تتعاظم شعبية شعار "الاصلاح والتغيير" ارتباطاً بتعاظم استيعاب هذه العملية، وضرورتها لاخراج البلاد من أزمتها المتفاقمة المستعصية. ونظراً لاحتدام الصراع السياسي والاجتماعي باتت حتى القوى المعرقلة للاصلاح والتغيير، أيّاً كانت منطلقاتها ومصداقيتها ومراميها، ترفع هذا الشعار. وبات جلياً، اليوم، أنه ما من سبيل لاخراج البلاد من مأزقها الناجم عن المحاصصة سوى التغيير الحقيقي، الذي لابد أن يبدأ بالبنية السياسية للنظام القائم، المستندة الى نهج المحاصصة، ولّاد الأزمات.

ووسط التباسات الراهن والرؤى الغائمة في ما يتعلق بالمفاهيم، فضلاً عن حقائق الواقع، تتسم بأهمية خاصة مسألة الرؤية الواضحة لموضوعة "الاصلاح والتغيير".

وانطلاقاً من هذه الحقيقة سيركز مقالنا على الاطار النظري للمفهوم، لينتقل الى تأمل طائفة من الحقائق الملموسة للواقع العراقي المعقد.

أي تغيير ننشد ؟

لابد أن نتساءل ابتداء: أي تغيير ننشد ؟ لمصلحة من هذا التغيير ؟ الى أي مدى نمضي به ؟ وكيف نمضي ؟

بالطبع تغيير لمصلحة الكادحين والمحرومين .. وتغيير الى مدى بعيد .. غير أننا لا نتحدث، على أية حال، عن ثورة اجتماعية ، مع أن هذا هو هدفنا النهائي. فنحن نعلم أن التوازن السياسي والاجتماعي، وهو شرط أساس لمثل هذا التغيير، غير متوفر في واقعنا الراهن، ناهيكم عن غياب شروط أخرى. ومن هنا فاننا بحاجة الى معرفة وتحديد مديات هذا التغيير.

يتهمنا بعض اليساريين المختلفين معنا بأننا نجري وراء أوهام وغايات تبدو مستحيلة وبعيدة عن المنطق، وأننا نحاول إلباس الواقع قميص ماركس "الضيق"، ونتغنى بعبارات من لينين وروزا لوكسمبورغ وغرامشي وسواهم، وهي بعيدة عن الظرف الذي نعيش !

في فضاء هذا "اليسار" تتردد موضوعتان كلتاهما خاطئتان. ترى الأولى أن الاصلاح السياسي لا الثورة الاجتماعية، هو الذي يمكن أن يحقق أشواق الجماهير، بينما ترى الثانية أن الثورة الاجتماعية ليست مطروحة على مجتمعنا العراقي، بل لم تعد مطروحة حتى على المستوى العالمي.

ومن الطبيعي أننا حين نرفع شعار التغيير من أجل الديمقراطية في دولة مدنية تحقق العدالة الاجتماعية، فانما نستند الى تحليل الواقع الملموس، لنحدد هدفاً صحيحاً وممكناً. غير أننا، كماركسيين، لا ننسى أن الديمقراطية هي محتوى قبل أن تكون شكلاً. وسيكون من باب المقارنة العرجاء أن نتحدث عن الديمقراطية الليبرالية في مجتمع أوروبي مثلما نتحدث عن الديمقراطية في مجتمعنا العراقي، الذي يتسم، من بين أمور أخرى، بتاريخ من الاستبداد، وغياب الأسس المدنية، وتخلف التطور الرأسمالي. كما أننا لا يمكن أن ننسى حقيقة أن هذه الديمقراطية يمكن أن تكون في خدمة رأس المال، مثلما يمكن أن تكون في خدمة الكادحين.

ومن ناحية أخرى فانه في سياق الهبة الجماهيرية الراهنة لا يصعب علينا أن نرى كيف أن قوى طائفية معرقلة للاصلاح حتى الأمس القريب، راحت تركب الموجة في مسعى لتطويق الهبة الشعبية واجهاضها وتقديم ثمار التضحيات لسدنة المحاصصة والطائفية والفساد.

ويعلمنا التاريخ، من بين دروس أخرى، أن "البرجوازية" لا تتخذ من المواقف الا ما هو متناقض، ولكنه متمسك، رغم ذلك وفي جوهره، بمصلحتها "الطبقية". فقد يؤيد البعض، كما نرى الآن في التصريحات، وبعضها زائف ومغرض بالطبع، "الانتفاضة" التي تطرح مطالب "عادلة"، شرط أن تقف هذه "العدالة" عند الحدود التي لا تهدد امتيازات الحكام المتنفذين، والا فانهم سينقلبون، ويعودون الى جوهر موقفهم الطبقي، وهم يستخدمون كل ما في ترسانتهم من أسلحة وأساليب لاجهاض الحركة الشعبية.

لكن مساعي القوى المتنفذة، التي يضطرها تطور الواقع الى رفع شعارات زائفة للتكيف مع مسار الحركة الاجتماعية، أو اتخاذ مواقف سافرة لعرقلة حركة الجماهير، أن هذه المساعي ينبغي أن لا تدفعنا، في سياق ردود أفعال، الى تجاوز ما يحتمله الواقع، واللهاث وراء شعارات "يسارية طفولية" أو فوضوية أو عدمية، تعكس الجزع والتسرع وضيق الأفق.

ومن المؤكد أن الرهان على الحركة الجماهيرية ليس حلماً ساذجاً ولا وهماً يحلّق فوق الواقع. وأمامنا الكثير من الأمثلة الساطعة في التاريخ المعاصر والحديث في أنحاء مختلفة من عالمنا، حيث جرت الاطاحة بأنظمة استبدادية، وحيث اتسعت حركة الاضرابات والاحتجاجات ومناهضة الحروب والعولمة، وهي أشكال كفاح ساهم فيها الملايين. ولا ريب أن من بين الدروس الغنية المستخلصة من هذه الحركات الاجتماعية، المطالِبة بالاصلاح والتغيير، أن هناك تلازماً وتكاملاً بين مهمتي الكفاح اليومي المطلبي الجماهيري، والكفاح السياسي من أجل التغيير.

ولكن ماهو التغيير السياسي ؟

في الاطار العام يمكن القول إن هذا التغيير يعني الانتقال من حالة استبداد الى حالة ديمقراطية. ويطلق بعض الباحثين على التغيير السلمي صفة (الاصلاح) ، وهو ما يشتمل على تحقيق المطالب السياسية والاقتصادية، وبعضها مطالب ذات طابع اجتماعي. وقد يشتمل هذا على تغيير الدستور والتشريعات والقوانين، وتحقيق مكاسب وضمانات اجتماعية، وشكل من اعادة بناء النظام السياسي، أي البنى السياسية والعلاقات بين القوى الاجتماعية، على النحو الذي يترك آثاره على التوازن السياسي والاجتماعي. ومن الصحيح القول إن مكافحة الفساد تدخل في هذا الاطار، أي أنها جزء أساس من عملية الاصلاح السياسي.

والاصلاح السياسي بهذا المعنى يختلف عن الاصلاح أو التغيير الجذري للنظام القائم. وتعد الديمقراطية سبيلاً الى التغيير السياسي في اطار النظام المدني أو الليبرالي. أما التغيير السياسي في الاطار الاجتماعي فمرتبط، جوهرياً، بالصراع الطبقي الذي يؤدي الى الاطاحة بالنظام السياسي والاجتماعي القائم. ومثل هذا التغيير الثوري لا يستلزم، بالضرورة، سبيل العنف، انما قد يبدأ بالتغيير السياسي، الذي يمكن أن يكون ممهداً لتعميق المحتوى الاجتماعي للتغيير، أي إحداث التحول في العلاقات الاجتماعية.

وفي هذا السياق يمكن أن يكون التغيير السياسي سلمياً ومتدرجاً في اطار القوانين والمؤسسات القائمة، اي أنه لا يتضمن تغييرات جذرية في فترة زمنية محددة، وانما بطريقة تراكم تمنح الزمن فرصته. أما الأسلوب الثوري في التغيير فيختزل عامل الزمن، وقد يلجأ الى حرق مراحل في إحداث عملية التغيير. وغني عن القول إن العلاقة بين النمطين علاقة ديالكتيكية.

ومن سمات التغيير العامة أنه يحمل معنى الحراك، لكنه يبقى، على أية حال، موضع جدل واختلاف انطلاقاً من المناهج والبرامج والأسس والأساليب.

النزعة الاصلاحية والصراع الطبقي

لعل من المفيد التذكير بأن الاصلاحية كمصطلح وكظاهرة نشأت في المجتمعات الرأسمالية المتطورة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. وكان لها معنى مختلف عما هو عليه الحال الآن. فالاصلاحية الأوروبية نشأت كتيار سياسي في أوساط الحركة العمالية تبلور بصيغة أحزاب اشتراكية ديمقراطية ذات "نزعة" يسارية، لكنها تعمل بأساليب وأدوات برلمانية. وجوهر تلك الحركة الاصلاحية أن الطريق الى الاشتراكية يمر عبر اصلاح تدريجي سلمي، وفي ظل تشريعات ومؤسسات النظام القائم.

أما "إصلاحيونا العراقيون" فلا يمتون بصلة لهذه "الاصلاحية الكلاسيكية". وأما المنطلق السليم لفهم طبيعتهم السياسية والطبقية والعلاقات التي تربط بينهم فيمر عبر النظر في التاريخ الطبقي للمجتمع العراقي في العقود الأخيرة خصوصاً.

إن كل الأحزاب البرجوازية خارج الحزب المتنفذ الحاكم ستتبني المنهج الاصلاحي البرجوازي الى هذا الحد أو ذاك. وليس غريباً أن تستخدم لغة تحاول عبرها أن تستميل الجماهير، وتنتقد النظام القائم وتعتبره هو المسؤول عن الأزمة الاجتماعية . لكنها لا تدخل في تناقض مع أسس النظام الاجتماعي الطبقي لأن حفاظها عى امتيازاتها هو الذي يحدد موقفها. فهي لا يعنيها القيام باصلاحات اجتماعية عميقة، وحتى عندما تحرض ضد الوضع القائم فان تحريضها لا يتجاوز نقد سياسة السلطة، وليس طبيعة النظام. فالقضية الأساسية بالنسبة لها هي تقاسم النفوذ والغنائم وضمان المصالح والامتيازات. واذا ما تنازعت فان هذا النزاع لا يعدو كونه عائلياً داخل بيت الهيمنة. وقد يتسع ويتعمق هذا النزاع أحياناً، لكنه لا يصل الى القطيعة "الطبقية". ومن الطبيعي أنه لا يجوز للثوريين التصرف بسذاجة والانخداع بمزايدات المتنفذين ومن يقف معهم، وانما ينبغي اتخاذ موقف فضح هذه التناقضات في سياق المعركة السياسية.

وعلينا أن ندرك حقيقة أنه ليس كل معارض للنظام يتبنى نهجاً اجتماعياً لتغييره. فالنظام القائم يواجه، عادة، هجوماً من أطراف يمكن أن تكون متناقضة. وبالتالي فانه ليست كل دعوة لتغيير السلطة هي دعوة ذات محتوى تقدمي أو تنويري، وتصب في مجرى مصلحة الجماهير. ومن الخطأ الفادح وضع كل "الاصلاحيين" في خانة واحدة أو توجه واحد. فبعضهم يكون، أحياناً، أسوأ وأخطر من السلطة التي يعارضها !

ويتعين علينا أن نرى بوضوح حقيقة أن كل القوى المهادنة تتفق، على اختلاف أنماطها، على تمسكها بقاعدة واحدة لا تتنازل عنها، وهي أن الاصلاح لا يمكن ولا ينبغي أن يمس الأسس الطبقية للمجتمع الراهن.

واذا ما قبل الثوري أن يكون البرنامج "البرجوازي" أساساً لمشروعه السياسي، فلا ريب أنه سيجد نفسه تحت ظلال هذا البرنامج كأساس لرؤيته للاصلاح. وبالتالي فان عملية الاصلاح يمكن أن تخضع للمساومات، أو الصفقات السياسية مع السلطة أو أحد أجنحتها. فالمطلوب في مثل هذه الحالة لا التغيير الحقيقي الجذري، وانما اصلاحات تجمّل وجه النظام، وتطيل عمره، وتؤبد ثقافته السائدة وتحمي وجوده. ومن الطبيعي أن المساحيق لا يمكن أن تخفي الوجه الحقيقي.

الماركسية والاصلاحية  

يعترف الماركسيون، خلافاً للفوضويين، بالنضال من أجل الاصلاح. ويرون أن هذا لا يتعارض مع رؤيتهم الواضحة للاصلاحية باعتبارها، في الجوهر، خداعاً للعمال الذين هم عبيد مأجورون مادام نظام الاستغلال الراسمالي قائماً.

ويدرك الماركسيون أن البرجوازية الليبرالية تمنح الاصلاحات بيد وتسترجعها بأخرى. ومن المؤكد أن كل ثقة بالاصلاحيين تعني انخداعاً للعمال.

أما اذا استوعب العمال رؤية ماركس، أي اذا أدركوا حتمية عبودية العمل المأجور طالما أن هيمنة رأس المال سائدة، فانهم يكتشفون تضليل الاصلاحية. غير أن هذا لا يمنعهم من استثمار الاصلاحات من أجل تطوير وتعميق كفاحهم الطبقي.

وتبين لنا أحداث التاريخ وتجاربه أن الماركسيين لا يتوانون، بل، بالعكس، يمضون قدماً، بكل عزم ووضوح، في طريق استثمار الاصلاحات والكفاح من أجل تحقيق المزيد منها.

واذ يعترف الثوريون بحقيقة أن العنصر الحاسم في تطور التاريخ والمجتمع هو انتاج واعادة انتاج الحياة الحقيقية، وأن العنصر الاقتصادي أساس في هذا التطور، فانهم يدركون أن البنية الفوقية، أي الأشكال السياسية للصراع الطبقي، لها دور فاعل. فالدستور، على سبيل المثال، هو نتاج صراع طبقي يمارس دوره في التحول الاجتماعي.

ولا يمكن لنا، كماركسيين وكثوريين حقيقيين، أن نكون غير مبالين بما تحققه الاصلاحات، حتى المحدودة منها، والتي لا تغير النظام القائم جوهرياً، ولكنها تترك آثارها المتعددة الجوانب على الناس وحياتهم وظروف كفاحهم.

ومن المعروف أن الاشتراكيين الثوريين في ألمانيا شاركوا في مؤسسات رجعية، وكذلك فعل البلاشفة في روسيا، وعلى منهجهم سار الثوريون في الموقف من هذه الممارسة، على الرغم من علمهم أنهم غير قادرين على استبدالها، لأن شرط استبدالها، ونعني التوازن السياسي والاجتماعي المنشود، غير متوفر.

يحق لنا أن نتساءل: هل زكّى ثورويو ألمانيا(روزا لوكسمبورغ وكارل ليبكنخت وسواهما) البرجوازية وجرائمها، أم أنهم استثمروا مؤسساتها لفضح سياسات البرجوازية، وتمرين الشغيلة على الكفاح، ونشر الوعي السياسي، والتحريض على استثمار السخط والنضال ضد مسببي المعاناة والحرمان ؟

إن تحريم أشكال العمل السياسي الشرعي واتخاذ موقف سلبي من الاصلاحات هو موقف عدمي يكشف عن افتقار الى خبرة الكفاح العملية، وسلوك عقيم يعكس قصوراً سياسياً وفكرياً.

ينبغي على الثوريين مكافحة الخنوع لضغوط المواقف "الصبيانية" و"الجمل الثورية" الجوفاء، والمزايدة بالشعارات البراقة، البعيدة عن الواقع الملموس، والتي تصب، في خاتمة المطاف، في المجرى ذاته الذي يحرك طواحين القوى المتنفذة. 

اصلاح اجتماعي أم ثورة ؟

يبقى رد روزا لوكسمبورغ على بيرنشتاين في بحثها الهام الموسوم (اصلاح اجتماعي أم ثورة) إحدى الاجابات الأكثر عمقاً حول الأوهام التي يخلقها استقرار الرأسمالية. فقد أكدت على أن تحقيق المساواة القانونية أو السياسية في ظل الرأسمالية لا يحل ولا يمكن أن يحل التناقضات الاجتماعية الأساسية لنظام يعتمد على العمل المأجور والاستغلال الطبقي.

وحقق (اصلاح اجتماعي أم ثورة)، للوكسمبورغ سمعة في الحال باعتبارها شخصية بارزة في الكفاح ضد الاتجاهات الاصلاحية في الأممية الثانية. غير أن هذا لم يؤد بها الى التقليل من أهمية الدفاع عن الحقوق الديمقراطية في المجتمع القائم، كما نرى ذلك واضحاً، على وجه الخصوص، في موقفها من قضية دريفوس.

لقد طرح لينين، في الغالب، الحزب باعتباره أداة جوهرية للوعي الطبقي، بينما وضعت لوكسمبورغ الوعي الطبقي في الكفاح اليومي للجماهير، الذي كان الحزب بحاجة ماسة الى المساعدة على تحقيقه. وكتبت في (اصلاح اجتماعي أم ثورة) قائلة إنه "مادامت المعرفة النظرية امتياز مجموعة من "المثقفين" في الحزب، فانها ستواجه خطر الانحراف. وفقط عندما تأخذ جماهير العمال بأيديها السلاح الماضي والمضمون للاشتراكية العلمية ... فان كل التيارات الانتهازية سيكون مآلها الاخفاق التام".

لقد أصبح بحث روزا لوكسمبورغ، الذي قدمته عام 1899، وردت فيه على كتاب  زعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني الموسوم (مسلمات الاشتراكية ومهام الديمقراطية الاجتماعية)، أصبح أحد أهم كلاسيكيات الماركسية.

وفيه تتساءل: أيمكن أن تكون الاشتراكية الديمقراطية ضد الاصلاحات ؟ هل يمكننا أن نعارض الاصلاحات الاجتماعية بالثورة الاجتماعية، أي بتحويل النظام القائم، هدفنا النهائي ؟ كلا، بالتأكيد. فالنضال اليومي من أجل الاصلاحات، ومن أجل تحسين وضع العمال الاجتماعي ومن أجل المؤسسات الديمقراطية، هو سبيل الاشتراكية الديمقراطية الوحيد الى خوض الطبقة البروليتارية باتجاه الهدف النهائي، أي الاستيلاء على السلطة والغاء العمل المأجور.

وتضيف لوكسمبورغ أنه "من يريد اليوم أن يبدو اشتراكياً ويعلن، في الوقت ذاته، الحرب على النظرية الماركسية، أعظم نتاج للعقل البشري في هذا القرن، يجد أن عليه أن يبدأ ملزماً بتقديم فروض الاحترام لماركس، وأن عليه أن يبدأ باعلان نفسه تلميذاً لماركس، باحثاً، في تعاليم ماركس ذاتها، عن مواطن دعم لهجوم على النظرية الماركسية، متظاهراً أن هذا الهجوم انما هو تطوير للماركسية".

وتؤكد أنه "ليس هناك إهانة للعمال أكثر وقاحة، ولا من تشهير بهم أكثر وضاعة من القول إن"النقاشات النظرية خاصة بالأكاديميين حسب". لقد قال لاسال منذ بعض الوقت "فقط عندما يصبح العمال والعلم، هذان القطبان المتقابلان للمجتمع، كلاً واحداً، سيسحق العمال بأذرعهم الفولاذية كل العوائق التي تقف في طريقهم الى الثقافة". إن كل قوة الحركة العمالية الحديثة تعتمد على المعرفة النظرية".

احتدام الصراع .. القوى المعرقلة 

يتفاقم الصراع الاجتماعي متعاظماً في ظل مآسٍ قلّ نظيرها وأزمات تستعصي على الحل، لأن من يعتاشون على المآسي والأزمات مازالوا الغالبين .. وبات جلياً أن لا خروج من النفق المظلم الا عبر تغيير الموازين، وهو الغاية التي يسعى اليها الحراك الشعبي المطالب باصلاح حقيقي لا ترقيعي.

وفي الظرف الراهن تتكامل عناصر الأزمة الاجتماعية، مؤكدة أن النظام السياسي الحالي، القائم على منهجية المحاصصات، عاجز عن تقديم الحلول للمعضلات المعقدة والعميقة التي يعاني منها الملايين، وانقاذ البلاد من محنتها المروعة.

ورداً على اخفاق القوى المتنفذة الحاكمة انطلق الحراك الشعبي. وبدأت موضوعة الاصلاح تطرح على خلفية تنامي الأزمات التي راحت تتجسد بشكل أكثر وضوحاً وتواتراً. وقد بات أكثر جلاء أن الأزمات، وهي نتاج المحاصصة التي لا توفر أية آلية أو اطار لحلها، تستعصي على الحل، على الرغم من مختلف المحاولات لايجاد حلول.

وستظل المحاصصة، أياً كانت التسميات التي تتخذها من توافق وتوازن ... وسوى ذلك، في الجوهر والواقع، تقاسماً للنفوذ والامتيازات بين قوى طائفية واثنية. ولا يمكن انجاز أي شكل من أشكال الاصلاح الحقيقي بآليات تتعارض مع الاصلاح بل وتعرقل انجازه. وهذا هو أحد المآزق التي تواجهها حكومات المحاصصات، وهي تمضي بالمزيد من الحزم "اللفظية"، عاجزة عن الاستناد الى داعمين حقيقيين متمثلين بالمرجعية والمتظاهرين.

غير أن بصيص أمل أضاء في سياق التوازن السياسي والاجتماعي الراهن، الناجم عن نتائج الانتخابات ووجهة الصراع السياسي، وهو ما يحدونا الى الاعتقاد بأن تشكل حكومة عابرة للطوائف ومستندة الى مباديء المواطنة والكفاءة والنزاهة يمكن، اذا ما تحقق هذا، وأعدت مثل هذه الحكومة، المحتملة والمنشودة، برنامجاً واقعياً مدروساً وآليات سليمة للتنفيذ، أن يكون الخطوة الأولى على طريق الاصلاح الطويل، والشاق، والمليء بالحواجز.

ومن نافل القول إن مثل هذه الانعطافة في وجهة التطور لا يمكن أن تكون واقعية وسالكة السبيل القويم الى ما يبغيه الملايين من المحرومين، ما لم يجر التخلص من منهجية المحاصصة الطائفية والاثنية، التي هي جوهر النظام السياسي. وكل حديث عن سبيل آخر ليس سوى ضرب من الأوهام.

ان التغيير الذي نعنيه هنا، في واقعنا العراقي الملموس، هو تغيير بنية النظام السياسي، ابتداء بالتخلي عن نهج المحاصصة الطائفية والاثنية، وهو ولّاد الأزمات.

وحتى يتغير هذا النهج لابد من تغيير نمط التفكير، والشخوص الذين يديمون هذا النهج ويؤبدونه. ولا نعني بالتغيير، هنا، الاطاحة العنفية بسلطة الدولة وقلب النظام السياسي، وانما الطريقة السلمية التي تشكل الانتخابات أحد أهم عناصرها، الى جانب الحركة الاحتجاجية والمطلبية، وأشكال الكفاح السياسي والفكري الأخرى.

ومن الطبيعي أن قوى المجتمع القديم، المتنفذة، لن تستسلم بسهولة، بل ستهب، على الرغم من اختلافاتها وصراعاتها حول الامتيازات، دفاعاً عن مصالحها الطبقية، مستخدمة كل ما في ترسانتها من أسلحة في مجابهة القوى الساعية الى التغيير، التي يتعين عليها، من بين أمور أخرى، امتلاك فن ادارة الصراع حتى يمكن تغيير ميزان القوى السياسي والاجتماعي لصالح عملية التغيير.

لقد توفرت عوامل موضوعية أكثر وأرضية أكبر للاصلاح الذي اكتسب بعداً جماهيرياً، وبات عاماً وشاملاً للبلاد، واغتنى محتواه الاجتماعي. لكن عملية الاصلاح تمر بمخاض عسير وتناقضات لا حصر لها. فنهج المحاصصة، الذي يتعارض مع أي اصلاح أو تغيير، يتواصل ويتكرس في ظل مناخ طائفي تتصارع فيه الكتل على اعادة تقاسم النفوذ والامتيازات في ظل أجواء فساد مشاع وأزمة سياسية واجتماعية عميقة.

ومن الطبيعي أن على القوى المدنية تحاشي طرح ما هو تعجيزي، والتعامل بواقعية مع موضوع الاصلاح. ومن المهم هنا أن يتحسس الناس، الذين فقدوا الثقة بالحكومة وراحوا يشككون بكل خطوة تخطوها، بأن الحكومة تريد الاصلاح حقاً. ويكتسب أهمية خاصة، هنا، التوجه الى الحسم في معالجة ملفات الفساد، واستئصال جذوره.

ومن ناحية أخرى فانه لا يمكن فهم الاصلاح بمعزل عن الديمقراطية الحقيقية، التي هي جوهر الاصلاح.

وينبغي أن يشمل أي اصلاح حقيقي مختلف جوانب بناء الدولة وسلطاتها التشريعية والتنفيذية والقضائية. وبما أن المحاصصة الطائفية والاثنية هي في جوهر أزمة النظام السياسي واخفاقه في سائر الميادين، فمن المؤكد أن الخلاص منها وترسيخ مبدأ المواطنة يعد ركناً أساسياً في أي برنامج للاصلاح.

ومن الطبيعي أن يتوجه الاصلاح الى تلبية حاجات الناس الأساسية. وبالتالي فان العدالة الاجتماعية عنصر جوهري من عناصر الاصلاح.

ومما يتعين التأكيد عليه، في هذا السياق، أن العبرة لا تكمن في الاعلان عن النوايا، وانما تحويل قرارات الاصلاح الى واقع ملموس.

ولأن الاصلاحات تهدد امتيازات القوى المتنفذة فانها تدخل في تعارض مع مصالح هذه القوى غير المستعدة للتخلي عن نفوذها، والتي تشعر بتهديد لمواقعها، فضلاً عن المعارضة التي تبديها منظومات ومافيات الفساد. ومن الطبيعي أن تواجه اجراءات تطبيقها مقاومة قوية وعنيدة.

ومن الصحيح القول إن معركة الاصلاح هي معركة سياسية واجتماعية من الطراز الأول، ولابد، بالتالي، من أن تترافق خططها وبرامجها مع عمل سياسي فكري واجتماعي دؤوب من أجل تغيير ميزان القوى لصالح عملية الاصلاح.

ومن المؤكد أنه لا سبيل الى ضمان عناصر نجاح الاصلاح ما لم يستند الى رؤية واضحة للقوى السياسية والاجتماعية التي تتضرر منه، وتلك التي تستفيد منه. وهو ما يتطلب ادارة سليمة للصراع وللاصلاح من جانب القوى المعنية.

ان العناصر الأساسية للاصلاح ترتبط بطائفة من القضايا الرئيسية. ويتقدم هذه القضايا اصلاح النظام السياسي، ومكافحة الفساد، واصلاح القضاء، واصلاح الاقتصاد، وتلبية مطالب وحاجات الناس، وضمان حقوقهم.

ومن الطبيعي أن عملية الاصلاح تتعارض مع امتيازات ومصالح قوى وشخصيات متنفذة غير مستعدة للتنازل عن سلطتها، وبالتالي فان الاصلاح يجابه مقاومة عنيدة من قبل هذه القوى "القديمة" التي تدافع عن مواقعها.

وهذه المقاومة هي تعبير عن الصراع، الذي يؤدي تعمق الأزمة الاجتماعية والسياسية الى اشتداده، ووصوله الى الحد الذي لا يمكن حله الا بالتغيير.

ومن نافل القول إن مطالب المتظاهرين والمعتصمين باتت في غاية الوضوح، على الرغم من محاولة "قوى معينة" حرف الحركة الاحتجاجية عن مسارها السلمي، الصحيح والمثمر، كما شهدنا في احداث البصرة الأخيرة.

لقد بات من الجلي أن هناك  طيفاً واسعاً من القوى التي تمتلك مواقع نفوذ قوية في السلطة والقوات المسلحة والمليشيات، ولديها قدرات وموارد مالية هائلة ووسائل اعلام وفضائيات وصلات خارجية. وتتقدمها، بالطبع، منظومات الفساد في الدولة وخارجها.

وتتوحد كل هذه القوى، رغم تناقضاتها، في خندق الدفاع عن سلطتها التي يهددها الاصلاح الحقيقي والحراك الاحتجاجي، الأمر الذي يجعل من عملية الاصلاح معركة سياسية واجتماعية بامتياز.

ومن الخطأ الفادح والنظرة القاصرة وغياب النضج السياسي والفكري الاكتفاء بالتعامل مع الاصلاح باعتباره عملية ادارية تكنوقراطية، فهذا ما يصب، من الناحية العملية، في طاحونة عرقلة الاصلاح، وهو ما تسعى اليه قوى الاعاقة.

ولا ريب أن الطريق نحو الاصلاح طريق شاق ومعقد، بل مركب. وبالتالي لابد من رؤية واضحة لعوامل الاعاقة وتشخيصها على نحو دقيق.

ان الحراك صيرورة، وكذلك الصراع، ولا يمكن التنبؤ بكل التجليات والأشكال. غير أنه يمكن القول إنه كلما ازداد الحراك تأثيراً، وبالتالي تهديداً للقوى المتضررة من الاصلاح الحقيقي، ازداد الصراع احتداماً وازدادت قوى الاعاقة استقتالاً.

*     *    *

في دراستنا للواقع وسماته، ورؤيتنا لموضوعة التغيير لابد أن نسترشد، من بين ينابيع وأفكار وموارد أخرى، بمقولة ماركس في (موضوعات عن فويرباخ) من أن "الفلاسفة اكتفوا بتفسير العالم، بينما المهمة تكمن في تغييره". ونستذكر استنتاجه البهي الملهم من أن "الأفكار تتحول الى قوة مادية عندما تستحوذ على الجماهير". وأمامنا يضيء قول غوته البليغ من أن "النظرية رمادية، لكن شجرة الحياة خضراء" !

لن ننسى دروس الماضي البليغة .. ولن نغشي أبصارنا عن حقائق الواقع .. ونحن نمضي بلا أوهام، وغير هيّابين، عابرين جسور التحدي، مسلحين بالأمل، الى غاياتنا، مسترشدين بنور فكرنا الخلّاق، وتجاربنا ذات العبر الموحيات ..

ضحايا المآسي، من ملايين الكادحين والمحرومين والحالمين، يعرفون من نحن .. واذ نمد لهم أيادينا الحانية، الواثقة، يمضون معنا، سوراً يحمينا، ويحتمي بقيمنا الساميات، ومثلنا الملهمات، وآمالنا المقبلات !

عرض مقالات: