تعد القصة القصيرة، من عداد الأشكال الأدبية الأكثر تأثراً بالبيئة العامة من حولها، شأن الرواية، وإن كانت الرواية تستطيع أن تعكس أكثر من بيئة واحدة، بالدرجة نفسها، إلا أن القصة القصيرة أقدر على الاستجابة والتفاعل مع مفردات بيئتها الخاصة، وهي بيئة القاص، التي يفتح عليها كلتا عينيه منذ ولادته الأولى، ومروراً بكل محطات حياته، وصولاً إلى لحظة الكتابة، حيث تتطبع بها روحه، وتغدو منطلق موهبته، وفضاء رؤاه وإبداعه، فلا يمكنه تجاوزها والتخلي عنها، لتصبح جزءاً من روحه، وعالمه.
أسطورة المكان
وتتجسد البيئة- أول ما تتجسد- في البيت الذي ينشأ فيه الكاتب، ومن ثم الشارع، أو القرية والحي الذي ينشأ فيه، وهي بعض الأمكنة التي سينشد- بحكم الحس الإنساني- إليها، بل إنه يكاد يجد صعوبة في الابتعاد عنها، والشعور بنوستالجيا قوية تجاهها أنى اضطر إلى الابتعاد عنها، لدواع كثيرة .وهذه المفردات بدت واضحة في نصوص حواءات أدم وغيمة شيكاغو للقاص حيدر عودة وإن اختلفت فلسفة التأويل فيها، ففي حواءات آدم كانت هناك سردية مفعمة بالهوية تغور في تشابكات تأريخية وانزياحات نفسية تسهم في تشكيل هوية النص، فالأمكنة كانت حاضرة ضمن الشريط السردي، الشطرة وسوق الشيوخ، قرية فرحان، اجواء مقهى التجّار وشارع الحبوبي، وهنا نجد أن مفردة المكان في هذه النصوص تمحورت على فكرة بناء البؤرة السردية التي تجعل من بقية مفردات النص تدور حولها وتتفاعل في أنتجة البعد الزماني، كما حدث في أسطورة القاص العراقي محمد خضير في نص بصرياثا، حيث المكان يتشيّأ سمه معرفية تسهم في تدوين الحدث. في غيمة شيكاغو وان لم يحالفني الحظ في قراءة نصوصها بل اطّلعت على بعض ما كتب عنها من قبل بعض النقاد والدارسين وحاولت أن أرسم ملامح اولية لصورة المكان فيها، فنجد مفردات مثل كاليفورنيا، شيكاغو، الكهون- حي في ساندياغو، أسماء طرق ومقاه وحانات كانت تتناثر في جغرافية سائق تكسي يتجول في سفر مكاني متنوع، اللّافت في نصوص هذه المجموعة أن المكان تخلى عن أسطوريته، وربما سائل يسأل كيف؟ ومحاولة الإجابة عن هكذا تساؤل تحيلنا إلى النبش في كيفية أسطرة المكان، فالمكان بمفهومه الجغرافي حيز بأبعاد محددة، وحتى يتم تحويله إلى مفهوم اسطوري كمدينة أور يتوجب انسنته اولاً، أي تعريف وجوديته، وأنسنة المكان يعني خلق حياة بغض النظر عن ماهية هذه الحياة، كائنات، ازمان، حكايات، تاريخ، صراع، سمات يستطيع الكاتب والقارئ أن يتفاعل معها حتى لا تكون مقطوعة، فالأمكن في غيمة شيكاغو كانت أمكنة جغرافية اكثر مما هي أسطورية كما في حواءات آدم. هذا لاينفي الجمالية السردية التي ساهمت هذه الامكنة في تشييدها. بل حضرت رموز الكاتب الإبداعية مترفة بسطوة المكان.
سطوة المكان
وإذا كنا نتحدث عن المهاد الأول، الملتصق بمخيلة الفرد، طوال الشريط الزماني لحياته، فإن هذه النقاط التي تمت الإشارة إليها، هي جزء من كل-عادة-لأن المكان هو عالم متكامل، حيث السرير مكان، والمجلس مكان، والنافذة والباب مكانان، بل قد تغدو الملابس أمكنة، والجيب مكاناً، والحقيبة مكاناً، والقبر مكاناً، عوضاً عن أن المدرسة مكان، والمكتب مكان، والمقهى مكان، والطريق مكان، والملعب مكان إلى الدرجة التي يعد فيها المكان معجماً خاصاً، بالمفردات التي لا نهاية لها .ولكن من يستطيع من هذه المفردات أغراء الشحنة الحسيّة عند الكاتب، ويستميل ذات الشحنة عند القارئ :
لنقرأ هذه الكلمات من قصة زيت الكتابة النافقة المنشورة ضمن مجموعة حواءات أدم:
ياصباحات أور الحلوة، نسيتنا الامهات فنسينا نداءاتهن عند المغيب، لكننا (نحن أبناء كوديا)، مازلنا نشم عطر الأرض لا البارود، ونخلا باسقاً، لا يشبه الصواريخ المضادة لطائراتنا الورقية، وفرات دجلة المحذوف من صورنا الفوتوغرافية ومغنين مثل نداءات لشعوب بعيدة يأتون..
من خلال هذه الكلمات نجد أن الأرض بتاريخها وعاطفتها وحميميتها فرضت عطرها على رائحة البارود، والنخلة هي الاخرى وشمت الذاكرة بمكانيتها المتجذرة في تأريخنا تجاوزت قامة الصاروخ الذي يمثل إحداثي الخوف الذي يهدد أحلامنا وطائراتنا الورقية.
ما من مكان إلا وله أثره الكبير في سيكولوجيا أبنائه، ولهذا فإننا لواجدون سطوة مكانية على ابن المكان، وإن كنا هنا أمام تدرجات في نسبة التأثير، بل ووجود إمكان تخفيف مثل هذه السطوة، وذلك بحكم دواع عديدة، منها التفاعل مع أمكنة جديدة، أو من خلال القفز على التفاصيل المكانية، وعدم الغوص فيها، والتعويض عن ذلك بتناول موضوعات يتم فيها التقليل من هيمنة المكان، لاسيما أن القصة القصيرة فضاء واسع، وإن من ضمن هذا الفضاء أشكال قصصية، يمكن بوساطتها الاحتيال على المكان، وكتابة قصة اللابيئة، حيث هي قصة بلا ملامح، وبلا علامات فارقة، وهي قصة تصلح لأن يضع عليها القاص، وهو في أية قارة من العالم توقيعه.
هوية النص من خلال المكان
وضمن هذه الرؤية- فإن المكان- يظل أداة، أو مكوناً جمالياً في النص القصصي، عصياً على الاستنفاد، في حال توافر الثيمة الإبداعية في هذا النص، انطلاقاً من مفهوم التجاوز الذي يعد-الشرط الإبداعي الأول- وهو لا يلغي الحفاظ على عنصر الخصوصية المطلوبة البتة، على اعتبار أن لهذا المكان علاماته الفارقة، كما أن لأي مكان- في المقابل- علاماته الفارقة، وتظهر مهارة الناص ونصه، من خلال التقاط غير المكرر، وغير المستنسخ، وغير المألوف، وهو ما لا يأتي-بشكل قسري- وإنما على نحو عفوي، في ظل وجود علاقة تفاعلية بين الأدوات الفنية، إذ يسجل على أي نص قصصي، غياب عنصر المكان، وإن كان التناول على درجات، وهناك قصص مكانية صرفة، كما أن هناك قصصاً يظهر المكان خلالها على نحو عرضي، وذلك وفق الرؤية الجمالية للكاتب، ما جعلنا نجد قصة يكون بطلها البحر، أو الجبل، أو الصحراء، أو غير ذلك، من المفردات المكانية التي تصلح لأداء دور البطولة في النص، شريطة توافر عاملين: تفرد الموهبة، وتوظيف المكان في سياقاته الدلالية، والتعبيرية، والجمالية، كي ينبض بالحياة.
في قصة الغياهب البكر، استطاع القاص أن ينسج موّالاً أن جاز التعبير، موّالاً سردياً دون من خلاله هوية النص بأكمله:
"كانت المسافات طويلة، وأنت تسير تطوق عنقك أعذاق رطب ( المجر)، راكضاً صوب عتبة الجنوب الاولى تستريح عند الشطآن الممتدة بيتهما"...
من خلال مفردتي (المجر) و (عتبة الجنوب) حضرت كل الأشياء، حضر الحب والالم، الفرح والقهر، الامنيات الفتية التي ترقص ضمن هالة من دموع مشحونة بالحنين.
القارئ والمكان
يتطرق الباحث خالد حسين إلى مفردة المكان التي تشكل عنصرا بارزا في العمل الفني، ويصف المكان بالمفردة التي لا يمكن تجاوزهها، فهو يعمق الصلة والتواصل بين القارئ والنص، بما يجعل القارئ يشارك الكاتب في بحثه عن المكان واستعادة الذات والهوية.. وتنبع أهمية المكان في العمل الأدبي لدوره الواضح في تجسيد رؤية الكاتب لهوية الإنسان، ووجوده القائم على الأرض التي تنبع منها هذه الرؤية، فانظر ذلك في تعدد ذكر القاص للمكان بدءا من مدينة أور وانتهاءً بشارع الحبوبي في نكهة خاصة ومتميزة كنتاج مركب لتشابك الأبعاد البنيوية، والدلالية، والرمزية، والإيديولوجية، فضلا عن البعد الجغرافي الذي يعمل على تنظيم خيال القارئ وترتيب معطيات تصوره.
وهنا تبرز مرجعية المكان ضمن مرجعية النص والعلاقة بين ثقافة المتلقي وثقافة الكاتب، فثمة وشائج تجمع الإثنين، أي الكاتب والقارئ، ويمكن تفسير هذه العلاقة بالإرتكاز إلى فلسفة توظيف الرمز المكاني، للمكان أبعاد متعددة، جغرافية، تاريخية، نفسية، تراثية. الكاتب معني بالتنبه لكيفية توظيف هذه الأبعاد كي تساهم في تأسيس أثر إيجابي لدى القارئ، فالقارئ العربي الذي لايملك فكرة واضحة عن مدينة شيكاغو مثلاً لايستطيع أن يتفاعل مع النص إذا ما أثث بتاريخية المكان وثقافته، وهذه أحدى المطبات التي تجعل من النص في حالة عزلة لقارئ معين، وهنا أستذكر بعض تفسيرات جاك لاكان للمكان التي استوقفت الكثير من كتاب القصة حول ماهية الكتابة بصورة المكان الحسية التي تجسّر الفجوة بين الثقافات، كانت تفسيرات ذات مغزى يوحي بتبني الصورة الحسية للمكان، وحينما سُئل بورخس عن حقيقة تناول مفردة المكان في الحي اللاتيني التي كان مسرحاً لاحدى قصصه، أجاب من يعيشون في الحي اللاتيني يكفيهم الوصف المشهدي، اما سكان خارج ثقافة الاحياء اللاتينية لاتعنيهم جغرافية المكان بقدر ما يفكرون برموزة الإنسانية.
وبعد هذه المقاربة السريعة عن تجليات المكان في القصة القصيرة منطلقا من قصص المبدع حيدر عودة، أستطيع القول ومن خلال مروري على بعض نصوصه الإبداعية، أن القاص تعامل مع مفردة المكان بفنية عالية واحال مفاهيم المكان إلى بؤر تشد القارئ لمفاصل النص الاخرى، أي استطاع أن يحيل المكان لمرتكز حسي وفني في آن لتتحرك من خلاله ألازمنة والتعريفات، أي استطاع أن يقدم المكان كرمز معرفي فاعل ضمن فلسفات اغترفت من التراث والتاريخ والمثيولوجيا مثلما تشبّعت بمحلية الحدث وساهمت في إطلاق النص القصصي ليتعامل مع التجارب الإنسانية المختلفة.
أحي القاص حيدر عودة على جهدة الرائع في نسج قصص جميلة مثل اغنيات تلامس فينا الحنين والأمل.
أتمنى أن نجد متّسعا أخر من الوقت في مستقبل قريب لنتكلم عن بنى إبداعية اخرى في تجربة حيدر عودة.
*مداخلة قدمت في مشيكان خلال أمسية توقيع كتاب القاص حيدر عودة يوم الجمعة 24 أب 2018