى الى فهم هذا الموضوع.

ومعلوم أن اكتشاف الديالكتيك يعود الى الفلاسفة الإغريق، وكان في عهدهم يعني الوصول الى الحقيقة عبر اكتشاف التناقض. وكانت لديهم آراء مختلفة في تعريفه، لكنه يظل، على العموم، المنهج العقلاني لكشف الحقائق من خلال التناقض.

يشار الى أن الديالكتيك ظل متداولاً بين الفلاسفة العرب في العصور الوسطى، وبينهم، على سبيل المثال، ابن خلدون، الذي يعد واحداً من مؤسسي علم الاجتماع (فصّل الدكتور حسين مروة عن هذا الموضوع في كتابه القيم: النزعات المادية في الفلسفة العربية الاسلامية). وأسهم سبينوزا في تطوير هذا المفهوم. غير أن هيغل هو الذي طور الديالكتيك، لكنه اعتبر قوانين الديالكتيك مقتصرة على الفكر وحده.

ولأن ديالكتيك هيغل يتسم بالمثالية، فقد قام ماركس وانجلز بتجسيد شكله المادي، وبات يعني "علم االقوانين العامة لحركة وتطور الطبيعة والمجتمع الانساني والفكر".

ومعروف أن ماركس كان يعتزم كتابة بحث حول المادية الديالكتيكية، لكنه رحل قبل أن يتمكن من ذلك. وبعد رحيله قدم رفيقه انجلز أبحاثه المميزة عن الديالكيتيك (لودفيغ فويرباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية، أنتي دوهرنغ، وديالكتيك الطبيعة). وكان انجلز ينوي توسيع (ديالكتيك الطبيعة) ليكون أساساً في الفكر الفلسفي الماركسي، لكن حال دون ذلك انشغاله بالمهمة الجليلة، مهمة انجاز المجلدين الثاني والثالث من (رأس المال) اللذين تركهما ماركس غير مكتملين عند رحيله.

يقول انجلز في (ديالكتيك الطبيعة) إن "المقولات الديالكتيكية مثالية الطابع عند هيغل، أما ديالكتيك العالم الواقعي عنده فليس سوى ظلالها. ولكن الأمر، في الحقيقة، هو على النقيض من ذلك. فديالكتيك الفعل ليس سوى انعكاس لأشكال حركة العالم الواقعي للطبيعة والتاريخ على حد سواء".

ويضيف القول "إذن من تاريخ الطبيعة وتاريخ المجتمع البشري استخلصت قوانين الديالكتيك. وهذه القوانين ليست سوى القوانين الأكثر عمومية لمراحل التطور التاريخي".

ويكمن الخلل عند هيغل في أن هذه القوانين لم تستنتج من الطبيعة والتاريخ، وانما فرضت عليهما على أنها قوانين الفكر. غير أن ما حصل هو أن ماركس وضع الديالكتيك على قدميه بعد أن كان واقفاً على رأسه عند هيغل.

ويقول انجلز في (ديالكتيك الطبيعة) إن "الطبيعة كلها، من أصغر الأشياء الى أكبرها، من حبة الرمل الى الشمس، من البروتيستا الى الانسان، هي في حالة دائمة من النشوء والزوال، في حالة تحول متواصل، وحركة وتغير لا يتوقفان". ويضيف أن الديالكتيك "يأخذ الأشياء وصورها المحسوسة بالجوهر في ترابطها المتبادل، في تسلسلها وحركتها، في نشوئها وزوالها".

ويقول في (أنتي دوهرنغ) إن "الطبيعة اختبار للديالكتيك، ولابد أن يقال إن العلم الطبيعي الحديث زودنا بمواد غنية جداً، ودائمة الازدياد يومياً، لهذا الاختبار. وبالتالي أثبت أن عملية الطبيعة هي، في التحليل الأخير، ديالكتيكية وليست ميتافيزيقية ... ويتعين علينا هنا أن نذكر أن داروين وجّه، بالأساس، ضربة قوية للفكر الميتافيزيقي عن الطبيعة، ببرهانه على أن العالم العضوي المعاصر، النبات والحيوان، وكذلك الانسان، بالطبع، كله نتاج عملية تطور كانت تتقدم عبر ملايين السنين".

ويرى انجلز أنه "في كل ميدان، في الطبيعة أو التاريخ، علينا الانطلاق من الوقائع المعطاة"، مضيفاً أنه "عادة ما تكون الاكتشافات العلمية هي الانتقالات من التحولات الكمية (من ميدان المادة الوقائعية) الى النوعية (في ميدان التناول النظري للمادة الوقائعية وتفسيرها وتعميمها)".

واعتبر لينين انجاز ماركس الأعظم، أي (رأس المال)، مثالاً على البحث العلمي الأصيل في ضوء المنهج الديالكتيكي، وأشار الى أن ماركس لم يترك لنا مؤلفاً في المنطق الديالكتيكي، وانما ترك لنا منطق (رأس المال). ويرى لينين في مؤلفه (من هم أصدقاء الشعب وكيف يحاربون الاشتراكيين الديمقراطيين) إن "ما أسماه ماركس وانجلز المنهج الديالكتيكي ليس شيئاً أكثر أو أقل من المنهج العلمي في علم الاجتماع، الذي يتجلى في اعتبار المجتمع كائناً حياً في حالة دائمة من التطور، تتطلب دراسته تحليلاً موضوعياً لعلاقات الانتاج التي تحدد التشكيلة الاجتماعية المعينة، وبحثاً لقوانين عملها وتطورها".

قوانين الديالكتيك الماركسي

تحدد الماركسية، كما هو معروف، ثلاثة قوانين أساسية للديالكتيك تفسر حركة الطبيعة والمجتمع والفكر:

  1. قانون وحدة وصراع الأضداد:

يرى الديالكتيك المادي الكون في حركته المستمرة، كعملية تتسم مراحلها بالتطور التدريجي، ووجود انقطاعات في استمرارها بشكل وثبات "فجائية" من حالة الى أخرى. ويجري البحث عن عملية تفسير الكون هذه وقوتها المحركة داخل العمليات المادية ذاتها في التناقضات الداخلية والاتجاهات المتضادة التي تفعل فعلها في الطبيعة والمجتمع والفكر.

فما يرغم الأشياء على أن تكون في حالة دائمة من الحركة هو القوى الناتجة عن وحدة الأضداد. فبين العمل ورأس المال، على سبيل المثال، تضاد أساسي ناجم عن دوافعهما المتناقضة، حيث يسعى العمال الى تقليص الاستغلال من خلال زيادة الأجور وتحسين ظروف العمل ومطالب أخرى. وعندما يتحقق هذا يتقلص هامش ربح الرأسماليين، الذين يسعون، بدورهم، الى زيادة معدل الاستغلال، وهو ما يعمق التناقض بين العمل ورأس المال، وهو تناقض لا يمكن حله الا بنفي النفي.

وفي هذا الصدد يقول لينين في (الدفاتر الفلسفية) إن "الفكرة الأساسية للمادية الديالكتيكية هي ادراك الاتجاهات المتضادة التي تنفي بعضها البعض في كل ظواهر وعمليات الطبيعة وهذا، وحده، هو الذي يوفر لنا مفتاح الحركة الذاتية، وانقطاع واستمرار التحول الى الضد، وزوال القديم وبزوغ الجديد. إن الديالكتيك بالمعنى الدقيق هو دراسة التناقضات في جوهر الأشياء بالذات، وإن التطور هو صراع الأضداد".

  1. قانون تحول التراكمات الكمية الى تغيرات نوعية: يرى هذا القانون أن كل تغير له جانب كمي، بمعنى الزيادة والنقصان. ولكن هذا التغير لا يمكن أن يستمر على الدوام، فعند نقطة التحول، أو النقطة الحرجة كما سماها هيغل، يحدث التغير النوعي بصورة مفاجئة نسبياً عن طريق الوثبة اذا جاز التعبير، مثل غليان الماء وتحوله الى بخار عند درجة 100 مئوية.

ويراد بهذا القانون الديالكتيكي اظهار أن التحولات النوعية التي يراها الانسان في الطبيعة انما هي نتيجة تلقائية لعمليات تراكم كمية واسعة تتم عبر مئات السنين، وربما الآلاف والملايين منها، ارتباطاً بطبيعة التغير واتجاهاته. ويعني هذا أن التغير لا يحدث دفعة واحدة، وانما عبر عمليات تراكم بطيئة أو سريعة حسب العوامل المؤثرة. فتبخر الماء لا يحدث فجأة وانما ينتج عن التراكم الكمي لدرجات الحرارة، وتحول المادة السائلة الى غازية انما هو نتيجة لتغيرات كمية تحدث في بنية السائل قبل حدوثها في شكله الخارجي. وينطبق هذا الأمر على الظواهر الطبيعية المختلفة.

ويكشف قانون تحول التراكمات الكمية الى تغيرات نوعية عن نظرة أعمق الى نفي النفي. فالتناقض الأساسي في الرأسمالية هو، كما أسلفنا، علاقة التضاد بين العمل ورأس المال، حيث الدافع المتأصل لرأس المال في توسيع تراكم فائض القيمة يخلق وحدة الأضداد. وفي حين أن للرأسمالي مصلحة في الحفاظ على التناقض وخلق الوهم بدوام رأس المال، فان حل هذا التناقض هو الغاية الموضوعية للعمل، وبالتالي تغيير نوعية علاقات الانتاج، حيث توفر التراكمات الكمية الامكانية أو الأساس الموضوعي للتغير النوعي.

  1. قانون نفي النفي: إن النفي في الفهم الديالكتيكي له هو نفي يبقي على انجازات القديم وجوانبه الايجابية وعناصره القابلة للحياة والاستمرار. ويأخذ نفي النفي الشكل الحلزوني، فلا يعود بنا الى نقطة البدء الأصلية، وانما يأخذنا الى نقطة بدء جديدة، هي النقطة الأصلية، بعد أن رفعت – خلال نفيها ونفي نفيها – الى مستوى أعلى. وهكذا نرى أنه يمكن في مجرى التطور، وكنتيجة لنفي مزدوج، أن تتكرر مرحلة أقدم، لكنها تتكرر على مستوى أعلى من التطور.

إن الرأسمالية تركز وتمركز الملكية وتميل الى الاحتكار، حيث كبار الرأسماليين يخرجون صغارهم. وفي الوقت نفسه تخلق الرأسمالية حفارة قبرها: الطبقة العاملة. وتوفر هذه التناقضات الأساس للنفي الثاني، أي تحويل الرأسمالية الى نظام اجتماعي آخر هو الاشتراكية، وفي ظله يتم الحفاظ على وسائل الانتاج الموجودة في ظل الرأسمالية. غير أنها بدل أن تتكون ملكية خاصة تتحول الى ملكية جماعية، وبدل الاستغلال توجه وسائل الانتاج نحو تلبية حاجات المنتجين. وهذه العملية هي وحدة الأضداد، وهو ما يعني، من بين أمور أخرى، أن أزمات وتناقضات الرأسمالية هي أساس لنفيها والتحول الى الاشتراكية.

ديالكتيك الحرية والضرورة

من بين مقولات الديالكتيك الأكثر إثارة للجدل مقولة (الحرية والضرورة). سنحاول هنا أن نضيء، بشيء من التفصيل، هذه المقولة والجدل بشأنها (دون التطرق الى المقولات الأخرى المعروفة، وبينها: الجوهر والظاهرة، السبب والنتيجة، المحتوى والشكل ... الخ).

الحرية تعني، بالنسبة لماركس، ادراك الضرورة، وتتجلى في الوحدة الديالكتيكية بين قوانين الطبيعة الموضوعية، المستقلة عن وعي الانسان، واستيعاب الانسان لهذه القوانين. بيد أنه لا يمكن لهذا الادراك أن يحقق، وحده، الحرية، انما توظيفه لاستخدام القوانين في تحقيق الغايات هو ما يعني الحرية.

غير أنه اذا ما قيدنا أنفسنا بالتطور الاجتماعي، وما سماه ماركس "القوانين الطبيعية للانتاج الرأسمالي" سيكون بوسعنا أن نسأل ما اذا كانت الماركسية حتمية بصرف النظر عن تفكير الانسان وفعله. في مقدمة (رأس المال) نجد أن هذه القوانين قد وضعت كـ "ميول وغايات تعمل مع الضرورة أو الحاجة الملحة باتجاه نتائج محتومة". غير أن استخدام تعبير "ميول وغايات" يبدو وكأنه يناقض حتمية صارمة من ناحية ماركس.

وعلينا أن ننظر، أيضاً، في ما أورده انجلز في (أنتي دوهرنغ) اذ قال إن "الحرية لا تكمن في حلم الاستقلال عن قوانين الطبيعة، وانما في معرفة هذه القوانين، وفي الامكانية التي توفرها هذه المعرفة لجعلها تصل الى غايات محددة".

وهذا يدل، ضمناً، على أن ماركس وانجلز يعتقدان بأن قوة الانسان ليست معدة، على نحو صارم، نظراً لأن لدى البشر القدرة على جعل قوانين الطبيعة تعمل لصالحهم. وتتناغم وجهة النظر هذه تماماً مع ملاحظة بليخانوف التي أوردها في (دور الفرد في التاريخ)، حيث "بسبب خصائص معينة لعقولهم وصفاتهم يستطيع الأفراد المؤثرون تغيير المعالم الخاصة للأحداث، وبعض نتائجها، لكنهم لا يستطيعون تغيير اتجاهاتها ونزعاتها العامة المستقلة، التي تحددها قوى أخرى". 

ومن الجلي أن هناك علاقة ديالكتيكية بين الحرية (خصيصة وميزة عقول البشر) والضرورة أو الحاجة (الميول العامة المحددة من قبل قوى أخرى). وهذه الرؤية الماركسية، المستمدة من سبينوزا وهيغل، هي حصيلة المباديء المتناقضة للحرية والضرورة. وفي (الاشتراكية الطوباوية والاشتراكية العلمية) يؤكد انجلز على أنه من اجل إحداث تغيير اجتماعي ايجابي بهدف تحسين حياة الناس، من الضروري فهم قوانين التطور الاجتماعي واستخدام الظروف التاريخية القائمة في هذا السياق. أما أن يحلم المرء ويتوهم، ببساطة، بالحلول المثالية للمشكلات، ويحاول وضعها موضع التطبيق بصرف النظر عن حقائق الواقع فان ذلك لن يكون سوى ممارسة طوباوية عقيمة.

ومن المعروف أن الماركسية تؤكد على الشروط الاجتماعية والاقتصادية للحرية، معتبرة أنها تتمثل في تحرر المجتمع من أشكال الاستغلال الطبقي. غير أن ماركس لم يهمل ناحية أساسية للحرية بالنسبة للفرد، مجسدة في تنمية طاقاته وقدراته الذاتية الخلاقة خارج العمل الاقتصادي. وهذه "الحرية الحقيقية" لا تتحقق، في نظره، ولا تنمو الا بالتغيير الثوري للمجتمع بأسره.

وفي فقرة هامة شهيرة في الجزء الثالث من (رأس المال) يقول ماركس إن "مملكة الحرية لا تبدأ، في الواقع، الا حيث ينتهي العمل الذي تفرضه الحاجة والضرورة الخارجية، لذا توجد، بالطبع، خارج دائرة الانتاج المادي ذاته. وينبغي على الانسان المتحضر، كما هو الحال تماماً بالنسبة للمتوحش، أن يدخل في صراع مع الطبيعة لارضاء حاجاته وللمحافظة على حياته وتجديد قواه الحيوية.. وهذا الالزام يوجد في كل الأشكال الاجتماعية وكل نماذج الانتاج أياً كانت. وكلما تطور الانسان المتحضر اتسعت مملكة الضرورة الطبيعية طردياً مع نمو الحاجات، ولكن في الآن ذاته تزداد قوى الانتاج التي توفر تلك الحاجات. وفي هذا السياق لا تنحصر الحرية الا في ما يلي: أن ينظم الانسان الاجتماعي والمنتجون المتجمعون بصفة عقلية عملية التكييف هذه التي تربطهم بالطبيعة، وأن يخضعوها لرقابتهم المشتركة، بدل أن يستسلموا لها وكأنها قوة عمياء، وان ينجزوا هذه العملية، في الوقت نفسه، بأقل الجهود الممكنة، وفي الظروف التي تكون أكثر تلاؤما مع كرامتهم وطبيعتهم الانسانيتين. ولكن هذا الميدان يبقى دائماً ميدان الضرورة. وفي ما بعد يبدأ ازدهار القوة الانسانية الذي يشكل غاية لذاته، أي تبدأ المملكة الحقيقية للحرية. لكن هذه المملكة لا تزدهر الا استناداً الى مملكة الضرورة. إن تقليص وقت العمل اليومي شرط أساسي لذلك".

وفي هذه الفقرة يعارض ماركس "المملكة الحقيقية للحرية" بـ "مملكة الضرورة"، حيث في الأخيرة تخضع الكائنات البشرية الى قيود يفرضها اضطرار البشر الى العمل لتلبية حاجاتهم المادية. وهذا يخلق شكلاً عملياً من الضرورة يتكون في الاضطرار الى القيام بشيء مستقل عما يرغب المرء في القيام به. إن هذا التعارض بين الحرية والضرورة ينطبق على المجتمعات الصناعية الحديثة لأن الطبيعة الميكانيكية المحدودة لأشكال العمل التي يقوم بها الكثير من الناس في هذه المجتمعات تجعل من الصعب رؤية كيف أن الأفراد يمكن أن يختاروا العمل في ظل غياب الغايات التي هي خارجية بالنسبة لفعل العمل نفسه، وبالتالي تقليص هذا الفعل الى وسيلة لغاية. ويشار الى حقيقة أن ماركس نفسه يصور العمل الضروري عندما يتعلق الأمر بتلبية الحاجات المادية للمجتمع باعتبارها متنافرة مع الحرية الحقيقية، يشار اليها في قوله إن تقصير يوم العمل هو الشرط الأساسي لمملكة الحرية الحقيقية التي تكون مملكة الضرورة المادية أساساً لها.

"ماركس الشاب" .. "ماركس الناضج" !

ان التعارض بين الحرية التي يتمتع بها الأفراد خارج العمل وضرورة العمل أثارت نقاشاً في يتعلق بالطبيعة المحددة لهذا التعارض، وما اذا كانت الفقرة المقتبسة أعلاه من الجزء الثالث من (رأس المال) تظهر أن آراء ماركس بشأن العمل خضعت لتغير أساسي. وقد أثارت هذه الفقرة الجدل، اذ توحي، على ما يبدو بالنسبة لبعض الباحثين، بادراك ينطوي على الحزن بسبب العمل المنتج الذي سيكون ضرورياً حتى في ظل الشيوعية. وتوصيف "الادراك المحزن" هو تعبير الباحث الماركسي الكندي جيرالد كوهين في مقالته الهامة الموسومة (ديالكتيك العمل لدى ماركس). وقد غير كوهين،لاحقاً،هذا الاتهام ليقدم صيغة أخف ويستخدم عبارة "الادراك الكئيب نوعاً ما". لكنه استمر على النظر الى الفقرة باعتبارها تكشف عن رأي ماركس حتى بالعمل ما بعد الرأسمالي"على أنه غير مرضٍ على الدوام". وهو انتقال يبدو جلياً، حسب كوهين، من نظرة ماركس المتفائلة في أربعينات القرن التاسع عشر من أنه في ظل الشيوعية سيكون العمل غير باعث على الاغتراب. وشارك آخرون في هذا الجدل واتخذ بعضهم موقف الضد من تفسير كوهين، موضحين أن الفقرة المشار اليها لا تكشف عن انتقال في الرأي، وبالتالي لا تنطوي على "تشاؤم عميق" أو "تقييم سلبي" من جانب ماركس للعمل ما بعد الرأسمالي.

وفي بحث هام للماركسي البريطاني جان كانديالي، الأستاذ في جامعة اسطنبول، حول (الحرية والضرورة في رؤية ماركس للحياة)، درس الموضوعة المثيرة للجدل وما اذا كان ماركس قد تغير كثيراً في مواقفه وتحليلاته خلال فترة حياته. فوفقاً لـ "القصة المروية" من أن ماركس، اذ تقدم به العمر، هجر رؤية تحقيق الذات في العمل، التي تحدث عنها في كتاباته الأولى، وتبنى نظرة أكثر تشاؤماً للعمل، حيث الحرية الحقيقية تنجز خارج يوم العمل، أي في وقت الفراغ. غير أن باحثين آخرين يجادلون بأنه ليس هناك انتقال متشائم في فكر ماركس بهذا الصدد.

وفي بحثه يقدم كانديالي قراءة مختلفة لهذا الجدل، فيشير الى أن هناك رؤيتيين لأسلوب الحياة عند ماركس، ويؤكد على أنه لا يمكن فهم الرؤيتين في سياق انتقال بسيط بين ماركس "الشاب" وماركس "الناضج". بالأحرى إنه يشير الى أن ماركس يتنقل بين هاتين الرؤيتين عبر كتاباته. وبهذا المعنى فان تطور ماركس الفكري بشأن هذه المسألة يفهم، على نحو أفضل، كتأرجح وليس كانتقال. وما أن يقدم كانديالي هذا التفسير يضيء بعض الأسباب والآثار المحتملة لتأرجح ماركس المديد عبر حياته بين هذين المفهومين للحياة الكريمة.

إن قراءة كانديالي البديلة ترى أن ماركس يتنقل بين نمطين في التفكير بشأن الحرية وعلاقتها بالضرورة، وهو ما يخلق نموذجين من العمل المتحرر من الاغتراب. النموذج الأول يشير الى أن "الحرية الحقيقية" يمكن تحقيقها في ما سماه ماركس، في وقت لاحق، "مملكة الضرورة، أي العمل الذي يلبي الحاجات الاجتماعية. أما النموذج الثاني فيرى، على النقيض من ذلك، أنه بينما يمكن أن يكون هناك نمط أو شكل من الحرية في العمل الذي يلبي الحاجات الاجتماعية، فان "الحرية الحقيقية" يمكن تحقيقها خارج هذه المملكة، في النشاطات التي لا تقررها الضرورة الاجتماعية. غير أن هاتين الضفتين لا يمكن فهمهما في اطار تحول تشاؤمي بسيط بين كتابات ماركس الأولى المتفائلة، وكتاباته الأخيرة التي يفترض أنها نصوص أقل تفاؤلاً. بالأحرى نستطيع أن نجادل بأن ماركس يتنقل بين النموذجين عبر أعماله، ولم يستقر تماماً على نموذج واحد. إنه تأرجح وليس انتقالاً.

أما أولئك الباحثون الذي يرون تحول ماركس في رؤيته للمجتمع الشيوعي فيقولون إن هذا التحول في الآراء تبلور في الجزء الثالث من (رأس المال)، حيث يبدو أن ما ورد فيه يقدم للبعض دليلاً يرونه قاطعاً على أن ماركس قد غيّر، بالفعل، آراءه حول المجتمع الشيوعي، مبتعداً عن تفاؤل الشباب الذي نجده في كتاباته الأولى، ليتبنى رأياً "أقل تفاؤلاً وأكثر واقعية" بشأن العمل في مجتمع المستقبل في أعماله الأخيرة الناضجة. فبينما كان ماركس قد أشار سابقاً الى أن العمل نفسه سيصبح نشاطاً حراً خالياً من الاغتراب في ظل الشيوعية، فانه يبدو، لاحقاً، وهو يصور النشاط الاجتماعي باعتباره ينتمي، لا ريب، الى "مملكة الاغتراب"، بغض النظر عن أسلوب الانتاج الذي يحدث فيه. ومن المؤكد أن العمل في "مملكة الضرورة" أقل اغتراباً من العمل في ظل الرأسمالية، ولكن تظل هناك درجة من اللاحرية حتى في ظل الاشتراكية.

وبينما تبقى القراءة "المتشائمة" لرأي ماركس الناضج في المجتمع الشيوعي متأرجحة بشكل عام، جادل باحثون آخرون بأن هذا يستند الى قراءة خاطئة لآراء ماركس في فترة نضجه. وتعتبر حاسمة بالنسبة لموقفهم الحجة التي تقول إنه "استدلال غير مبرر" أن نستنتج أن مملكة العمل الضروري هي مملكة "اغتراب" أو "لاحرية"، ويرون أن ماركس لم يصف مملكة الضرورة بهذه الطريقة اطلاقاً. على العكس من ذلك وفي الفقرة ذاتها يتحدث ماركس بوضوح عن الحرية في "مملكة الضرورة".

وبقراءة موقف ماركس في الجزء الثالث من (رأس المال) في ضوء أكثر ايجابية يتوصل هؤلاء الباحثون الى رؤية الكثير من استمرارية بين آراء ماركس الشاب وآرائه في فترة النضج بشأن العمل المتحرر من الاغتراب في ظل الشيوعية، ولا يرون أي تناقض في آرائه في الفترتين. بالأحرى يرون أنه يجب النظر اليها باعتبارها "تطويراً وتوسيعاً" لآرائه المبكرة، مشيرين الى أن آراء ماركس توضح، من البداية حتى النهاية، أن العمل سيتحول جذرياً ليوفر، في ظل الشيوعية، مورداً هائلاً لبهجة العامل.

ولكي يكون الجدال ذا معنى بين من يرون انتقالاً متشائماً في آراء ماركس في فترة النضج ومن يرون تفاؤلاً متواصلاً في النصوص ذاتها، يرى كانديالي ان آراء ماركس حول العمل تتغير كثيراً خلال فترة حياته، ولكن ليس بالطريقة المفترضة عموماً، أي ليس بطريقة التشاؤم والتفاؤل.

"الانسانية الماركسية"

وأخيراً، وارتباطاً بالجدل الذي أثير ومايزال بشأن العديد من أسس النظرية الماركسية وجوانبها المختلفة نرى من المفيد أن نشير هنا، على نحو شديد الايجاز، الى موضوعة "الانسانية الماركسية" المرتبطة بموضوع مقالنا. وهي من أركان الماركسية التي تركز، أساساً، على كتابات ماركس الأولى، خصوصاً (مخطوطات 1844 الاقتصادية والفلسفية) التي قدم فيها ماركس نظريته في الاغتراب، بينما اهتمت أعماله، بصورة أكبر، كما هو معروف، بمفهومه البنيوي للمجتمع الرأسمالي.

ويظل مصطلح "الانسانية الماركسية" ومفهوم الاغتراب جزءاً من الفلسفة الماركسية. وقد ذهب الباحث السوسيولوجي البريطاني تيودور شانين والباحثة الأميركية الأوكرانية الأصل رايا دوناييفسكايا أبعد من ذلك، حين أكدا على أنه ليس الاغتراب، وحده، قائماً في أعمال ماركس الأخيرة، وانما ليس هناك انفصام بين ماركس الشاب وماركس في سنوات نضجه.

وقد جاء النقد الأشد لمفهوم "الانسانية الماركسية" من الماركسي الفرنسي لويس ألتوسير الذي وصف المفهوم باعتباره "تحريفياً"، وانتقد الانسانيين الماركسيين لعدم اعترافهم بالفارق بين "ماركس الشاب" و"ماركس الناضج"، مشيراً الى أن انسانية ماركس في كتاباته الأولى، المتأثرة بهيغل وفويرباخ، كانت متناقضة، جوهرياً، مع النظرية "العلمية" االتي تجلت في أعمال ماركس "الناضجة" مثل (رأس المال).

ويرى ألتوسير أن فكر ماركس اتسم بما سماه "استراحة" أو "قطيعة" معرفية، بدأت في مؤلفه وانجلز الموسوم (الآيديولوجيا الألمانية) – 1845. ويقارن ألتوسير عمل ماركس بأهم الاكتشافات النظرية في تاريخ العلم، فيقول إن اليونانيين افتتحوا قارة معرفية أولى هي الرياضيات، وافتتح غاليلي قارة معرفية ثانية هي الفيزياء، بينما افتتح ماركس القارة المعرفية الثالثة التي هي قارة التاريخ.

لا ريب أن أفكار ألتوسير و"الماركسية البنيوية" بحاجة الى جدال عميق نأمل أن تتوفر فرصته في وقت لاحق. 

عرض مقالات: