منذ نهاية اربعينيات القرن الماضي وإلى الآن ونحن نضع أرواحنا على كفوفنا، ونلبس الخاكي، ونحمل البندقية، ونردد أنشودة تقول:"يا حُوم اتبع لو جرينا"، إن كان ذلك على المستوى القومي على أرض فلسطين، أو كان على المستوى الوطني في اقليم كردستان العراق، أو كان على المستوى الوطني/ القومي على الحدود الشرقية مع إيران، أو مع أمريكا.

والسؤال المطروح هو: لماذا نكتب عن الحرب فيما العالم العربي والأجنبي غادر هذه الموضوعة الى قضايا عديدة مثل الحب والمسائل الانسانية الأخرى؟

 سؤال طرحته على ذائقتي و أنا أقرأ للقاص هيثم بهنام بُردى مجموعته الجامعة – التي أسميتها كشكول إبداعي -  المعنونة "أبْرات" التي تضم من كل نوع أدبي بعضاً من نماذجه التي في الكثير منها طرح موضوعة الحرب. هذه الموضوعة التي جسدها في نص أدبي من نوع القصة القصيرة جداً.

   السؤال الذي طرحته في السطور الفائتة يتطلب إجابة واعية، لأنه:

- ما زال العراقيون يلبسون الملابس الخاكية، وما زال السلاح بأيديهم.

- ما زال قلم المبدع العراقي يجد إغراءً كبيراً في تناول هذا الموضوع.

- المبدع العراقي هو إنسان وطني، وما زالت الساحة الداخلية هي ساحة حرب. على العكس مما كان يراها في الثمانينيات إنها على الحدود . وساحته هذه تعكس ما في الساحة الخارجية "على الحدود" من أمور الحرب.

   لهذه الأسباب، وغيرها، نجد أكثر مبدعينا يبدعون في الكتابة عن الحرب "على مستوى الميدان الداخلي أو على مستوى الجبهة القتالية"، إن كان ذلك في الشعر، "قصيدة الحرب منذ الجاهلية والى الآن"، أو كان في القصة، "القصص التي كتبت عن قضية فلسطين أو قصص الثمانينيات". أو في الرواية، "منذ الملاحم العربية والى ألآن"، أو أي فن إبداعي آخر اتخذ من الحرب موضوعاً له.

***

ثلاث قصص قصيرة جداً هي ما ضمته مجموعة "أبْرات" – وهي كلمة أكدية بمعنى البشرية - مع ما ضمته من فنون الأدب الأخرى. هذه القصص موضوعها الرئيس هو الحرب في الميدانين المذكورين أعلاه على السواء، وهذه النصوص هي:

- الذراع المشهرة .

- عذراء بتول .

- أمنية .

   النص الأول "الذراع المشهرة" يتحدث عن استشهاد جندي في ساحة المعركة على الحدود، أي الساحة الخارجية، فيما تبقى ذراعه ممدودة و تؤشر الى السماء وهي حركة ذات مغزى.

 والنص الثاني "عذراء بتول" يقدم جثة شهيد في الساحة الأمامية للحرب، فيما عينيه تنظران الى وردة بيضاء كعروس مدللة، وهي أيضاً ذات دلالة ومغزى.

   وفي النص الثالث "أمنية" يقدم النص ابن شهيد وهو في الساحة الداخلية، يتمنى أن تجرف دمعته كل آثار الحرب لتشرق شمس طهورة ليس فيها شيء اسمه الحرب. 

   في النصوص الثلاثة هذه يوجد هناك شهيد على حدود البلد. أما أن يكون قد استشهد وهو يجلس قبالة من ينقل لنا خبر استشهاده كما في نص "ذراع مشهرة". أو أن تنقل خبر استشهاده مجموعة الإسعاف الميداني كما في نص "عذراء بتول". أو نجد آثار استشهاده في الميدان الخلفي على ابنه صباغ الأحذية الذي ما زال يبكي فِقْد والده الشهيد، والناس تمر به دون أن تصبغ عنده أحذيتها.

***

لا نريد في هذه الدراسة أن نقدم شيئاً عن الميزات الشكلية للقصة القصيرة جداً، مثل الحجم الكمي لها، وايقاعها السريع، والمفارقة، واقتصاد اللغة الذي يتميز بالترميز، والايحاء، والتركيز، وكذلك الزمان والمكان، وغيرها من العناصر الشكلية لهذا النوع السردي، وإنما نريد أن نقدم المميزات التي قدمها القاص من خلال منهجه التعبيري الذي يشمل غير هذه الميزات الشكلية، ميزات المحتوى، أو المضمون.

***

 من ميزات هذه النصوص الثلاثة أنها لم تطلق اسما على أية شخصية قصصية، والسبب في ذلك، أن النص هو من نصوص القصة القصيرة جداً الذي لا يحتمل التسمية كما يرى البعض من مبدعينا، أو أن شكل النص لا يحتمل ذلك، على الرغم من أن بعض نصوص هذا الجنس السردي قد أطلق مسميات على شخوصه إن كانت تسميات أعلام، أو تسميات كُنى وألقاب. وثانياً، ان عدم اطلاق تسمية عليهم يرمز إلى كون شهداء النصوص الثلاثة هم يمثلون الآلاف من شهداء العراق، أي أنهم نماذج قدمها القاص في نصوصه عن الشهيد العراقي.

   إذن علينا القول إن هذه النصوص قد تركت تسمية شخوصها لأنها تريد التأكيد على أن هذه الشخوص هي عامة وليست خاصة بشخوص القصص الذين ناقشناهم في هذه الدراسة، لأن كاتبها عراقي وهو مشروع للاستشهاد أيضاً.

***

ومن ميزات هذه النصوص أيضاً هو تأثيثها بأشياء غير أنسية ليرفد القاص بعداً انسانياً مضافاً لشخصية القصة.

   في النص الأول "ذراع مشهرة" يوجد هناك التراب الندي، والخبز الجني الطازج.

   وقد أثث القاص النص الثاني "عذراء بتول" بوردة بيضاء التي فتح عليها الشهيد عينيه عند استشهاده.

أما النص الثالث "أمنية" فقد كان صندوق صبغ الاحذية هو الشيء الذي أثث به القاص قصته.

   ان تأثيث هذه النصوص بهذه الاشياء اللا أنسية المراد منه ليس أنسنة الأشياء غير الأنسية، و انما لزيادة الجانب الانساني في النص للتعبير عن انسانية الانسان الشهيد المضاعفة، وقد أخذ هذا الجانب التعبيري مدى واسعاً في رمزية النص من ناحية المنهج التعبيري للقاص.

***

ولهذا فقد توافق المنهج التعبيري الذي تجسد في النصوص، والمنهج الفكري الذي كان مخزوناً في فكر القاص، وهذه الميزة الثالثة لهذه النصوص.

 ففي النص الأول أراد القاص التأكيد على فكرة ان الشهيد ما زال مرتبطاً بوطنه من خلال التراب الندي الذي يرمز الى الأرض، والسماء التي يشير لها ذراعه المشهرة. وما زال كذلك مرتبطاً بمجتمعه الذي تمثله العائلة وخبزها الطازج.

   أما ما كان من المنهج الفكري للقاص في النص الثاني هو التأكيد على كيف تتحول الأشياء عند استشهاد الانسان.

   وفي النص الثالث نجد المنهج الفكري للقاص قد جاء ليؤكد المآل الذي سيصل له أبناء الشهيد.

   أن المنهج التعبيري لهذه النصوص الثلاثة من الفن السردي الجديد/ القديم، القصة القصيرة جداً، هو كيف تربط آثاث ما كان راكزاً في فكر القاص وتصوغه في قالب لغوي معبر .

   في النص الاول عبّر عنه فكره بتراب ندي، وخبز جني طازج، وذراع مشهرة، وجمع بينها من خلال لغة معبرة مقتصدة.

   وفي النص الثاني جمع بين الوردة البيضاء التي تتحول الى وردة حمراء بسبب تشربها دم الشهيد، بلغة تتصف بما أتصفت به في النص الأول.

   أما النص الثالث فقد كان المنهج التعبيري للقاص قد جمع بين ابن الشهيد الباكي، وصندوق الأصباغ، والمارة غير المنتبهين للصبي، جمعهم كلهم من خلال لغة تتصف بما اتصفت به لغة النصين الأولين.

***

ان موضوعة الحرب ما زالت تجد لها صدى واسعاً في ما يبدعه الكاتب العراقي، ان كان على مستوى الشعر، أو على مستوى القصة بنوعيها القصيرة والقصيرة جداً، أو على مستوى الرواية، أو على مستوى المسرح، أو على مستوى الفن التشكيلي والنحت، وعلى مستوى الموسيقى والغناء.. للأسباب التي ذكرناها في بداية هذه الدراسة.

عرض مقالات: